المثلث الحضاري الاستراتيجي... آفاق التعاون ومواجهة التحديات

كيف يمكن أن يشكّل التعاون بين إيران وتركيا ومصر نواة لنهضة إقليمية؟ تتناول هذه الحلقة آفاق العلاقات بين القوى الثلاث، التحديات التي تعترض طريقها، ودورها المحتمل في مواجهة مشروع "الشرق الأوسط الجديد" والتفتيت المستمر للدولة الوطنية.

نص الحلقة

 

حمدين صباحي: تحيّة عربية طيّبة، غزّة الصامِدة الباسِلة، لا زالت تعلّمنا دروساً جديدة وتُعيد إثبات حقائق قديمة مُتجدّدة. أولها: أنه لا إمكانية لاستقرار أو سلام في هذه البُقعة من العالم من دون أن يستردّ الشعب العربي الفلسطيني حقّه كاملاً في أرضه كاملة.

ثانياً: إن الصِراع على فلسطين يتجاوزها بكثير، هو صِراع على الوطن العربي والأمّة العربية التي زرعت فلسطين في قلبها لتمنع وحدتها وتستنزف طاقتها وتُبقيها رهناً لإرادة الأجنبي.

ثالثاً: إن هذه الإرادة الأجنبية في الهيمنة من قوى الاستكبار بقيادة أمريكا والكيان الصهيوني، بالدور الوظيفي الذي يؤدّيه في خدمة المصالح الاستعمارية، هي أوسع بكثير من الأمّة العربية ووطنها المُمتدّة من المحيط إلى الخليج؛ هو يريد الهيمنة على كامل هذا المشرق العربي هيمنة استعمارية، يستخدم الكيان الصهيوني أداة مباشرة في تنفيذها.

هذا المشرق معنيٌ بقَدْر ما الغزّي والغزّاوية معنيون بأمر هذه المعركة الضروس التي نخوضها ونشهد الآن أحد جولاتها الكبرى.

عندما وقف نتنياهو أمسك بخريطةٍ ومدّ خط من المحيط الهندي إلى أوروبا عبوراً =بالوطن العربي، عندما تحدّث عن شرق أوسط جديد، عندما يسترجع مقولات إسرائيل الكبرى، عندما لم يقف بعدوانه عند غزّة ولبنان واليمن وسوريا، بل امتدّ لكي يضرب إيران في عاصمتها طهران وفي كل بِقاعها، كان يُعبّر عن الحقيقة: هذا الصِراع ليس فقط حول فلسطين، فلسطين قلبه وعنوانه، لكنه حول العروبة والوطن العربي، هو حول هذا المشرق العربي بأُممه الكبرى صاحبة الحضارة التي بنتها عبر التاريخ. هذا صراع مع العرب ومع الإيرانيين ومع الأتراك ومع الكرد، كل أمّة ربطتها عبر التاريخ ثقافة وحضارة، تشاركوا جميعاً في صنعها، معرّضون جميعاً الآن لاختبار تجلّى في ضوء نيران طوفان الأقصى.

اختبار الاستقلال أم التبعية، الخضوع للهيمنة الأجنبية الأمريكية الصهيونية أم التعبير عن إرادة وطنية قومية مستقلّة تعبّر عن مصالح هذه الشعوب وتُجلي قيمة هذه الأمم وتصنع مصيراً يليق بتاريخها العظيم.

كنا نقول، وقد تعلّمنا وتثبّتنا في ضوء دروس طوفان الأقصى، أنه لا إمكانية للتقدّم في هذا المشرق من العالم من دون أن تتراصَف أضلاع المُثلّث الرئيسي فيه: المُثلّث العربي التركي الإيراني. كل جهد الاستعمار هو أن يُفكّك هذا المُثلّث، أن يحطّم العلاقة بين أضلاعه. وكل جهد وطني مُخلص، بمعيار الإخلاص للنفس، للذات، للمصلحة الوطنية والقومية، ولمُجمل هذا الإقليم، ولفلسطين كقضيةٍ في قلبه، لا بدّ من أن يتّجه اتجاهاً رئيسياً: كيف نجمع أطراف هذا المُثلّث؟ كيف تلتحم؟ كيف ننقل العلاقة العربية التركية الإيرانية إلى علاقة تضافُر وتعاون وتكامُل يؤكّد قيمة ودور وأمن واستقرار، ويصنع مستقبل هذا المشرق؟

يُسعدني أن نلتقي بكم مع صوتٍ من إيران: السيّد أمير الموسوي، الدبلوماسي السابق والمُحلّل السياسي، ومع صوت ٍعربي: الدكتور محمد السعيد إدريس، مُستشار مركز الأهرام الشهير، والدكتور عبد المطّلب إربا، المُحلّل السياسي والأستاذ الجامعي من تركيا.

أهلاً وسهلاً.

 

أمير موسوي: أولاً، أشكرك على المُقدّمة، كانت مُقدّمة تُبشّر بالخير. والحقيقة، هذه الدول الثلاث وهذه الأركان الثلاثة في المنطقة وفي الإقليم قد بَعُدَت عن بعضها البعض لظروفٍ مُتعدّدة. ولكن على ما يبدو، هناك رغبة سياسية عُليا وشعبية في هذه المرحلة، بعدما تنبّه الجميع أن الخطر يُداهمهم ولا يستثني أحداً من هذا الخطر، الكل مُسْتَهْدفون، والمؤامرة كبيرة جدّاً. الكيان الصهيوني لا يقتنع ببقعة أرضٍ مُحدّدة، وإذا سيطر على منطقةٍ يريد المصلحة الاستراتيجية في المنطقة كلها. وإذا صالح أو تفاهم أو غضّ الطّرف عن بعض الأطراف في الإقليم، فهي لمرحلةٍ استثنائيةٍ حتى يتفرّغ من بعض الدول التي ربما تُزعجه أكثر الآن، أو بعض الشعوب، أو بعض الحركات التي تُزعجه أكثر.

=فلذا، أعتقد أن هذه الخطوة خطوة مهمّة جدّاً. الكيان الصهيوني لا يتحمّل دولاً كبرى حوله، لا يتحمّل مصر العظيمة الضخمة، ولا يتحمّل تركيا، ولا يتحمّل إيران، ولا يتحمّل حتى السعودية. يريد هذه الدول، وكذلك العراق، يريد هذه الدول أن تُقسَّم وأن تكون دويلات صغيرة أو معسكرات تابعة له، حتى لا يرضى بأن تكون دولة جنبه لا يرضى بها. ولا يتحمّل حتى السلطة الفلسطينية التي تابِعة له، ونرى كيف يتصرّف مع السلطة الفلسطينية، وكيف يُهين شخصيات السلطة الفلسطينية، وكيف يدخل إلى مناطق السلطة الفلسطينية =بتصرّفاتٍ وحشيةِ وإرهابيةِ ضدّ الفلسطينيين. اليوم نحتاج إلى تواصُل، جلسات، لقاءات، تزاور، ووضع استراتيجية مُشتركة. حتى باعتقادي، بالإضافة إلى مصر وتركيا وإيران، لا بدّ من دخول دول وازِنة في المنطقة كالسعودية، كباكستان، وكذلك بعض الدول الأخرى.

أنا بتصوّري، اليوم جمهورية مصر العربية تمثّل الأمّة العربية بوزنها التاريخي والحضاري، وما تمتلكه من مقوّمات، من قوّة، من إمكانياتٍ، قُدرات، وكثافة سكانية، وموقع استراتيجي. وكذلك تركيا، تركيا الآن تمثّل الكثير من الدول التي تنطق باللغة التركية وحضارة عريقة وقديمة. وكذلك إيران، الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم تمثّل مجتمعات كثيرة في المنطقة التي تنطق باللغة الفارسية، إنْ كان في آسيا الوسطى، في أفغانستان، وباكستان، ومناطق أخرى. فلذا، أعتقد أن هذا الوزن الكبير، للأسف الشديد، نراه أصبح هدفاً سهلاً نوعاً ما بعض الأحيان للكيان اللقيط الصغير الذي وُجِد في منطقتنا ويريد أن يتحكّم بهذه المنطقة، ومن دون رادِع. لا المحكمة الدولية تستطيع أن تقف أمامه، ولا مجلس الأمن الدولي، ولا المنظّمات الدولية، ولا حقوق الإنسان. ويرتكب كل الجرائم بضوءٍ أخضر من الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. فأنا أعتقد أن الإمكانيّة موجودة ومتوافرة، ويمكن لهذه الدول الثلاث أن تكون محوراً أساسياً لتلتحق بها الدول التي تضرّرت من هذا المُخطّط الصهيوني.

 

عبد المطلب أربا: أريد أن أضيف لكلام =السيّد موسوي. في الحقيقة، ما نشاهده اليوم هو في الحقيقة ما زرعه العدو أو الكيان بالذات قبل أكثر من مئة سنة، لما رسموا حدودنا وخططوا بيننا وجعلونا وقسمونا مختلفين بيننا. مع الأسف الشديد، أكثر من مئة سنة، الأمة منشغلة بعضها ببعض، والعدو يعمل ويتنشط ويصنع، والأمة كانت نائمة ومنشغلة بعضها ببعض.

لذلك نحن أمام واقع، الأمة عاجزة، لم ترَ هذا العجز منذ التاريخ، والكيان يستفيد من هذا العجز. نحن مع الأسف لم نصنع، والعدو هو دائماً تطور وتقدم، ووجد فرصة تاريخية. الآن هناك الرأي العام الدولي، ليس فقط مسلمين، لا، هناك ملايين الناس يحتجون، يتظاهرون في كندا، في بريطانيا، في فرنسا، كل العالم. القضية المشكلة ليست فقط متعلقة بالمسلمين، لأن هذا الكيان، هذا الشعب، أصبح مشكلة على عاتق البشر ككل، لأنه يقول: أنا لست ملتزماً بهذا النابع كلما انتجه البشر من كل هذه الثورات، القيم الإنسانية، الحقوق، القوانين، وهذه المصطلحات، وحقوق الإنسان، غير ذلك أصبحت ليس لها قيمة عند هذا الكيان. إذاً، كيف يمكن أن نتعايش مع هذا؟ نحن نؤمن بالديمقراطية والحقوق، لكن مع الأسف هذا الكيان الآن لا يلتزم، ووجد أمة بهذا الضعف ويستغل، وتارة يوماً يهاجم فلسطين، سوريا، على اليمن، وعلى إيران، وكان بعدها باكستان، وبعده تركيا. نعرف علينا أن نزيل هذه العرقيات والقوميات التي تفصل بيننا، وجاء الوقت وفهمنا، ونحن أمام واقع جديد، وحقيقة يجب أن نتوحد. وعندنا الحضارة، وعندنا الثقافة، وعندنا قواسم مشتركة كثيرة تجبرنا أن نتوحد. ونحن نؤمن بالله الواحد، ونؤمن بنبي مشترك. هناك مقولة مهمة جداً: "من آمن بالتنزيل لا يكفر بالتأويل". الاختلافات البسيطة هذه كلها نتركها، وإلا مئة سنة المقبلة إذا سنخسرها. اليوم نحن أمام واقع، وفهمنا ورأينا كيف الكيان يهاجم ويقسم ويقتل ولا يهتم ولا يبالي. لذلك حقيقة كلامكم مقدمة له أهمية كبرى، علينا أن نعي ذلك، وكمسلمين إن شاء الله يجب أن نقرأ هذه الحالة وندرسها جيداً ونخطط. هناك مستويات كثيرة، نعطي مثالاً.

 

محمد السعيد إدريس: أود وضع الأمور في حجمها الطبيعي من مفهوم استراتيجي، لو سمحت لي، بعيداً عن العواطف قليلاً. نحن كمراكز بحوث وجامعات عربية، لذلك عندنا في مصر كنا نبحث عن إجابة سؤال مهم: هل هناك ضوء في نهاية النفق الذي تعيش فيه هذه الأمة؟ والأمة، بمفهومي، الأمة العربية، نحن كعرب أولاً. وكنا نبحث، فنجد أمة ممزقة، ونجد التحالف والالتحام ليس فقط بين إسرائيل والولايات المتحدة، ولكن بين إسرائيل والحضارة الغربية ككل.

فكان أمامنا أن نبحث في الصورة: أين الضوء؟ لا تستطيع أي دولة واحدة أن تتحدى هذا المشروع، هناك اختلال هائل في توازن القوى. وهذه المنطقة بمجملها الحضاري، منذ أن وضعوا الصراع: أن هناك صراعاً أيديولوجياً بين الرأسمالية والاشتراكية، ولكن صراعاً حضارياً، هنتنغتون وغيره من مفكري أمريكا والغرب، أن الصراع صراع حضارات، وأبرز هذه الصراعات هو الصراع بين الحضارة الغربية والحضارة العربية الإسلامية، بالنص. وهذا يجعل القضية ليست قضية العرب وحدهم، ولا فلسطين وحدها، فلسطين رمز لهذه المواجهة، دائماً كانت فلسطين والقدس من الحملات الصليبية رمز لهذه المواجهة الحضارية.

إيران معنية بالأزمة، مستهدفة. تركيا معنية بالأزمة، مستهدفة. العرب مستهدفون، وفي مقدمتهم مصر التي كانت تقود هذا النضال العربي في الخمسينيات والستينيات، وحدها في مواجهة كيان الاحتلال الإسرائيلي. كان في ذلك الوقت إيران الشاه مع إسرائيل ومع أمريكا، وكانت تركيا مع إسرائيل ومع أمريكا.

مصر، جمال عبد الناصر، وحدها كانت تقود هذا الصراع. كنا نرى أننا أمام مضلع له أربعة أضلاع: العرب، وإيران، وتركيا، وإسرائيل. هذه القوى الأربعة موجودة في الشرق الأوسط، دول إقليمية كبرى. مصر هي رأس هذا المشروع، وكان مطروح: إما أن العرب والأتراك يتحالفوا مع إسرائيل وترعاهم أمريكا بسلام وتنتهي القضية، ونصبح أتباعاً في معسكر التبعية، وإما أن العرب وإيران وتركيا يشكّلوا مفهوم الجوار الحضاري، الحضارة التاريخية التي أسست الحضارة العربية الإسلامية. الحضارة العربية الإسلامية التي مدت العالم بكل ما يعيشه الآن من عظمة وفكر ووعي، قامت على التقاء هذه الأمم الثلاثة: الأمة العربية، والأمة الإيرانية (كانت تسمى الفرس)، والأمة التركية. العرب وسعوا ووصلوا إلى الأندلس، الدولة الإسلامية، والأتراك وصلوا بها إلى فيينا، والفرس وصلوا بها إلى حدود الصين.

وأصبحت الدولة العباسية تمتد كل هذا الامتداد. كل هذه كانت اجتهادات، ليست لها أصداء إلا أصداء فكرية. ولكن الحرب الأمريكية الإسرائيلية على إيران وضعت النقاط على الحروف. ماذا عملت؟

أولاً: جعلت إسرائيل التي وضعت هدفاً أساسياً لها القضاء على إيران وعلى تركيا وعلى مصر، بالمفهوم الذي ذكره السيد أمير، لا تقبل بوجود دولة قوية قريبة من حدودها، يجب أن تدمر كل القوى التي يمكن أن تشكل خطرًا على الأمن الإسرائيلي، لأن هذه أمم خطيرة بالنسبة لإسرائيل. باقي الدول العربية صديقة أو حليفة مع أمريكا، وبالتالي لا خوف منها، هي ضمن المعسكر الأمريكي. إنما الدول الخارجة عن هذا المعسكر هي مصر وإيران وتركيا، يجب القضاء على هذه الأمم. وكان التفكير الإسرائيلي يقول: هذا لا بد من القضاء على الخطر الإيراني، والخطر أولاً إيران مستهدفة نتيجة دعمها للمقاومة. وكان هناك تشكيك عربي، للأسف عربي، بأن إيران ليست لها علاقة بالقضية الفلسطينية، وأن إيران ليس لديها أسلحة، وهذه اكذوبة إعلامية، سلاح إيران اكذوبة إعلامية. الآن الأمور اختلفت، ثبت في هذه الحرب أن أمريكا طرف أساسي، وليس إسرائيل فقط، وثبت أن الهدف كان ليس فقط إسقاط النظام في إيران، ولكن تفكيك إيران، وتفتيت إيران، تفتيت إيران كلها، ولا تبقى إيران دولة واحدة، تسقط الدولة وتقسم وتمزق وتنتهي. وقبل الحرب على إيران بيومين خرج نتنياهو وقال: إنه لن نسمح بقيام دولة عثمانية جديدة، كان يقصد تركيا، وكان هذا يعني أن هو انتهى من أمر إيران خلاص، والدور قادم على تركيا. نحن أمام واقع جديد الآن، يقول: أولاً، أن أمريكا تضرب عرض الحائط بالنظام العالمي، بل تسقط النظام العالمي الذي أسسته بعد الحرب العالمية الثانية، ميثاق الأمم المتحدة والأهداف النبيلة لهذا الميثاق، أمريكا ضد هذا بالكامل، والقوة تصنع الحق، مبدأ القوة التي تصنع الحق هو المبدأ الذي يحكم السياسة الأمريكية. أن هذا المبدأ يروق للقوى الكبرى، أمريكا تريد أخذ غرين لاند وكندا والمكسيك ودول أمريكية أخرى، روسيا تريد أخذ أوكرانيا، ربما ليتوانيا، دول البلطيق، الصين تريد أن تتمدد في المحيط الهادي، تايوان وما حولها، والدور على الشرق الأوسط، يقسم ويجزء ويقسم.

هل سنبقى هكذا؟ هنا السؤال: أمامنا خيارين، إما أن نتوحد ونتكامل ونتقارب لنبقى أحياء، وإما أن نسحق تحت أقدام الأمريكان. لم تعد المسألة مسألة اجتهادات فكرية، ولكن أصبحت واقعًا، إما أن نتكاتف ونتوحد، ولا أقول نتحد، أقول نتكامل ونشكل كتلة شرق أوسطية بمفهومنا نحن أو مشرقية تضمّنا نحن لمواجهة الخطر الأمريكي الإسرائيلي الذي لا يقبل إلا بسحق هذه الأمم جميعها، وبالذات الأمة العربية، ثم الأتراك، ثم الإيرانيون.

 

حمدين صباحي: إذاً الصراع أن نكون أو لا نكون؟

 

محمد السعيد إدريس: بالضبط.

 

حمدين صباحي: لو الأمر في حدود إسرائيل، كانت المقاومة الفلسطينية منفردة، كما ثبت يوم 7 أكتوبر، تزلزلها، كانت تستطيع المقاومة ومحور المقاومة من دون أي تدخل من إيران، توجعها وتستنزفها حتى تتآكل. لكن الصراع ليس مع إسرائيل، الصراع كما أشار الدكتور سعيد، الصراع مع أمريكا بكل حجمها، والغرب بكل تحيزه، وكون الصراع صراعًا حضاريًا، هذه حقيقة. الذين يعانون الآن، نحن جالسين نود إدخال شربة ماء لغزة، علينا أن نترك بسبب هواننا وضعفنا هذا، ونحن لدينا قوة أهدرناها وبددناها بالانقسام، والطرف الآخر ليس إسرائيل، هو أمريكا والحضارة الغربية بكل ما تمتلكه من تفوق تكنولوجي وانحطاط أخلاقي، ثبت في سكوتهم المروع الكاشف على الإبادة الجماعية وعلى الجرائم التي يرتكبها هذا العدو. أن يكون الصراع بهذا الحجم معناه: نحن حتى نتصدى له، لا بد، إذا كان الموضوع أن القوة تصنع الحقيقة، كما قلت، لا تصنع الحقيقة، والحقيقة هي الحق، أليس الحق عليه أن يبقى هو الحقيقة؟ إذا كان الأمر كذلك، القوة في أيدينا، إذا كان في هذا المشرق عرب وإيرانيين وترك قادرين على أن يتوحدوا، فإن هذه الوحدة كفيلة بأن ترد، ليس فقط تغول الصهاينة، وإنما الهيمنة الأمريكية. هذا الذي يحتاج أن نلقي نظرة من حضرتكم عليه بعد فاصل قصير.

 

حمدين صباحي: إذا كانت هذه الوحدة التي نأملها هي ضمانة، هي ليست للمصالح، بل شرط وجود. هذا الكلام لا يعني أننا نغمض أعيننا عن أن أطراف المثلث هذا بينهم خلافات، بعضها في مرارات تاريخية، وبعضها فيها تنافس في اللحظة حول الأدوار، وبعضها في مفاهيم تحتاج نوعًا من أنواع الحوار الجاد الذي يصل بها إلى نوع من الاتفاق، وهذا من داخلنا نحن. فضلاً عن أن من خارجنا، أمريكا وإسرائيل، ستعمل على إضعافنا، وبث الفرقة داخل هذا المشرق الحضاري بين أممه وشعوبه، واثارة الفتن وأشكال من الاقتتال. يجب أن يكون لدينا خطاب وخطة إطفاء حرائق تنظر بموضوعية، من دون تجاهل لما بين هذه الأمم في التاريخ أو في اللحظة من خلافات، ليس لتقول أنه لا توجد خلافات، لا يا سيدي، هناك خلافات، لكن هناك ضرورات للوحدة أكبر من موجبات الخلاف. لدينا يقولوا: يعمل من الحبة قبّة، من حبة الخلاف ما بين إيران والعرب أو تركيا والأمة العربية، تتحول إلى قبة، بضخ وتهويل إعلامي، يشارك فيه أطراف من أممنا الثلاثة. وطبعاً محتاج بالضرورة إلى سلطات حاكمة في الأطراف الثلاث تستجيب لهذه الدواعي التي ينبغي أن تفرض عليها سياسات مغايرة لما شهدناه طوال المرحلة الماضية؟

 

أمير موسوي: فعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم. حادثة طوفان الأقصى علمتنا أشياء كثيرة، وحرب إسرائيل مع إيران علمتنا أشياء كثيرة، حقيقة أيقظت الأمة التي كانت نائمة منذ مئة سنة، ولم تصنع ولم تنتج. وهناك مقولة للسيد أربكان، نجم الدين أربكان، رئيس الوزراء السابق: "المسلمون كانوا يشجعون قراءة القرآن والعبادة في المساجد، ونحن كنا نقرأ، والعدو يقصفنا"، مع أن هذا القرآن يقول قم وجاهد العدو واصنع السلاح أقوى منهم. لذلك هذه الحادثة، فلسطين وإيران، وحدة كلمة المسلمين، ولحمت، وأيقظت، وعلمتنا أشياء، أن الغرب كيف توحد، ونحن نعرف أن الذي يهاجم إيران ليس فقط إسرائيل، أمريكا بكل قواتها، وبريطانيا وفرنسا في المتوسط، ونعرف أن هناك 17 جهاز استخباراتي في أمريكا يساعد الموساد يومياً بالمعلومات. لذلك نحن نعرف أن الغرب هو موحد أمام الإسلام والمسلمين. لذلك لم تكن هناك مساندة إيرانية، مع الأسف الشديد، لم تكن على المستوى المطلوب. لذلك الآن حقيقة أصبح الوقت حان، الوقت ليترك المسلمون كل خلافاتهم، وسايكس بيكو قبل مئة سنة، الآن انتهى كل هذه، علينا أن نجتمع ونترك ونزيل كل الخلافات، لأن هناك خطر أكبر من هذا بكثير، لا سمح الله، كان الكيان يريد أن يزيل كل المنطقة. حقيقة نعرف أهدافه المبنية على عقيدتهم في التوسع.

 

حمدين صباحي: الأمر الاستراتيجي واضح، في المئة سنة هذه هناك نضال فلسطيني لم ينقطع منذ الـ48. في المئة سنة هذه هناك حروب متتالية خاضتها مصر وسوريا ودول عربية أخرى، هزمت وانتصرت. ما لمسته أنا: نمو ظاهرة المقاومة الفلسطينية، انتهاء بمحور المقاومة وطوفان الأقصى. لكن المشكلة أننا كنا ننهض، في حين أن باقينا نائم، وعندما يأتي باقينا ينهض، يجد من كان ينهض نائم. الأستاذ كان له تعبير عن مكر التاريخ، أن مصر التي قادت في المئة سنة الأخيرة الموجهة ضد العدو الصهيوني وضحّت، جلست وتحشد القوى، وقتها كانت إيران هي الشاه، كما تفضل الدكتور سعيد، دائماً يقول لنا هذه المسألة: إيران الشاه، في وقت ما كانت مصر تقود، كانت مع إسرائيل، وعندما أنجز الشعب الإيراني ثورته وأسس الجمهورية الإسلامية وانتقل ليكون ضد إسرائيل، في نفس سنة 79، خرجت مصر من كامب ديفيد، هذا مكر التاريخ؟

 

محمد السعيد إدريس: جميل، جميل أن يقال هذا الكلام، ليس بهذه السهولة. يبقى نحن، إذا اتفقنا على قاعدة أن الصراع الحقيقي الآن هو صراع حضاري، نحن لدينا في الشرق الأوسط ثلاث مشروعات كبرى وثلاث قوى إقليمية كبرى.

المشروع الصهيوني الإسرائيلي، وهذا يسعى للهيمنة الكاملة على المنطقة. ولدينا المشروع الإيراني، المشروع الإيراني له أبعاده الدينية، وهو مناوئ للقوة الإسرائيلية، يرفض الزعامة الإسرائيلية، ويريد أن يكون زعيماً بديلاً، لكنه أيضاً لم تكن تسعى للسيطرة الكاملة، ولكن تقوم بدور موازن، مرة مع إيران ومرة مع إسرائيل. تركيا عضو في الحلف الأطلسي، حلف الناتو، هذه أكبر قاعدة أمريكية، قاعدة أنجرليك موجودة في تركيا، ارتباط عسكري واستراتيجي مع الغرب. تركيا الآن مع الرئيس أردوغان تسعى لتكون قوة إقليمية تتجاوز دور التوازن، تكون قوة إقليمية.

إذاً لدينا ثلاث قوى كبرى، كل واحدة منها لها مشروعها، ومشروعها متناسب مع المشروعات الأخرى. يبقى الضلع الرابع الساقط، وهو الضلع العربي. ليس لدينا مشروع عربي. نحن 22 دولة عربية. عندما طالبنا بتحويل الجامعة العربية إلى اتحاد عربي، ومؤتمر سرت مشهور سنة 2010 و2011، ومشروع الأستاذ عمر موسى، ونحن في مركز دراسات الوحدة العربية والمؤتمر القومي العربي، وطرحنا مشروع سكة حديد عربية، رُفض وأُودع مشروع الاتحاد العربي. ثم دول الخليج، الملك عبد الله عندما طالب بتحويل مجلس التعاون الخليجي إلى اتحاد، انتهى إلى لا شيء. هناك إرادة أعلى، إرادة تبعية للغرب. نحن نستمع ونتخذ قراراتنا من أعلى، من جهات ترفض أن نتحد. أمريكا ترفض أي درجة من درجات التوحد والتقارب العربي. علينا أن نتخذ قراراً ونواجه مصيرنا: نكون أو لا نكون. والدول تتوحد والأمم تتوحد على أساس أمرين: إما مواجهة خطر مشترك، وهو قائم، ليس هناك خطر أكثر مما نواجهه الآن. وإما مصالح مشتركة، ونحن مصالحنا مع بعض. هذه القوى الثلاثة مع باكستان، وخلفها أمم إسلامية كثيرة: إندونيسيا وماليزيا، وقس على ذلك. هناك دعم كبير جداً، لو حصل، سنكون قوة هائلة في العالم، قوة وازنة في النظام العالمي، قوة مشاركة في تصنيع النظام العالمي. ولكن أن نبادر نحن كعرب أن يكون لنا مشروع حضاري نهضوي، نحن نعمل مشروعنا ونتوافق فيما بيننا، ولا نتصارع على زعامات، ليس هذا هو وقت الزعامات. ثم أن تطرح إيران بعد هذه الأزمة مشروعها، تحيي، ليس على أساس مشروع تسلطي إقليمي، مشروع يحترم خصوصيات جوارها، عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. تركيا لا يأتي أردوغان ويسعى أن يكون عثماني جديد ويقود عهد عثماني.

الدكتور يتحدث أنه من مئة سنة، منذ سقوط الدولة العثمانية، لأنهم هم بتركيا يعتبروا سقوط الدولة العثمانية هو النهاية. والخطر، لا نحن لدينا كعرب ثورة التحرر العربية، وقدّنا حركة التحرر في العالم في الخمسينات والستينيات، وقتاً كانت تركيا تتبع للاستعمار الأمريكي.

إذاً يجب أن نراجع أنفسنا، ويكون لدينا رؤى حقيقية أننا في خطر، لم يعد من الترف أن أتحدث عن مشروع تركي إقليمي ومشروع إيراني إقليمي أو مشروع عربي إقليمي، ولكن لدينا مشروعات قادرة وقابلة للتكامل فيما بيننا لتأسيس مشروع حقيقي في هذه المنطقة.

 

حمدين صباحي: نحن عندما نتحدث عن مثلث حضاري، هل المثلث الحضاري عندما يتوحد لن يذوب الشخصية القومية الموجودة في إيران أو لدى العرب أو عند الأتراك أو عند الكرد؟ نحن لا نبحث عن مشروع على حساب الهويات القومية، نحن نبحث عن مشروع يجمع هذه الهويات المعرضة لمخاطر، لا سبيل لإنكار أنها موجودة، ولا سبيل لفرضها، إلا بأنهم يتوحدوا.

وبعد ذلك، إيران لديها طموح، سواء تستدعيه من التاريخ أو من الحقائق، والثورة الإسلامية من حقها أن تتحدث عن نماذج تنشرها، تسمى التدخل، لكن أين السؤال؟ السؤال: أين مشروعك القومي؟ ليس على حساب أخيك وجارك التاريخي، سِر مشروعك القومي بالتعاون والتماسك والتضافر والتكامل مع بقية المثلث، وإلا سيلتهمك الرابضون في الغرب الذين هم ضد مشروعك، مهما اختلفت قومياتك.

ليس هذا بالسياق، محتاج نمط من الحوار يقفز على الخلافات ويتقدم لطرح أساليب في إطار نوع من أنواع استراتيجية جامعة واعية لتوحيد الأمة. أليس هذا المطلوب يا أخي أمير؟

 

أمير موسوي: أنا أعتقد أن الأمة العربية والإسلامية خسرت فرصة ذهبية بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 79، عندما أعلن الإمام الخميني قبل انتصار الثورة من النجف الأشرف، لما كان في المعارضة، قال: "إسرائيل غدة سرطانية في جسد الأمة الإسلامية، فلا بد من اجتثاثها". بعد انتصار الثورة الإسلامية، أول خطوة قام بها هو استبدال السفارة الصهيونية إلى السفارة الفلسطينية، ودعا المرحوم أبو عمار، واستلم السفارة بما فيها من ممتلكات وأموال ضخمة وتجهيزات معقدة، كلها سُلمت للمرحوم أبو عمار. أنا أعتقد هذه كانت فرصة، وخاصة للدول العربية، عندما تناغمت الثورة الإسلامية مع الأهداف العربية في موضوع فلسطين. لكن للأسف الشديد، لاحظنا حدث شيء خطير جداً، هو تصوير أن الثورة الإسلامية ثورة طائفية، مذهبية، أُعطي تصور مذهبي، كلما إيران تنادي بفلسطين يقول لك: هذا نداء شيعي، هذا نداء طائفي، تريد أن تسيطر على الأمة العربية. يا أخي، قضية فلسطين قضية إنسانية، قضية عابرة للمذاهب والطوائف والقوميات. لكن في إصرار في البداية أن القضية الفلسطينية قضية عربية، لا دخل للإيرانيين في الموضوع، هذا كان خطير، العالم كله يتحد ضد العرب، فكيف أنت تستغني عن قوة صاعدة؟ كان الشاه في أيام حرب 67، المرحوم جمال عبد الناصر يحارب، والشاه يدفع بالنفط والمال للصهاينة، ويمده بالإمكانيات واللوجستيات المختلفة، حتى بالأدوية والأطباء. جيد، الآن هذه الجمهورية الإسلامية أصبحت عُضّ وساعد للأمة العربية، يا جماعة، تعالوا. أتذكر السيد أحمد الخميني رحمه الله، ابن الإمام الخميني، قال للمرحوم أبو عمار: قال له: "ابقَ في هذه القوة المقاومة من دون استسلام، من دون تطبيع، من دون تراجع، من دون أي شيء، نضع لك سهم من تصدير النفط الإيراني، حصة تكون مستقلة مالياً، لا تحتاج هذا وذاك"، رحمه الله قال: "بالنتيجة، أنا في أوساط عربية أريد أن أستشير"، وذهب ولم يعد. الأجواء العربية للأسف الشديد في ذلك الوقت هناك إلقاءات غربية خطيرة وخاطئة، غرست في أذهان قيادات عربية بأن إيران خطرة، تريد تدميركم، تريد التدخل في بلدانكم، تريد تغيير الأنظمة. يا إخوان، الرسائل التي ذهبت والتواصل الذي حصل، كل هذا لم ينفع. وخاصة بعدما جيش صدام ضد إيران في ذلك الوقت، اختلفت الأمور وابتعدت الناس عن القضية الأساسية، وهي القضية الفلسطينية. أنا أعتقد هذه تجربة مرت بها المنطقة.

الآن الكل عرف: إيران، تركيا، الدول العربية، كلهم عرفوا أنهم دخلوا في أخطاء في البداية. الآن وصلنا إلى نتيجة أن الكل مستهدف. وأنا أخالف أن الدول العربية ليست لديها مشروع، الأمة الإيرانية على الأقل ترى المشروع العربي، ماذا المشروع العربي لديهم؟ مشروع، لكن يتماشى مع الرؤية الغربية، المشروع العربي الرسمي.

 

حمدين صباحي: أنت تقصد مشروع الأنظمة العربية.

 

أمير موسوي: بالنتيجة، مشروع عربي يسمى: إما تطبيع الآن، وإما محاربة المقاومة. وهذا خطر كبير. أنا أعتقد أن هذا مشروع يسمى خلافًا للمشروع الإيراني. وما حصل في هذه التجربة الماضية، أعتقد الإخوة في الأنظمة العربية كثير منهم عرفوا أن هذا خطأ استراتيجي، ولن ينجو أحد من هذا. لاحظنا أن عمر البشير والقذافي ذهبا للتطبيع، لكن ماذا حصل؟ وكذلك بعض الأنظمة الأخرى. أنا أعتقد أننا في مرحلة يمكن تجاوز هذه الأخطاء كلها، إن كان من الجانب الإيراني في أخطاء، إن كان من الجانب التركي، إن كان من الجانب العربي، تبين لنا أن الكيان الصهيوني لا يرحم أحد، وخاصة العلم الصهيوني، إعلان رسمي، لا بد أن يؤسس دولته على الأقل من النيل إلى الفرات. ليس هناك هدف للكيان الصهيوني المعلن على الأقل باحتلال تركيا أو إيران.

 

حمدين صباحي: أنت محق، لكن نحن عندما نتحدث عن مشروع عربي، بالتأكيد المشروع كما قلت مشروع الأنظمة العربية، وليس المشروع العربي، مشروع الأنظمة العربية.

 

أمير موسوي: تبلور.

 

حمدين صباحي: سار جزء منه. وبالمناسبة، القذافي لم يذهب إلى أي تطبيع، القذافي كان ضد التطبيع تماماً.

 

أمير موسوي: التطبيع ليس فقط مع إسرائيل.

 

حمدين صباحي: لم يذهب، أتحدث كواقعة تاريخية. الشعب العربي لديه مشروعه، ومشروعه كان متبلورًا بوضوح في زمن النهوض العربي، بقيادة أن مصر كانت بمحل القيادة في الزمن الناصري، لأنه هو كان في إدراك لأهمية الاستقلال الوطني، مقاومة الاستعمار والصهيونية، العدل الاجتماعي، والوحدة العربية. والتجدد الحضاري بالارتباط بالهوية الحضارية. عبد الناصر مبكراً تحدث عن دوائر ثلاث: عربي، أفريقي، إسلامي. هذه الثلاث دوائر التي كتبها عبد الناصر في "فلسفة الثورة" التي صدرت عقب ثورة 52. لذا حورب بضراوة، حروب بضراوة، لأ، وهو أيضاً كان يرى أن الحرية لكل إنسان في العالم هي حرية لمصر والعرب، وبالذات لفلسطين. وطبعاً نحن نعلم من عبد الناصر أن فلسطين عربية، لكن فلسطين قضية عربية إسلامية إنسانية بكل معانيها. والحقيقة، هذا كسب عظيم من مكاسب طوفان الأقصى، أنه أظهر إلى أي مدى يمكن أن تكون قضية إنسانية، أصحاب الضمائر في العالم الآن ممكن يختصروا قضاياهم في تعبير واحد: فلسطين، حتى لو كانوا يتحدثون عن قضايا أخرى، هذا شيء عظيم مما أنجزناه. هنا نحن نريد أن نقول: أنه هناك قرار لإيران ولتركيا، لأن إيران وتركيا لديهم نظام سياسي يعبر عن كل أمة داخل الإقليم، هذا مفقود عربياً، لأن الإقليم من المحيط للخليج فيه 22 نظام سياسي. حديثنا عن أن هذا المثلث، أتراك ولا بد أن تتضافر، يستدعي واجب عربي في أن يكون فيه موقف، ليس بالضرورة وحدة، بتنسيق عربي عربي، تطوير جامعة الدول العربية أو آلياتها، حتى ينسق هؤلاء مع الشريكان الجارين الحضاريين الذين لديهم قرار واحد في إيران وفي تركيا. ربما هنا أعود لمداخلتك الأولى، أن بعض إذا عز على الأمة العربية أن تجد نظاماً عربياً واحداً، فلا يعز عليها أن تجد تنسيقاً تُقوده الدول صاحبة الدور الرئيسي في الوطن العربي. حضرتك أشرت لمصر، وانت محق، والعلاقات المصرية الإيرانية بالغة الأهمية. أشرت للسعودية، لأن السعودية الآن طرف بقوته الاقتصادية، عليه أن يلعب دوراً في تحديد مصائر العرب، بدءاً من غزة، انتهاءً بسياق تعاونها في هذا الإقليم، الجزائر، العراق، في دول وازنة. على هذه الدول أن تلعب دوراً، إذا غاب القرار الموحد، حتى نستطيع أن نتقدم في اتجاه: كيف نصوغ علاقة في المشرق لصالح الشعوب؟

 

محمد السعيد إدريس: أرجو من الأستاذ أمير أن يحمل فكرة أن ليس هناك مشروعاً عربياً رسمياً بالمعنى الذي قيل، هذه الاجتهادات في ممارسة.

 

حمدين صباحي: هناك ممارسة وليس مشروع؟

 

أمير موسوي: قرار 2002 في قمة بيروت وحد الرؤية العربية.

 

محمد السعيد إدريس: هذا مشروع السلام، ما زال متعثراً وليس له قبول.

 

أمير موسوي: بالنتيجة، إجماع عربي، توجه رسمي.

 

محمد السعيد إدريس: أود أن أُلفت الانتباه لأمر مهم جداً، المبادئ التي تحدثت عنها حضرتك، نحن صغناها، المثقفون العرب والنخبة العربية، عملت أمرًا اسمه "المشروع النهضوي العربي"، من خلال مركز دراسات الوحدة العربية، الذي كان يمثل دور العقل العربي الحقيقي لترشيد الوعي العربي. نحن معركتنا معركة وعي بالدرجة الأولى، معركة وعي، والإسرائيليين يستخدمون مفهوم كي الوعي، جيء بمكواة نار على رأسك، تنسى كل شيء ويُغرز ما يقوم به. نحن نحتاج بعث وعي جديد، وأعتقد أن هذا البرنامج سيكون مدخلاً لمثل هذا الوعي. لدينا "المشروع النهضوي العربي"، نتحاور عليه، ونستفيد من تجربة الخمسينات والستينات التي شهدت صراعاً مصرياً سعودياً، لعبت فيه قوى دولية دوراً خطيراً، أن نسعى إلى علاقات حقيقية متطورة مصرية سعودية، نتجاوز بها ما حدث في الستينات والخمسينات، انزلق النظام العربي من القاهرة إلى الرياض، والآن الرياض في موقف مهم وخطير في قيادة الأمة، ضمن أي مشروع؟ يمكن السعودية تقود الأمة ضمن أي مشروع؟ يمكن أن يقود الخليج الأمة إلى التطبيع مع إسرائيل، الانبطاح، أم إلى النهوض؟ هذا سؤال مهم جداً. مصر والسعودية والقوى الناهضة في العراق وفي الجزائر، وفي كل الدول العربية التي لديها رؤية، أن يكون لنا مشروعنا النهضوي العربي. ولكن هذا يتطلب مجموعة أسباب:

أول شيء: إنهاء الصراع المذهبي السني الشيعي داخل كل دولة عربية، أن نلتقي على ورقة قدمها شيخ الأزهر في البحرين، هي إعادة تكوين المفاهيم، كتبها شيخها محمد به الإبراهيم حول هذا المفهوم، وقال فيها: "وحدة أهل القبلة". أن لا يُكفّر بعضنا بعضاً، ونعتبر أن الصراع السني الشيعي اكذوبة دسيسة أمريكية بريطانية. واضرب مثالاً بسيطاً: الدول العربية، علاقاتها مع إيران الشاه، هل كان تتحدث عن إيران الشيعية؟ هل كان أحد يقول: الشيعة كفرة؟ تكفير الشيعة، عندما كان الشاه موجود، كان سمن على عسل.

 

حمدين صباحي: أنت محق يا دكتور، لكن دعنا نأخذ بكلامك الذي اتفق معه تماماً، لأن وقتنا في هذا الحوار القيم انتهى. ونسمع من الدكتور عبد المطلب ما يمكن أن يكون اقتراحه الرئيسي فيما العمل؟

 

عبد المطلب أربا: في الحقيقة، يجب على المسلمين التركيز على القواسم المشتركة والاستفادة من المكاسب الواقعية أمامنا، هذا هو في الأخير، وهذا يتطلب توحيد أو تشكيل هوية مشتركة مبنية على القيم الإسلامية، والشعوب أصلاً هي متوحدة، كما قلت، متلاحمة، بعد هذه الحوادث، هي ستؤدي إلى الخير كثيراً للأمة، أنا أقول لكم: نتائجها سنراها.

 

حمدين صباحي: هذا اختصار دال يا أخي أمير؟

 

أمير موسوي: أنا أقول: إن هذا التكتل الجديد إذا حصل، أن لا نترك السعودية، أنها مضغوطة الآن لجرها إلى أعمال ربما لا تفيد العرب ولا المسلمين، برأيي، مصر ممكن أن تلعب دوراً، الجزائر، العراق، حتى تونس الصاعدة الآن، وكذلك ليبيا، السودان، هذه دول بإمكانها أن لا تسمح ولا تترك السعودية تذهب لذلك الاتجاه نحو الرغبة الأمريكية الإسرائيلية، لأنه ضغط كبير عليها في سبيل أن تُجر إلى ذلك الجانب. وأعتقد هناك تطبيعين موجودين في المنطقة: التطبيع الإجباري التي دخلت فيها مصر والأردن، والتطبيع التوعوي الذي نراه في بعض الدول. التطبيع الإجباري لم يؤثر كثيراً. لاحظنا الشعوب.

 

حمدين صباحي: ولا التطبيع الطوعي سيؤثر تأثيراً؟

 

أمير موسوي: لذا، أنا أعتقد على دول هذا المحور أن لا تسمح لدول أخرى أن تلتحق بذلك. والآن التجربة بين إيران ومصر، أعتقد تجربة طيبة، ونرى الغضب الأمريكي والإسرائيلي من هذا التقارب، يدل على أنها مؤثرة، فنتمنى أن لا تتأثر، وان تسارع في خطوات تقاربها. لأنه، في الحقيقة، أي تقارب بين القاهرة وطهران، وإن شاء الله مع أنقرة، يساعد جداً على إيجاد جبهة قوية في المنطقة.

 

حمدين صباحي: أحييك وأحييكم جميعاً، هذه أصوات متضافرة، موحدة، وإن تباينت في التفاصيل، وهدف غالي. وكما نحن معنيون باللحظة، كي تقف حرب الإبادة على غزة، ويدخل لأهلها ما يستحقون من عون إنساني، نحن معنيون بنفس الدرجة بأفق استراتيجي، جزء رئيسي فيه أن نبحث كيف نستعيد لهذه الأمة بأممها الرئيسية في هذا المشرق وحدتها، التي هي الضمانة الوحيدة لأن تصون أمنها، وتكمل الطريق لتحرير فلسطين، وتصنع لها مكاناً في المستقبل يليق بتراثها العظيم. ونحن دعونا نتذكر الكلام المكرر، لكن له دلالة: مهما كان ما تعرضنا له من مراحل تخلف أو تفريط بالأداء، فطائر الفينيق يبعث من الرماد. نحن ننادي شعوبنا أن تنهض، كما الفينيق من رمادها، لتصنع مستقبلاً يليق بحضارتها. تحية لكم، وشكراً، والمحبة.