فرض نموذج شرق أوسطي جديد بالنار والاخضاع

من قلب حرب الإبادة على غزّة، إلى حافة الانفجار مع لبنان، ومن العدوان على طهران إلى استهداف صنعاء ودمشق… لا تخوض "إسرائيل" حرب حدود، بل تخوض "معركة وجود" – كما تسميها – ولكن في مواجهة منطقة غرب آسيا بأكملها. ما بدأ ردًّا على السابع من أكتوبر، انكشف سريعًا كمشروعٍ متكامل: حرب، ثم تفكيك وتطبيع، وصولًا إلى إعادة رسم الخريطة بالنار وتحت راية واحدة. فهل تنفّذ "إسرائيل" أجندة يمينٍ متطرّفٍ منفصل؟ أم أننا أمام مخطط أطلسيٍّ قديمٍ بأدوات أكثر وقاحة؟ أين تقف القوى الكبرى؟ وماذا عن مواقف أنظمة عربية تبدو حيادية سياسيًا وعسكريًا، بينما تدعم المشروع إعلاميًا؟ وهل تنجح "إسرائيل" في فرض "شرق أوسط جديد"… أم تسقط في وحل مشروعٍ يرتدّ عليها؟

نص الحلقة

 

كمال خلف: سلام الله عليكم مشاهدينا في دوائر القرار، من قلب حرب الإبادة على غزّة إلى حافّة الانفجار مع لبنان، ومن العدوان على طهران إلى استهداف صنعاء ودمشق.

لا تخوض إسرائيل حرب حدود بل تخوض معركة وجود كما تسمّيها، لكن بوجه منطقة غرب آسيا كلها.

 

بنيامين ناتنياهو: قبل عام قلت شيئًا بسيطًا: سنُغيّر الشرق الأوسط، وبالفعل نحن نُغيّره. سوريا ليست سوريا نفسها، لبنان ليس لبنان نفسه، غزّة ليست غزّة نفسها. ورأس المحور، إيران، ليست إيران نفسها. بعد يومين من بداية الحرب قلت: إننا سوف نُغيّر وجه الشرق الأوسط، وهذا تمامًا ما نفعله اليوم، حتى وإنْ كانت هناك أيام صعبة قادمة، فستكون بعدها أيام خير وأيام قوّة. ما نفعله الآن ضدّ إيران هو بمستوى مختلف كليًّا، ويمكن أن تغيّر هذه الهجمة التاريخ، لا أن تضمن مستقبلنا وتؤمّنه فحسب، إنما تعمل على تشكيل شرق أوسط جديد مختلف كليًّا.

 

كمال خلف: ما بدأ بردٍّ على السابع من أكتوبر انكشف سريعًا كمشروعٍ متكاملٍ: حرب، ثم تفكيك وتطبيع، وصولًا إلى إعادة رَسْم الخريطة بالنار وتحت راية واحدة.

هل تنفّذ إسرائيل أجندة يمين مُتطرّف منفصل أم أننا أمام مُخطّط أطلسي قديم بأدواتٍ أكثر وقاحة؟

أين تقف القوى الكبرى؟ وماذا عن مواقف أنظمة عربية تبدو على الحياد سياسيًّا وعسكريًّا وتدعم المشروع إعلاميًّا؟

وهل تنجح إسرائيل في فرض شرق أوسط جديد أم تسقط في وَحْل مشروع يرتَدّ عليها؟

مشاهدينا، في دوائر القرار هذا الأسبوع نفتح خرائط الخطر، ونقرأ في سرديّات الحرب ما كُتِبَ بمَداد الدم وما خُطِّط في الغرف السوداء.

أهلًا بكم.

 

كمال خلف: سيُرافقنا في دوائرنا في هذه الحلقة من القاهرة الدكتور جمال زهران، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة قناة السويس، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.

دكتور جمال، حيّاك الله، أرحّب بك في دوائر القرار.

 

جمال زهران: أهلًا وسهلًا.

 

كمال خلف: حيّاك الله.

 

جمال زهران: أهلًا يا أستاذ كمال، وأنا سعيد باستضافتك والحوار معك في قناتنا المقاوِمة المناضِلة، الميادين.

 

كمال خلف: حيّاك الله. سنبدأ من الدائرة الأولى، وعنوانها: "الخطر الوجودي إلى هدف تغيير الشرق الأوسط عبر الحروب".

سنبدأ، مشاهدينا، هذه الدائرة بتقرير نحاول فيه تلخيص الأهداف ونضع يدنا في هذا التقرير على السرديّة الإسرائيلية، كيف تطوّرت؟ نتابع.

 

تقرير:

=منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لم تعد إسرائيل تقاتل – في نظر قادتها – من أجل أمن مستوطنات أو ردع أعداء، بل من أجل البقاء. وهكذا شرعت حرب الإبادة على قطاع غزّة، لكن مع امتداد الوقت وتوسُّع القتال تحوّلت حرب الوجود إلى مشروعٍ لإعادة هَنْدَسة الشرق الأوسط بالنار، وأشلاء الضحايا، ورُكام البيوت، وفق سرديّة جديدة صاغها اليمين الإسرائيلي، وتبنّاها ناتنياهو بصراحةٍ في خطاباته الأخيرة: شرق أوسط جديد بقيادة إسرائيل، لا تُعارضه قوى، ولا تهدّده كيانات، ولا تقلقه شعوب.

الخطاب الإسرائيلي لم يتوقّف عند مشهد صدمة السابع من أكتوبر، بل تمدّد وتطوّر، وانفلت من حدود غزّة إلى جبهات مُتشابِكة: الضفة، لبنان، اليمن، سوريا، وصولًا إلى لحظة اتّخاذ القرار بشنّ الحرب على إيران.

وكل جبهة كانت تُبرّر بخطر وجودي، لكنها كانت تُوظّف في سياق أكبر، هو تدمير ما تبقّى من بُنية الردع الإقليمي، وتفكيك محور المقاومة، وفرض تصوّر جيو-استراتيجي جديد على المنطقة.

ورغم شراسة الضربات، لم تحسم إسرائيل أيًّا من هذه الجبهات.

في غزّة، الحرب توشِك أن تُكْمِل عامها الثاني من دون صورة نصر.

وفي لبنان، توقّفت الحرب من دون تحقيق القضاء على حزب الله، لتتحوّل إلى تهديد ووعيد وضغط على الحكومة والمجتمع.

وفي اليمن، الصواريخ مستمرّة والمضائق بلا سيطرة.

أما سوريا، فعلى رُكامها تلوح دولة مُفكّكة تخضع للابتزاز، رغبةً في تثبيت الحُكم.

أما إيران، التي خُيّل لبعضهم أن سقوطها مسألة أيام، ها هي، بعد الضربات، لم تنكسر ولم تُسلّم.

التحوّل في الخطاب الإسرائيلي يكشف كثيرًا من أزمة الداخل: من السرديّة الدفاعية إلى العقيدة الهجومية، ومن هاجِس الردع إلى وَهْم التفوّق الساحِق.

لكن المُعضلة ليست في الخطاب وحده، بل في أن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" بات يُسَوَّق كبديلٍ عن الحسم العسكري التقليدي.

 

=السيّد حسن نصر الله: العودة إلى مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي تمّ إجهاضه عام 2006.

 

شرق أوسط منزوعة منه السيادة، مُستباحة فيه المجتمعات، ومُعاد تشكيله بهندسة القوّة العارية.

هي ليست حرب جبهات فحسب، بل هي سرديّة تتوزّع وتتمدّد، وتحاول فرض واقع جديد على الخارطة، وفي العقول والتصوّرات العميقة، لمجتمعات ودول كانت تبحث عن عدالةٍ لقضايا يُراد اليوم دفنها تحت رُكام الدمار.

 

كمال خلف: دكتور جمال زهران، من مضمون هذا المحور، هذه الدائرة، بعد سنة وثمانية أشهر من الحرب على غزّة، لم تحقّق إسرائيل ما يمكن أن نُسمّيه "النصر المُطلق" الذي أعلنه ناتنياهو في الحرب على غزّة،

رغم ذلك، إسرائيل لا تزال تتمسّك بسرديّة الخطر الوجودي.

كيف نفهم استمرار توظيف هذه السرديّة: للتغطية على العجز؟ رغبة ناتنياهو باستمرار الحرب للحفاظ على كرسيّه وائتلافه؟ أم هي غطاء لمشروعٍ أوسع وأخطر؟

 

جمال زهران: بتقديري، أستاذ كمال، كلاهما. هناك بُعد شخصي في الموضوع، لأن وقف الحرب يعني استكمال إجراءات المُحاكمة وسجنه، وخروجه من المشهد السياسي، وتفكيك حكومته، وحلّ برلمانه.

إذًا، هناك مُبرّر لاستمرار الحرب على كافة الأصعدة: استمرار الكنيست، استمرار الحكومة اليمينية المُتوحّشة، استمراره هو كشخصٍ. إذًا، هناك بُعد شخصي في الموضوع، وهذا يتجاوز الخمسين بالمئة في هذه المسألة.

أما الـ50 في المئة الأخرى، فنحن أمام مشروع استعماري مُتجدّد، ليس بجديد، ولكنه يُجدِّد نفسه بحيث إنه يحافظ على السيطرة والهيمنة.

نحن نعرف أن فكرة "الشرق الأوسط" فكرة استعمارية. المُصطلح يُلغي فكرة أن هناك منطقة عربية مُتكامِلة.

وبالتالي، أنت لديك ما قبل الـ48، كلمة "الشرق الأوسط" موجودة في أدبيات كثيرة، وفي مجلّة إسمها "الشرق الأوسط" وبريطانيا، وما إلى ذلك.

سمّوه كذلك حتى يُخْرِجوا دولًا عربية من المنطقة، ويُدْخِلوا دولًا غير عربية في المنطقة، فأصبح المفهوم مفهومًا جغرافيًّا أساسًا.

=وأيضًا أن المنطقة هذه تُعْتَبر مركز الكون، مركز العالم، كما قال ماكندر، عالِم الجغرافيا الأمريكي الشهير: "مَن يسيطر على قلب العالم، يسيطر على العالم بأسره". هذه هي منطقة القلب، فلها نصيب من القَدَر أن تبقى مكان مَطْمَع من كل الاستعماريين في مراحل تاريخية مختلفة.

النقطة الثانية: أن المفهوم تحوّل إلى مفهومٍ اقتصادي. مفهوم اقتصادي تمّ الترويج له عَقْب أحداث 11 سبتمبر، والشرق الأوسط الجديد، وهذا تبنّاه شمعون بيريز، وهو مُفكّر صهيوني، ولكن طُرِح في كتاب موجود ومُتَرْجَم ومُتاح للجميع، واطّلعنا عليه منذ التسعينات.

بعد أحداث 11 أيلول 2001 في أمريكا، وطبعًا نعرف مَن قام بها، لم يكن هناك أي يهودي صهيوني في المبنى، وأنا كنت موجودًا في أمريكا وقتها، وشاهدت الأحداث عن قُرب، وكتبت من هناك، من واشنطن، لجريدة الأهرام المصرية مقالًا كبيرًا.

=إذًا، تحوّل لمشروع اقتصادي له أربع وثائق أساسية، أول أمر خطاب بوش في حزيران 2002، ويتحدّث عن فكرة الدولة الفلسطينية وما إلى ذلك، ويُروِّج فيه أيضًا عن أعمالٍ اقتصادية، والهدف ترويض المنطقة وغيره.

ثم كولن باول، ومن ثم بوش، على مدار سنة 2002-2003، تمّ الترويج لفكرة الشرق الأوسط من منظورٍ اقتصادي ودَمْج المنطقة بمشروعٍ اقتصادي رأسمالي عالمي.

 

كمال خلف: سأتحدّث كيف تحوّل ذلك، دكتور، وكيف طُرِح المشروع بأكثر من صيغة، وبأكثر من مرحلةٍ زمنيةٍ أو مرحلةٍ تاريخية.

لأن ما تحدّث به ناتنياهو عن "شرق أوسط جديد" و "سنغيّر الشرق الأوسط" كلام سمعناه في حُقَبٍ زمنية سابقة، لكن ناتنياهو تحدّث خلال العدوان على لبنان بشكلٍ واضح، قال: نحن نُعيد تشكيل هذه المنطقة، نُعيد تشكيل الشرق الأوسط.

هنا لا يتحدّث فقط عن تحييد تهديدات، ونريد أن نُبْعِد خطر حزب الله، خطر حماس.

=هنا، دكتور، كيف برأيك تحوّل الخطاب الإسرائيلي من منطق الدفاع والخطر إلى مشروعٍ آخر، وهو هَنْدَسة مشروع إقليمي شامل؟ وهل برأيك الحروب التي تُشنّ الآن هي الأداة؟

 

جمال زهران: نقطة الانطلاق في الحديث المُتكرّر من نتنياهو حول هذا الموضوع كان "طوفان الأقصى".

نحن كثيرًا في كلامنا وتحليلاتنا نقول: إنه ليس بعد طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 ما قبله.

لم يكن يتحدث نتنياهو وعصابته وحكومته المُتوحّشة اليمينية هذه – وهو بقي 20 سنة في الحُكم – لم يرد على لسانه من قبل أن الصراع وجودي.

لا، الموضوع ما حصل في 7 أكتوبر، "طوفان الأقصى"، هزّ الكيان الصهيوني من الداخل، وهزّ الحكومة اليمينية من الداخل، وهزّ أمريكا والغرب في كل الأنحاء.

والكل جاء، ممثّلو الاستعمار والقوى الاستعمارية: بايدن جاء، رئيس وزراء بريطانيا جاء، ألمانيا، إيطاليا، فرنسا، كلهم أعلنوا دعمهم لهذا الكيان. هو كان حديثه في السرديّة الجديدة.

نحن كمُقاومين نقول: هذا صراع وجودي. كناصريين نقول ذلك: إما نحن وإما هم، ولا بدّ من تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وإزالة الكيان الصهيوني. هذا منطقنا وهذه مبادئنا.

لكنه هو، لأول مرة، يتحدّث عن أن الصراع وجودي ما بيني وبين الفلسطينيين: إما أنا وإما هم.

إما الدولة الصهيونية بمنطقه "إسرائيل الكبرى"، وبدأ الحديث يتكرّر عندما دخلت جبهة الإسناد الأولى، لبنان، على الخط. طبعًا شعر بخطر المسألة أكثر، وأن هناك مشروعًا يجب مقاومته ويجب أن أسقطه، لأنه لو لم أقاومه – هذا كلام ناتنياهو – سوف يؤدّي إلى إنهاء وجودنا نهائيًا. فشعوره بالخطر أدّى إلى تعظيم فكرة أن الصراع وجودي والمعركة صفريّة.

ولذلك، هنا كان أكثر توحّشًا وشراسَة في التعامُل مع الفلسطينيين مُمثّلين بغزّة، تعامل تعامُلًا غير مُقيّد.

في تواريخ الحروب في العالم، في التاريخ العسكري، لم يكن هناك توحّش وتدمير بُنى بهذا الشكل، وتدمير بشر بهذا الشكل، وقتل عًمْدي وإبادة بشرية وإبادة جماعية بهذا الشكل المُتوحّش.

فكلامه هنا وجودي. بدأ يشعر بالخطر من ظهور حزب الله في المشهد، وسماحة السيّد حسن نصر الله، قدّس الله روحه، كان له كاريزما وخطابه يشاهده الجميع ويسمعه، كعبد الناصر في الماضي، الناس تتابعه.

فبدأ خطاب السيّد حسن نصر الله يُهدّد وجود الصهيوني بالكامل، فبدأت هنا المخاطر ترتفع، والتنسيق يزداد.

السرديّة الجديدة: إننا نحن في خطرٍ وجودي، ويجب أن نجمع الجهود. آلية الحرب هنا، طبعًا، بالأوراق والدراسات لديهم موجودة.

إسقاط سوريا؟ هم منذ العام 2011 يعملون في مشروع إسقاط سوريا وبتمويلٍ خليجي كما نعلم.

ماذا يفعل هو؟ يجب أن يفتح حتى يضرب الجبهة اللبنانية، ويُخْفِّض من تأثير قوّة حزب الله في المشهد، ويُقلّل من الخطر الوجودي بالنسبة له. كان يجب أن يصعّد الملف السوري، والأزمة، والمؤامرة تعمل.

وهنا، هو قال يوم 26 نوفمبر، يوم وقف إطلاق النار بقرار بايدن – لنركّز على التواريخ ومَن الذي أصدر القرار – نتنياهو لم يوافق على وقف إطلاق النار، الذي أصدر قرار وقف إطلاق النار فجر 27 نوفمبر هو بايدن.

وفي اليوم الذي سبقه، خرج وهدَّد بشّار الأسد، وقال له: نحن يا بشّار ممكن أن نصل إليك ونعمل ونقتل ونغتال.

في اليوم الثاني مباشرة فتح الملف السوري، المؤامرة السورية يسيرون بخطوات.

 

كمال خلف: هو مُخطّط، لكن بالمقابل، دكتور، إسرائيل حتى هذه اللحظة لم تحسم أيّ ملف.

إذا تحدّثنا عن غزّة، المقاومة تتصاعَد في غزّة. وإذا تحدّثنا عن لبنان، لم يتحقّق هدف القضاء على حزب الله، بالعكس، حزب الله يُعيد الآن ترميم نفسه مرّة أخرى.

اليوم هدّدوها واعتدوا عليها، لكن صواريخ اليمن تصل.

هنا السؤال، دكتور: هل هذا "عدم الحسم" يمكن اعتباره فجوة بين المُخطّط، بين الرغبة وبين القُدرة؟ بمعنى: أن هناك مُخطّطًا، لكن لا يستطيعون حتى الآن تنفيذه؟ أم أن "إدامة الفوضى" – ما يحصل الآن من عدم الحسم وترك الملفّات مفتوحة – هو الهدف بحدّ ذاته؟

 

جمال زهران: لا، هو كما قلت حضرتك: بين الرغبة وبين القُدرة.

الرغبة، هو حدَّد خريطته في الكنيست: "إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات". هذا هو حلمهم، وليحلموا كما يشاؤون، وليتحدّثوا كما يريدون.

لكن الفكرة هي: هل لديهم قُدرة أن يضربوا إيران، وباكستان، ويضربوا السعودية ومصر؟ مَن يمتلك هذه القُدرة؟ أمريكا، الدولة الكبرى في العالم عسكريًّا، لا تستطيع فَتْح جبهات.

=روسيا نفسها، أحد الأسباب التي أدّت لعدم التدخّل لحماية سوريا وإنقاذ سوريا من المؤامرة الأمريكية الصهيونية التركية، هي أنها تقاتل في أوكرانيا، تخوض معركة في أوكرانيا. الدول الكبرى تحسب حساب.

هذا الرجل الفوضوي يريد أن يفتح كل الملفّات، كل الجبهات، في وقتٍ واحد، ويريد أن يفتخر أنه أساسًا يعمل على سبع جبهات: في غزّة، والضفّة الغربية، وجنوب لبنان، وفي سوريا، واليمن، ويفتح جبهة إيران مُجدّدًا. معنى ذلك أنه يريد أن يتباهى.

نحن نعرف أن الثابِت في الاستراتيجية الصهيونية هو أن "إسرائيل"، الكيان الصهيوني، لا يستطيع أن يُحارب على جبهتين. ولذلك الفتنة حصلت في حرب أكتوبر.

يجب أن نعود للتاريخ: حرب أكتوبر، الفتنة حصلت بين مصر وسوريا، وهذا أدّى إلى وقف الحرب بعد أيام قليلة. هذا معناه: إما تحارب على جبهة مصر أو جبهة سوريا.

حتى الوحدة بين مصر وسوريا ضُرِبَت، لأنها كانت تمثّل كمّاشة حول رقبة الكيان الصهيوني، فيجب قَفْلها. كل ما هو يقود إلى فتح أكثر من جبهة أمام الكيان الصهيوني يتمّ ضربه. الآن، هو فتح جبهات كثيرة.

القُدرة، هنا السؤال المهمّ، والنقطة التي أشرت حضرتك لها، هو لديه رغبة. لديه رغبة بتدمير العالم، وهو يجلس – نتنياهو – يكون حاكِمًا للعالم، وحاكِمًا لأمريكا، وكل أمر. لكن، هل لديه قُدرة؟ هل لديه إمكانية؟

 

كمال خلف: يواجه حتى الآن مقاومة؟

 

جمال زهران: أستاذ كمال، لو استمرّت الحرب الإيرانية أسبوعًا واحدًا إضافيًّا، كان سقط الكيان الصهيوني وإسرائيل تمامًا وانهارت تمامًا، لولا التدخّل الأمريكي.

إذًا هو يستند في معركته وفي توسيع الجبهات التي يدخلها إلى القدرة الأمريكية.

حساباته على القُدرة الأمريكية والأوروبية معه، لو لم يكن كذلك، استحالة هذا الكيان أن يستمر في معركة مع الدولة الإيرانية، جمهورية إيران الإسلامية، أسبوعًا أيضًا.

 

كمال خلف: عندي سؤالان، دكتور، في هذه الدائرة، قبل الانتقال إلى الدائرة الثانية في "دوائر القرار".

موضوع إسرائيل هاجمت قوى ودولًا في هذه المنطقة، وقوى عسكرية ودولًا تقف في وجه مشروعها،

لكن أنت تلاحظ، دكتور، وأنت مُتابع مُمتاز لما يجري، بأن الأمر يبدو أبعد من المواجهة العسكرية في المعركة الحالية، فهنالك دخول إسرائيلي غربي عبر أدوات كثيرة، منها أدوات محلّية، إلى عُمق المجتمعات العربية، نحو التصوّرات داخل هذه المجتمعات الثقافية، والاجتماعية، والتعليمية، ومحاولة إعادة تشكيل الهوية والسرديّة في كثير من المجتمعات. هنا، مدى خطورة ما نواجهه الآن؟ صحيح أمريكا غزت العراق، صحيح شنّوا حروبًا كثيرة في الماضي، لكن المجتمعات حافظت على تصوّراتها، وعلى مُعتقداتها، وعلى هويّتها، وعلى ثقافتها، والدليل مصر، مصر شُنّت عليها حروب 56، 67، وشنّت هي حرب أكتوبر، واتفاقية كامب ديفيد بعدها، الهوية المصرية، بقي الشعب المصري مُتمسّكًا بكل آرائه ومُعتقداته وتصوّراته. اليوم نرى هناك شيء مختلف، هناك دخول فعليًّا إلى عُمق المجتمعات. كيف ترى ذلك؟

 

جمال زهران: في الحقيقة، لو نحن لاحظنا، آخر المعارك مع إيران، كان قد تمّ تجهيز أدوات في الداخل الإيراني، بحيث إنه إذا لم يستطع إسقاط النظام، على الأقل يسقط القُدرات النووية وما إلى ذلك.

كان له مشروع من خلال عملاء موجودين ومُدرّبين، ولديهم إمكانيات، وتمّ التهريب. هذا مشهد لا يجب أن ننساه. لكنه لم يستطع ترويض أو تطويع المجتمع الإيراني، لأنه مجتمع عقيدي أساسًا، ولذلك استطاع أركان الحُكم، بقيادة سماحة السيّد الخامنئي، أن يجمع الشعب كله، وأصبح بالنسبة له هو الظهير الشعبي لمُجابهة هذا العدو الصهيوني الغادِر.

أما المشكلة فكانت في بعض الدول العربية، والنُظُم العربية التي فرًّطت بشكل كبير جدًا، وأوصلت هذا التفريط ونقلته من النظام إلى المجتمع.

عندما نرى مثلًا دولة كالإمارات، لديها تطبيع ومشروع إبراهيمي، وعملت معبدًا للأديان، واعتمدت الدين اليهودي، الدولة تفرّط في هويّتها، بالتالي كان الأمر رخيصًا.

 

كمال خلف: دكتور جمال، هذا قرار دولة، إمارات أو غير إمارات، هي قرّرت ذلك، أن تذهب بهذا المسار. لكن، اليوم، مثلًا، على سبيل المِثال، هناك ثقافة يُحاولون فرضها على المجتمعات، مثل الحرب مع إسرائيل لا تأتي إلا بالدمار والدماء والتخلّف والتراجُع الاقتصادي... إلخ، السلام يأتي بالازدهار والتنمية، نستطيع أن نلتفت لمجتمعاتنا ونترك إسرائيل تفعل ما تريد، موضوع السيادة واستعادة الأرض، فلسطين، قضية صفريّة، لا نستطيع، علينا أن نهتمّ... 

هناك جُملة، أنا أعطي أمثلة، هناك جملة من التصوّرات بدأت تُدْخِلها إسرائيل والغرب والولايات المتحدة إلى عالمنا العربي أسُسها هو "التّيئيس"، وأن كل ما كنتم تؤمنون به أصبح باليًا، فكّروا بالقيادة الإسرائيلية للمنطقة العربية، أفضل.

 

جمال زهران: هنا، عندما تكون المجتمعات قوية، كمصر مثلًا، مجتمع قوي من الداخل، له أركان وثقافة وله تاريخ 7000–8000 سنة، فلما عمل "كامب ديفيد"، لم يستطع الكيان الصهيوني أن يخترق المجتمع المصري، إلا من خلال أشخاص معدودين، يلعبون دورًا في مسألة دعم التطبيع وما إلى ذلك.

لكن، حتى على المستوى الرسمي، الدولة المصرية غير قادِرة على أن تفرض التطبيع على المجتمع.

هناك دول أخذت مثل هذه المقولات، وسوّقتها لدى شعبها، خصوصًا دول الخليج، أصبحوا خطرًا كبيرًا جدًا على الهوية، فقبلوا تغيير هويّتهم.

لكن هذه الثقافة يتمّ الترويج لها، ويتمّ التسويق لها في دول ضعيفة من حيث الهوية.

لكن، في الدول القوية، أقول لك مثلًا: سوريا، هل لا يوجد كلام أنه سيحصل ويحصل تبادُل، وأن أحمد الشرع سيُبْرِم اتفاقية مع إسرائيل والكيان الصهيوني؟ أنا أتحدّى أن تكوين الشعب اللبناني والسوري، الذي هو الشامي الأصيل، وفلسطين نموذج، لن يستطيعوا اختراق هويّتهم ولا هَدْمها.

 

كمال خلف: بهذا التوقّف، دكتور جمال، سأتوقّف هنا في الدائرة الأولى، حتى نعدّل الوقت بين الموضوعات والعناوين، وأنتقل إلى الدائرة الثانية، مشاهدينا، عنوانها: "بين إسرائيل الأداة والغرب صاحب المشروع وتوازنات الإقليم".

=في هذه الدائرة، مشاهدينا، سنطرح سؤالًا مركزيًا: هل هو مشروع إسرائيلي صَرْف فعلًا، أم هو هَنْدَسة أطلسية بأداة إسرائيلية؟

سنتابع هذا التقرير، يحاول أن يُجْمِل هذا العنوان، ثم نعود إلى ضيفنا.

 

تقرير:

هل ما نشهده اليوم مشروع إسرائيلي صَرْف، أم نسخة جديدة من مشروع استعماري أوسع، تتقدّمه تل أبيب وتُخطّط له العواصم الكبرى؟

=السؤال لم يعد تَرَفًا تحليليًا، بل هو مدخل إلى فَهْم طبيعة التحوّلات في المنطقة، ومعنى أن تُعاد صياغة الشرق الأوسط، لا بخرائط، بل بحروبٍ وتطبيع وتفكيك للهويّات.

اليمين الإسرائيلي يرفع شعارات السيطرة والتفوّق والقيادة الإقليمية، لكنها ليست منفصلة عن تراثٍ سياسي غربي، لطالما رأى في المنطقة مجرّد مسرح نفوذ، لا شراكة ولا سيادة فيه.

من سايكس–بيكو، إلى الفوضى الخلّاقة، إلى "الشرق الأوسط الكبير"، ثم "الجديد"، تتكرّر الفكرة نفسها بلوغ جديد: تفتيت ثم إعادة ترتيب، تحت صوت الهيمنة وبأدواتٍ محلية.

إسرائيل ليست صانعة الفكرة، بل مُنفّذتها الأكثر حماسة، أما العقل المُحرّك فما زال يتحدّث بلغة استعمار حديث، يختبئ خلف شعارات الأمن والاستقرار.

فبعض الأنظمة في المنطقة، بوَعي أو من دونه، تُسهم في مشروع الهدم الشامل، ليس للجغرافيا فقط، بل للهويّة والقرار والسيادة.

وقد قال العرب قديمًا: "إن للشيطان طَيْفًا، وإن للسلطان سيفًا".

تصطدم القوى المركزية في المنطقة بتحدياتٍ آخذةٍ في التصاعُد: مصر، بثقلها التاريخي، تعيش مأزق التوازن بين دورها التقليدي وضغوط الواقع الاقتصادي. أما تركيا، فتمارس سياسة البراغماتية الحَذِرة، على إيقاع التنافُس الإقليمي والمصالح الدولية. السعودية تمشي على حدّ السيف، بين حُلم الهيمنة الخليجية ومخاوِف الانفجار الإقليمي.

في المقابل، القوى الدولية المُناهِضة للهيمنة، كروسيا والصين، لم تتجاوز حتى الآن عتبة التوازن، تقف على تخوم الاشتباك، من دون أن تبدو قادِرة على صياغة مُعادلات واضحة.

ليس جديدًا أن يُعاد ترتيب الشرق الأوسط من خارج أهله، ليست مُتعلّقة بحُسني مبارك، لكنه اليوم يُعاد بأدوات الداخل: بأنظمةٍ مأزومة، ونُخَبٍ مُروَّضة، وشعوب مُثْقلة باليأس.

إنه مشروع لا يكتفي بإسقاط الدول، بل يهدف إلى ترويض أجيال، وتحويل الشعوب من قوى فاعِلة إلى كيانات مُسْتَخْدَمة، مشغولة بلقمة العيش وإعادة الإعمار، لا برفع الظلم ورايات الاستقلال والتحرّر.

فإذا استُعبد الأحرار في وطن، ففي أسرهم ميتةُ الأحرار تُكرَم.

الولايات المتحدة هي التي بدأت هذه الجريمة في غزّة، واليوم، أمريكا هي مَن تريد شراءنا بالمساعدة. نحن سنبقى تحت الحرب، أفضل من أن ترمي لنا مساعدة.

 

كمال خلف: دكتور، السؤال المركزي في هذه الدائرة: نحن أمام مشروع إسرائيلي صرف، الدول الغربية ربما تدعمه لأنها تدعم إسرائيل تقليديًا،

أم نحن أمام مُخطّط غربي أطلسي، إسرائيل هي مَن تقوم بتنفيذه بالقوّة العسكرية، اعتمادًا على ما قاله نتنياهو أمام الكونغرس في خطابه الشهير: "أقول لكم ما قال تشرشل: أعطوني الأدوات وأنا أنفّذ المهمّ"؟

 

جمال زهران: أستاذ كمال، أنا من سنوات طويلة وأنا أتحدّث على أن الكيان الصهيوني هو مشروع استعماري كامل، من مئة سنة يتمّ الترتيب لذلك، كان الاستعمار الإنكليزي الفرنسي الأوروبي موجودًا في المنطقة، يسيطر على المنطقة، كانت الدولة العثمانية موجودة وهناك صراع، حصلت الحرب العالمية الأولى والثانية، ثم عندما خرجوا، كانوا يرتّبون للمستقبل، أنه "نحن لو خرجنا كاستعمار، مَن الذي سيحلّ مكاننا حتى نسيطر على المنطقة"، وهي قلب العالم، هذا القلب، فلو نحن ذهبنا، تبقى مناطق التجارة والممرّات التجارية، قناة السويس، باب المندب، هرمز، إلخ...

المُحيطات المفتوحة، هذه ستتمّ السيطرة عليها من قوى مُنافِسة، وهو يريد أن يُبعد الوجود الآخر ويستمر بسيطرته على المكان.

هنا، أمريكا ورثت الاستعمار بعد 56، وانكسار القوى التقليدية بريطانيا وفرنسا، ومعهم الكيان الصهيوني وقتها، من بعد معركة تأميم قناة السويس والسيطرة المصرية على هذا الممرّ المائي القوي والمُتميّز وفي قلب العالم.

انكسروا، فسلّموا الملفّات كلها لأمريكا. أمريكا، بعد نشوء الكيان الصهيوني سنة 48، وبقرارٍ غير شرعي، وبـ50 دولة فقط لا غير في الأمم المتحدة التي تضمّ الآن 194 دولة، ليس لديها غالبيّة، حتى إن كل القرارات تصدر ضدّ الكيان الصهيوني، وهذه دولة مارِقة، يستوجب طردها من الأمم المتحدة، لكن لا توجد إرادة دولية.

المهمّ، نحن أمام وريث استعماري جديد، هو أمريكا، ورثت الكيان الصهيوني، وأصبحت مسؤولة عنه، وأن غطاء التأييد هو أوروبا. إذًا، الوظيفة الاستعمارية للكيان الصهيوني هي: منع هذه المنطقة أن تقع تحت أيّ طرف آخر، منع وحدتها، لأنه في الوحدة تقدّم، منع تقدّمها.

يصبح هنا الكيان الصهيوني أداة استعمارية لتنفيذ هذا المُخطّط الاستعماري.

إذًا، الكيان الصهيوني ونتنياهو وعصابته، بالشكل الذي يُديرون به الحُكم، ويتصوّرون أنها "واحة ديمقراطية"، وهذا الكلام الفارغ، يقودنا إلى أن الوظيفة الاستعمارية هي الأساس بالنسبة لهذا الكيان.

=أمريكا، في ظلّ استراتيجيّتها المُتعدّدة، لمَن يدرسون استراتيجية أمريكا، أمريكا تضع استراتيجية كل عشر سنوات عن طريق مراكز أبحاثها، ونحن على متابعة واطّلاع عليها.

تقول، ماذا تقول؟ يجب أن أسيطر على هذه المنطقة، يجب أن أكون المركز.

المركز في واشنطن هو العقل الذي يُدير مصالحها على مستوى العالم، والآخرين توابع.

نظرية المركز والتوابِع. التوابِع هؤلاء يجب أن يكونوا النُظُم العربية: نروّضها، نُسيطر عليها، نجعلها تحت السيطرة.

من هنا سقطت الدول تِباعًا. هنا تسقط لصالح المشروع الاستعماري، وليس لصالح الكيان الصهيوني.

لديهم استعداد للتخلّي عن الكيان الصهيوني إذا رأوا بديلًا آخر في أية لحظة. لأن هنا الكيان الصهيوني مُتغطٍّ بعقيدة صهيونية تلمودية، كلام فارغ، هذا غطاء ويُبرّرون به وجود الكيان الصهيوني.

أنتم وجدتموه، لماذا وجدتموه؟ بسبب الخ... العقيدة الصهيونية.

إذًا، المركز والتوابِع، أسْقِطوا.

أول إسقاط نحن نعاني منه حتى هذه اللحظة هو إسقاط مصر في براثِن التبعية لأمريكا، من كامب ديفيد، ومنذ تلك اللحظة خرجت مصر من ممارسة الدور القيادي في المنطقة، وبالتالي سمحت للآخرين. هنا، المسار الاستعماري شغّال.

أسقط بغداد، أسقط الجيش العراقي، وصل لسادس أفضل جيش في العالم، وجعل صدّام حسين يتخبّط بقراراته، إلى أن تمّ تقييده، وحرب 2003، وإعدامه مستفزًا كل مشاعر المسلمين، إعدامه على الملأ في عيد الأضحى.

وبعده إسقاط سوريا. الجيش السوري سنة 2006، في دراسة علمية موجودة في مركز دراسات الوحدة العربية، تقدّم على قُدرات جميع جيوش المنطقة، وكان يجب أن يتمّ الترتيب لإجهاضه وتدميره، لدرجة أنه وصل للقوّة السادسة بعدما تمّ تدمير العراق.

الآن الخطورة على الجيش المصري والدولة المصرية أن تُصاب بالتبعية.

 

كمال خلف: لكن هنا، دكتور، الخطورة على مصر طبعًا أمر يلمسه المُراقب، لكن، دكتور، هنا في المشهد الحالي: الدول الغربية صاحبة المشروع، إسرائيل هي المُنفّذ، الأداة لهذا المشروع، لكن ما نراه الآن، وكأن وظيفة إسرائيل وحدود دورها تتغيّر، لأنه في المشهد، تبدو إسرائيل ليست رأس الحربة فقط في المشروع، إنما أيضًا مُهَنْدِسة، أو شريكة في هَنْدَسة هذا المشروع. وكأنها المُهندس المباشر للمشهد. هذا حقيقي؟

 

جمال زهران: أنا مختلف معك، أستاذ كمال. ليست لا مُهندسة ولا أي أمر.

هذه عقول صهيونية موجودة في داخل أمريكا، هي التي تُرتّب لكل هذه الترتيبات، وتدفع نتنياهو إلى صدارة المشهد، وأنه مَن يفعل، وكل هذا الكلام، كلام لا أصل له في الحقيقة.

هذا دورنا نحن كأساتذة علوم سياسية، وعُلماء في هذا المجال، أن نتتبّع الأصول.

الأصول استعمارية. يأتي نتنياهو، يُخْرِج المشهد أنه معه خرائط ويريد تنفيذ مشروع، وأن كل الدول تكون تحت أمره، وهو الحاكم الآمِر الناهي.

لكن بكلمةٍ، وبمُكالمةٍ هاتفيةٍ من الرئيس الأمريكي، يُنهي هذا في أية لحظة.

مَن الذي أوقف الحرب بين إيران والكيان الصهيوني؟ قرار أمريكي، ترامب.

إذا لم ندقّق في كيفيّة صدور هذه القرارات من أمريكا، كانت إسرائيل على بوابة الانهيار الكامل خلال أسبوع، لولا التدخّل الأمريكي.

 

كمال خلف: نحن الآن، دكتور، في هذه اللحظة، نحن أمام محاولة هَنْدَسة شرق أوسط – بين قوسين – لأنك في بداية الحلقة قلت: هذه المنطقة منطقة عربية، وفي مُصطلح غرب آسيا: العرب وغير العرب في هذه المنطقة. لكن "الشرق الأوسط"، هَنْدَسة الشرق الأوسط بشكل مباشر، دكتور، هو يمكن وصفه بأنه إبن أو يخرج من رَحْم الموروث الكولونيالي الاستعماري التقليدي، ونسخة مُحدّثة عمّا واجهته المنطقة من "سايكس بيكو" وهذه المشروعات. نحن أمام هذا الأمر فعلًا اليوم؟

 

جمال زهران: نحن أمام إعادة هَنْدَسة الإقليم، لصالح المزيد من النفوذ والقوّة، لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها المُسْتَعْمِر الجديد في العالم، والمُسْتَعْمِر الأقوى، وهو يحاول قَدْر الإمكان أن يُحكم سيطرته على الإقليم، من خلال توابعه، ومن خلال ترهيب، ومن خلال مشروعه وتصوّراته.

ضرب العراق، ضرب سوريا، تطويع الدول الخليجية كلها تحت أمره.

نتنياهو، هذا عامل، كما عندنا في المناطق الشعبية في مصر، هناك بلطجي تبع الفتوة. هناك فتوّة يكون مُسيطرًا على المكان، وهو يُدير المكان في منطقته، ويكون بعض البلطجية يأتمرون من قِبَله. نتنياهو هو البلطجي الذي يُنفّذ دور الفتوّة العالمي. الفتوّة لديه قُدرة عسكرية. هو فشل. حتى تعلم، هم فشلوا في كل الأدوات السابقة.

كانوا يريدون فرض مشروع اقتصادي، تغلغلوا في النُظُم العربية، تدخّلوا في رَسْم مناهج التعليم، تدخّلوا في أن السوق الحرّة، والنظام الرأسمالي، هو المُهَيْمن على المنطقة، لا وجود لأية تيّارات سياسية راديكالية أو اشتراكية أو ما إلى ذلك.

إذاً إعادة هندسة الإقليم، هذا مضمون المشروع الاستعماري الجديد، بحيث إن مَن سيخرج عنه سيناله من "البلطجي".

 

كمال خلف: نقطة أخيرة دكتور كمال في هذه الدائرة، موقف القوى. في التقرير أوردنا ربما أحوال قوى أساسية: مصر، تركيا، السعودية في المنطقة.

في محور مقاومة: إيران وقوى مقاومة، حركة حماس، الجهاد، حزب الله، أنصار الله، إلخ.

لكن أيضًا في دول ما يجري يعاكس ويخالف مصالحها وأوزانها ومُعادلة الشرق الأوسط أو مُعادلة المنطقة العربية وغرب آسيا بشكل كبير، نتحدّث عن قوى لها وزنها في المنطقة.

هنا، هل نحن أمام صمت استراتيجي؟ مُراقبة ما الذي يجري؟ شراكة في المشروع؟ خوف على الداخل أن ترتدّ هذه النيران لتُصيب داخل هذه الدول؟ ما الذي يُفسّر السلوك بالضبط؟

 

جمال زهران: بتقديري، لو عدنا للتاريخ، وهو معمل التجارب البشرية وأداة من أدوات التحليل السياسي المهمّة.

سنة 2002، بعد أحداث 11 سبتمبر التي عُمِلَت لإحكام الدور القيادي العالمي للسيطرة على العالم، وتأجيل فكرة تفويض أمريكا، وإيجاد نظام دولي مُتعدّد، فحدثت أحداث 11 سبتمبر، ولي دراسة حول هذا الموضوع.

من 2002 وحتى الآن، 2025، 23 سنة، كان المشروع المطروح من جانب بوش هو أن تسيطر على المنطقة، ويتحدّث عن قوى الشرّ، محور الشرّ، بوش صاحب نظرية محور الشرّ.

=محور الشرّ فيه: العراق، وكوريا الشمالية، وإيران.

القوى الثلاث هذه يجب، في المشروع الأمريكي الاستعماري، أن يتم ّتقويضها.

هم نجحوا في العراق، ولم يستطيعوا إخضاع إيران، ولا كوريا الشمالية.

كوريا الصغيرة هذه أذلّت الغرب، وأذلّت ترامب في الفترة الأولى، وأرغمته على الحضور إليها، ويلتقي بها على الحدود، ولم يتخلّ عن مشروعه النووي، وبدأت دولة نووية، وفي المُربّع النووي، رغم أنف الغرب، وأمريكا بالذات.

إذاً، لدينا تواطؤ إقليمي. بعد 23 سنة، ماذا فعلوا؟ جاؤوا للتحرّش بإيران، الدولة الثانية في محور الشرّ، وتوابعها. لديهم اعتقاد أن محور المقاومة هذا هو تحت السيطرة الإيرانية الكاملة. فعندما يضربون إيران، يكونوا قد ضربوا كل المحور.

كيف سيعمل المحور من دون إيران، من دون دولة قوية؟ وخصوصًا أن هذه ليست تعاونًا بين النُظُم الحاكِمة، بل هذه دولة داخلية، نُظُم داخلية، سمّها جيوش غير رسمية، لا نُسمّيها كما يُشاع في الإعلام – كلام فارغ – ميليشيات، وعصابات. هذه جزء من إرادات الشعوب. حزب الله ليس تعبيرًا عن مجموعة أفراد، بل تعبير عن ثلث المجتمع اللبناني.

 

كمال خلف: هذا خيار؟

 

جمال زهران: وبالتالي، لا يستطيع أحد التجرّؤ عليه.

كذلك اليمن، نفس الأمر، تحكم نصف اليمن.

إذاً نحن أمام فكرة التحرّش هذه يجب أن نقف طويلًا، يا أستاذ كمال، أمام حرب الـ12 يومًا. وحاليًا هناك دراسات وناس تعمل، نحن كأساتذة علوم سياسية نعمل.

 

كمال خلف: تأثيرها وتداعياتها.

 

جمال زهران: الـ12 يومًا هذه، أساس هزيمة المشروع الاستعماري الأمريكي في المنطقة، وهزيمة نتنياهو.

 

كمال خلف: سأتحدّث عن ذلك، وسنتحدّث عن المستقبل، دكتور، في الدائرة الثالثة التي عنوانها: شرق أوسط خاضع أم فشل وارتباك مُدوٍّ.

السؤال الرائج، دكتور جمال، في هذه الأيام: ماذا لو نجحوا؟ هناك نظرة مُتشائمة نوعًا ما تقول: إن إسرائيل إذا نجحت، سندخل "العصر الإسرائيلي"، المنطقة العربية لأول مرة بتاريخها. لو نجحت، نحن أمام دول وطنية ستتحوّل إلى مجموعة دويلات. إذا نجحت، ستكون الشعوب العربية شعوبًا بلا هويّات، وبلا مخالب، وستتحوّل إلى مجموعاتٍ تبحث عن لقمة العَيْش، والحياة المستقرّة، من دون قتل، ومجازر، إلخ. بينما القيادة السياسية وتقرير الاستراتيجيات سيكون في يد إسرائيل. وهذا سوف يأخذنا إلى سيناريوهات كثيرة، وهناك دائمًا تصوّر مُتشائم لما هو قادم، بناءً على ما تقوم به إسرائيل، بدعمٍ أمريكي وغربي. كيف ترى هذا السيناريو، دكتور؟

 

جمال زهران: قبل إبداء رأيي: تشاؤم أو تفاؤل أو ما الذي سيحصل في المنطقة، نحن لدينا دراسات في هذا الشأن كثيرة جدًا.

أقرب مِثال: حرب الـ12 يومًا على إيران.

السؤال: ماذا لو لا قدَّر الله وسقط النظام الإيراني، وسقطت الدولة الإيرانية في براثن المعتوه، نجل شاه إيران، الذي كانوا يسوّقون له، أو مجموعة العملاء الذين كانوا موجودين، ومُنتظرين الإشارة للانقضاض على الحُكم، وتولّي إدارة شؤون الدولة الإيرانية. ماذا لو حصل؟ خلاص، هزيمة. هذا ما كنتَ تقصده: أنه لو حصل هذا، ومن ثم كل الكيان سيتغيّر.

دُعاة الهزيمة ودُعاة الاستسلام، هؤلاء ناس، نوعية من البشر، انبطاحيين، ويريدون الترويج لفكرة الاستسلام، وتكريس فكرة التبعية للمركز العام، وهو أمريكا وواشنطن. يريدوننا أن نعيش في ذات الفلك، وفي نفس التفكير الاستعماري.

هؤلاء يُروذجون، من المُتخلّفين – وعذرًا على استخدام هذا اللفظ – أنهم يُروّجون أن فكرة ما قبل 23 تموز كان نظامًا عظيمًا، في ظلّ 150 سنة، أسرة محمّد علي غير المصرية، وفي ظلّ استعمار بريطاني 74 سنة. عندما جاءت ثورة 23 تموز 52، بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر، أسقطت هذا كله، أمّمَت قناة السويس، وبنى السدّ العالي.

هنا أودّ قول أمر مهمّ، يا أستاذ كمال: إنه يحدث أمر إسمه انقطاعات تاريخية، واستمراريّة تاريخية. وضرب الانقطاعات، مثلًا: مشروع عبد الناصر تقدّم، وتمّ إجهاضه.

بعد حرب تشرين، حرب أكتوبر، هي تجسيد لاستعدادات عبد الناصر، وإعادة بناء الجيش، إلخ.

عندما جاءت كامب ديفيد، حصل انقطاع، هذا نُسميه انقطاعًا تاريخيًا، في مسيرة تقدّمية تحرّرية، ما إلى ذلك. هذا الانقطاع التاريخي، يحصل فيه ماذا؟ ارتباك. يحصل أن هناك نُظُماً تتقدّم.

لاحظ أيضًا: أنه بمجرّد توقيع كامب ديفيد، الثورة الإيرانية، التي كانت مدعومة من مصر أيام عبد الناصر –وهناك كتب كثيرة تبيّن هذا، والخميني كانت لديه علاقة مع عبد الناصر، شخصية.

 

كمال خلف: نجحت؟

 

جمال زهران: ما الذي حصل؟ نجحت. عندما نجحت، أعطت أملًا للشعوب مجدّدًا، حتى تسدّ فجوة الانقطاع، وأعطتنا أملًا بالاستمرارية.

ولذلك نقول: شكرًا للثورة الإيرانية، وللشعب الإيراني، وللقيادة الإيرانية، لأنها أعطتنا الأمل في إعادة المسيرة الجهادية.

كمال خلف: هناك دائمًا مَن يحمل الراية، دكتور جمال، الراية لا تسقط.

لكن هنا، دكتور، هناك سؤال: إذا فشل المشروع الإسرائيلي الحالي، وهم يفرضون بالنار، وبالقوّة، وبالقتل، وبالإبادة، ويأتون بالنُظُم والقوى الموجودة في المنطقة: تعالوا، وقّعوا معنا بشروطنا، وإلا مصيركم كمصير غزّة: تدمير، وكمصير الهجوم على لبنان، والحصار، وتجويع الشعب السوري، وغيره...

دكتور، فقط لديّ سؤال، قد يكون أخيرًا: هو، فشل المشروع، هل تتحمّل إسرائيل ارتداد هذا المشروع الكبير وفشله؟ لأن البعض يقول: إن إسرائيل لم تعتد هذا النوع من المُغامرة، وهذا النوع من الصدمات. هي غامرت في 67، غامرت في 73، أنت تعرف ما الذي جرى. ارتداداته كانت هائلة على إسرائيل، رغم أنه حصل كامب ديفيد لاحقًا، إلخ. لكن، هل تتحمّل إسرائيل فشل هذا المشروع؟

 

جمال زهران: المشروع ينتقل من فشلٍ إلى فشل. نحن لدينا لبنان وقدّم خير مِثال، خير مِثال المارينز مطلع الثمانينات، 83، أُجْبِر العدو الأمريكي على الرحيل بقوّاته المارينز بعد قتل أكثر من 300 شخص. هذا هو الشعب اللبناني.

وثم تولّد حزب الله بعدها، وثم تولّدت المقاومة، ولديّ كتاب منذ أكثر من 30 سنة صدر في القاهرة، معروف أن المقاومة هي الخيار الاستراتيجي لتحرير فلسطين والقدس، ليس لدينا حلّ.

ولذلك، عندما تأتي وتقول المشروع انتقل من فشلٍ إلى فشلٍ، ألم يُرْغَم الكيان الصهيوني على الخروج سنة 2000، والتحرير في 25 أيار؟

وأُرْغِم على الهزيمة والانسحاب بلا قيد ولا شرط، وكانت هناك قرارات للأمم المتحدة: 242، 425، وغيرها، وانسحب وأُخْرِج.

ما في؟ القوّة هي الأساس. نحن لا بدّ من أن نستعدّ بالقوّة. دخلوا بمُغامرة مع إيران، واستهدفوا اليمن.

أمريكا نفسها تودّدت لليمن بوقف استهداف سفنها. هذا نتعلّم منه. ولِمَ لا نتعلّم منه؟

 

كمال خلف: انتهى الوقت، دكتور، لكن في الختام، ماذا تريد أن تقول من وراء هذه الأمثلة؟

 

جمال زهران: أريد أن أقول بصريح العبارة: إن الكيان الصهيوني، بفشل هذا المشروع الاستعماري في توظيفه بعد 77 سنة، مآله الانهيار الداخلي، ورحيل كل المُستوطنين الموجودين داخل هذا الكيان، وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر كاملة، وتحرير بيت المقدس بالمقاومة.

 

كمال خلف: شكراً، دكتور جمال زهران، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة قناة السويس، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية من القاهرة، أشكرك جزيل الشكر.