المثقف بين المواجهة والخيانة
في زمن التحولات والانهيارات، نبحث عن "العرّاف"... ذاك المثقف الذي يشهد للحق ويواجه الأكاذيب. لكن أين هو اليوم؟ هل استقال؟ أم تم تدجينه؟ هل سقط في فخ الترغيب أو الترهيب؟ وهل لا يزال للمثقف دور في معارك الوعي والتحرر؟ أسئلة تفرضها لحظة مفصلية في تاريخنا المعاصر… فهل مات المثقف، أم يتشكل من جديد؟
نص الحلقة
بيار أبي صعب: مساء الخير، في خضمّ المآسي والتمزّقات التي تعصف بمجتمعاتنا وفي مواجهة التحوّلات المُشرّعة على المجهول نبحث عن ذلك العرّاف فلا نجده. العرّاف الذي رأى يقف في الطليعة، يشهد للحق، يُضيء الطريق باسئلته ويترك بصماتٍ أساسية على زمانه وعصره. نبحث الآن عن ذلك المُثقّف المسؤول بتعبير تشومسكي عن فَضْح أكاذيب القوى المُهيمنة وعن مواجهة شهود الزور الذين ينخرون الضمير العربي كالغَرْغَرِينا. أين المثقّفون العرب اليوم؟ وما دورهم في معارك التحرير والتقدّم والعدالة؟ ما موقفهم من الطوفان الذي جَرَفَ كل شيء؟ من الحروب الناعمة التي تزوّر سرديّتنا وتسْتلب وعينا الفردي والجماعي؟ ما دورهم وتأثيرهم عند هذا المُنعطف الحاسم؟ هل يجوز الحديث عن خيانة المثقّف الذي ضلّ طريقه بين ترغيبٍ وترهيب؟ المثقّف الذي وقع في فخّ التَدْجين واستسلم للأمر الواقع أو لشهوة السلطة أو تَعِبَ ويأس وانهزم واختار الاستقالة. هل مات المثقّف كما عرفناه في القرن الماضي في انتظار أن يتمخّض هذا الزمن الصعب عن فصيلةٍ جديدةٍ من المثقّفين؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها نستضيف الليلة في الاستوديو الصحافي والأكاديمي ربيع بركات، ومن تونس معنا الصحافية فاطمة كراي، ومن غزّة الصامِدة الكاتب والروائي الفلسطيني يسري الغول، أهلاً بكم جميعاً. أستاذ يسري الغول إسمح لي أن أرحّب بك بشكلٍ خاص مع التقدير الكبير لضيوفنا وأظنّ أن الأستاذة فاطمة والأستاذ ربيع موافقان على ما سأقول، وجودك معنا الليلة يعطي لهذه الحلقة مذاقاً مختلفاً وبُعدأً آخر، غزّة اليوم هي المكان الأوحد، هي الجُرح الغائِر في الوجدان العربي والضمير الإنساني، نناقش خيانة المثقّفين فيما أنتم تواجهون قَدَركم بعزيمةٍ أسطورية، روايتك الأحدث "ملابس تنجو بأعجوبة" الصادرة في بيروت هي أول عملٍ روائي يُنْشَر عن الحياة اليومية لأهل غزّة في دوّامة الإبادة. كيف تنظرون إلى العالم؟ كيف تنظرون إلينا من غزّة؟
يسري الغول: مساء الخير لك وللمشاهدين الكرام، أودّ أن أعتذر مرةً أخرى عن سوء جودة الإضاءة لأنني حالياً في خيمة وحاولتُ قَدْرَ الإمكان أن أحصل على إنترنت لأن جميع مُقوّمات الحياة تمّ تدميرها من قِبَل الاحتلال الإسرائيلي، لا ماء ولا كهرباء ولا =إنترنت، الواقع مرير جدّاً ومُزْرٍ، الاحتلال يسعى إلى تدمير الوَعي الفلسطيني وكيّ وعي الإنسان الفلسطيني ليُهْزَم من الداخل، ولكن كما يقول إرنست همنغواي إنه بإمكانك أن تُدمّر الإنسان لكنك لا تستطيع أن تهزمه، ونحن ندرك تماماً أن هذا الاحتلال الإحلالي لن يستطيع هزيمة الوعي الفلسطيني. نحن نسعى اليوم لإحداث الصدمة لدى المستوطن الإسرائيلي وليس العكس، نعم نحن نتعرّض لإبادة ونموت، أنا دوماً ما أقول لعائلتي بأنني قد لا أعود في أية لحظة ولكن ليس أمام المثقّف الحقيقي، المثقّف العضوي الذي عرَّفه غرامشي بأنه المُلتزم بقضايا أبناء شعبه وأمّته، باسل الأعرج رَحِمَه الله قال "إذا أردتَ أن تكون مثقّفاً عليك أن تقاوم"، عليك أن تحمل القلق كأنه بندقية، نَصْل القلم يكون كنَصْل السيف، أن نتحدّث إلى العالم ونقول لا في وجه مَن قالوا نعم، مَن قال لا تُصالح ولو منحوك الذهب، أن نوصل رسالة إلى الجميع في هذه الأمّة. للأسف المثقّف العربي خَذَلنا كثيراً، الدراما العربية العام الماضي لم تنتج أيّ شيء عن الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون، المقالات، الروايات، الأعمال الأدبية، الجوائز لم تنتج أيّ شيء بل تجاهلت القضية الفلسطينية وكأن هناك تواطؤاً وحال هوان وصمت للمواطن العربي، وكأن دماءنا ليست واحدة ولغتنا ليست واحدة وثقافتنا ليست واحدة وتاريخنا ليس واحداً ولكني على يقين أن هذه الأنظمة الشمولية التي تقمع شعوبها والنُخَب المُتزّلفة لهذه السلطات التي ستنتهي بانتهاء هذه الحُقَب، أن الإنسان الفلسطيني الموجود اليوم في غزّة يعرف كل مَن وقف إلى جانبه ويعرف مَن خذله، ولذلك نحن من هنا نُبْرِق إلى كل مَن وقف إلى جانبنا من الكتّاب والأدباء الغربيين وليس العرب للأسف لأن معظم إن لم يكن جميع المُثقّفين العرب باتوا رهينةً للسلطة، وباتوا يبحثون عن مناصِب ومكاسِب دنيوية، باتوا يبحثون عن الفوز بجائزة وبعثات السفر والحصول على منصبٍ وترقيةٍ وتركوا إخوان الدم يموتوتن في غزّة من دون أن يحرّكوا ساكِناً.
بيار أبي صعب: شكراً أستاذ يسري، سنعود إليك بعد قليل لكن دعني أنتقل إلى تونس وأسأل الأستاذة فاطمة كرّاي ما كان يتكلّم عنه الأستاذ يسري الغول أين المثقّفون العرب من مُبدعين وأكاديميين ومُفكّرين ومُنظّرين وكتّاب وحتى إعلاميين، أين هم من التطهير العِرقي الذي تعيشه غزّة منذ 18 شهراً؟
فاطمة كرّاي: أهلاً وسهلاً وتحيّة خاصة لأهلنا في غزّة وللأستاذ يسري الغول، ما قاله يضع يده عل الجُرح الغائِر. في العام 2025 ومن خلال حرب الإبادة هذه التي تُقام على الملأ في خرقٍ واضح لما يُسمّى بالقانون الدولي والاتفاقيات الدولية واتفاقيات جنيف الأربعة للقانون الدولي الإنساني، أفضّل ألا أتحدّث عن مُثقّف عربي بقَدْرِ ما أتحدّث عن مُتعلّم عربي يحمل كمّاً من الشهادات والكتابات ولكن عندما نتفحّص لا نجد صرخةً مثل صرخة خليل حاوي عندما دخل الجيش الصهيوني واكتسح بيروت في 5 حزيران، بعد 24 ساعة فقط أطلق النار على نفسه وكان قد حذّر من أن المُثقف العربي وقع في شِراك البترو دولار، ونحن رفعنا ونرفع شعار ليس جزافاً الرجعية والصهيونية والإمبريالية هم ثالوث في علاقة عضوية وليست علاقة موضوعية، ليس انتقاءً ولكن هذا انكشف من خلال الإبداعات وغيرها. كل الأمم وتاريخنا نحن في الوطن العربي عندما نكون في أزمةٍ، عندما نكون في حروبٍ ضدّ الآخر، عندما نكون في حربِ تحريرٍ دائماً يبرز المُثقف قبل حامِل البندقية، يبرز بفلسفته، بأدبه، بشعره ولكن اليوم أين هم الشعراء، أين هم الذين نُسمّيهم مُثقّفين؟ أنا أقول إنه عندما يُصفَّق لأيّ مثقف أو شاعر أو مُتمرّد وطني، عندما تُصفّق له الرجعية العربية والكونغرس الأميركي وكذلك الدوائر الإمبريالية =والمؤسّسات العابِرة للقارات، أعتبر أن تلك شهادة بأنه ليس مُثقّفاً وليس مُلتزِماً وليس مُثقّفاً عضوياً كما قال غرامشي وكما قلنا نحن العرب طوال تاريخنا.
بيار أبي صعب: سنعود إلى هذه المسألة، شكراً أستاذة كرّاي، نصل إليك أخيراً أستاذ ربيع بركات، لنبدأ من التحديدات، مَن هو المُثقّف ولماذا غاب فجأةً عن المشهد في هذا العبور الذي نعبره بهذا النفق الطويل؟ مَن هو المُثقف أصلاً؟
ربيع بركات: إذا أردنا أن نقدّم تعريفاً واسعاً لمعنى المُثقّف، المُثقّف هو مَن يُنْتِج ويبثّ محتوى ثقافياً أو فكرياً وهذا المحتوى يتّصل بالشأن العام، هذا التعريف العام. لاحظتُ أن غرامشي ذُكِر أكثر من مرة في سياق الحديث، حتى غرامشي يتحدّث عن المثقّف الذي يرتبط بالقوى المُهيمنة في السلطة او ما يُسمّيه بالمُثقف التقليدي. إذاً المُثقّف العضوي ليس هو الشكل الوحيد لما يُصْطلح عليه بحامل الثقافة أو مُنْتِج للمحتوى الثقافي. التصنيفات أصلاً للمُثقّفين مُتعدّدة فهناك مَن يعتبرهم فئة قائمة بذاتها، هناك مَن يربطهم بفئة] اجتماعيةٍ ما وهناك مَن يقول إنهم غير مُرتبطين بالضرورة بفئةٍ مُحدّدة. بورديو على سبيل المثال يعتبرهم بمثابة طبقة موجودة بذاتها، غرامشي يميل إلى عضوية المُثقّف أو علاقته بفئةٍ مُعيّنةٍ أو بطبقةٍ مُعيّنة على اعتبار أن غرامشي ماركسي وبالتالي يتحدّث عن المسألة من زاويةٍ طبقيةٍ أو ماركسية. هناك مَن يرى أن دور المُثقّف يمكن حَصْره بعملية تيسير النقاش المجتمعي في الفضاء العام. الآن دعنا من التصنيفات الأكاديمية هذه، ربّما الحديث الآن هو عن دور المُثق!ف في لحظة صراعٍ وجودي، وهل هناك تغيُّر ما في طبيعة الدور الذي يلعبه المُثقّف؟ نحن نتحدّث عن المُثقّفين العرب بشكلٍ خاص، طبيعة الدور الذي يلعبه المُثقّف العربي في ظلّ ما يجري من أحداث. أعتقد أن دور المُثقّف على الدوام حتى خلال القرن الماضي كان يتراوح بين مُثقّف مُلتزِم بقضايا مجتمعه أو قضايا بلده أو أمّته وبين مُثقّفين أمْيَل للخطاب المُهَيْمن.
بيار أبي صعب: سنعود إلى هذا الأمر بالتفصيل، كان للمُثقّفين حضور في اللحظة السياسية، دعنا نستمع إلى الدكتورة لونا أبو سويرح المديرة العامة لمركز دراسات الوحدة العربية، الباحثة الفلسطينية لونا أبو سويرح ترفض القول بموت المُثقّف، إنها بنظرها مرحلة خفوت وعلينا إعادة اختراع المشروع النهضوي من أساسه، نشاهد معاً.
لونا أبو سويرح: لا نستطيع أن نقول إن المثقّف اليوم أو النُخَب والمُفكّرين في حال موت، هناك حال خفوت مرتبطة بكل ما يحدث في منطقتنا من خيبات أمل، من تراجُع لدور النُخَب السياسية، من تراجُع لدور الثقافة والمعرفة في صناعة النهضة في المنطقة العربية أو في الوطن العربي وسبب هذا التراجع مرتبط بالصعود في مجالات أخرى هدفها الأساسي التسطيح والتجهيل، رأس المال اليوم بدلاً من أن يدعم مؤسّسات فكرية وثقافية، بدلاً من أن يدعم مؤسّسات إعلامية دورها الأساسي في رَفْع الوعي العربي العام والعمل على تفعيل دور الشباب وتفعيل دور النُخَب في نهضة هذه الأمّة وفي معالجة قضاياها والتحدّيات، رأس المال العربي اليوم للأسف يتّجه إلى التسطيح، التجهيل، الترفيه، مجالات هدفها الأساسي هو أن نبقى مُغيّبين عن قضايانا الهامة، أن نبقى مُغيّبين عن مشاريعنا الهامة. جلّ الوطن العربي تحالفاته مع الغرب ومشروعه مرتبط بالغرب ومرتبط بالإمبراطورية والهيمنة الأميركية التي ما زالت تسيطر علينا. إذاً يجب أن تكون كل الأدوات مُسخّرة لخدمة هذا المشروع، لا يمكن أن تكون الأدوات مُسخّرة لخدمة مشاريع المقاومة والمقاومة ليست فقط سلاحاً على الأرض، المقاومة هي ثقافة، المقاومة هي إعلام، المقاومة هي وعي، المقاومة هي كلمة، المقاومة هي إنتاج مستمر لمعرفة عربيةٍ تحرّريةٍ لمُناهضة المعرفة الاستعمارية التي ما زالت تحكمنا حتى الآن.
هناك حرب إبادة تُشنُّ على الشعب الفلسطيني مستمرة منذ أكثر من قرنٍ من الزمان لكن تصاعدت وتيرتها بالتطهير العِرقي بعد سبعة أكتوبر. أين الغرب ومفكّروه وفلاسفته وأكاديميوه؟ كله انكشف وانكشف أيضاً مفكّرون وأكاديميون وباحثون عرباً وانساقوا خلف السردية الصهيونية والسردية الغربية واتّهموا المقاومة بالإرهاب واتّهموا الشعب الأعزل بأنه يهاجم مراكز الحضارة التي هي الكيان الصهيوني أو الغرب أو غيره، هذا كله انكشف اليوم. نحن اليوم سننقض هذا المشروع وسنحاول أن نخرج بمشروع خاص بنا، نحن أصل التنوير وأصل الحدث كأمّةٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ والغرب بكل منظوماته انكشف، وبالتالي علينا أن نعود مرة أخرى للأساسيات ولما يشكّل نهضتنا ويدعمها من ثقافتنا. هناك مؤسّسات تعمل بشكلٍ جاد على ذلك، نحن لا نفتقر إلى مُثقّفين، لا نفتقر إلى المعرفة، لا نفتقر إلى كتاب ولكنننا نفتقر إلى إرادة.
بيار أبي صعب: أستاذ يسري أعود إليك في غزّة، تحدّثتَ في أحد منشوراتك عن تواصلك مع كتّاب وفنانين عالميين بينهم صديقك الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل لحثّهم على التحرّك ضدّ الإبادة في غزّة، وقد لعبتَ دوراً مهمّاً في هذا المجال ثم تضيف "أما بخصوص النُخَب العربية فلا داعي لاستنزاف الوقت معهم لأنهم كغثاء السيل مصالحهم الخاصة هي وطنهم"، هلّا توسّعتَ في الفكرة.
يسري الغول: يا صديقي عندما أتحدّث حتى مع بين إنترناشيونال والمؤسّسات الدولية التي تتعامل مع الكتّاب والأدباء، ولي من الأصدقاء والصديقات موجودين في فرنسا وفي غيرها من الدول الغربية، أجد تعاطفاً كبيراً منهم بل إنه قبل فترة عندما كنتُ في لقاءٍ مع ستيفن سبيغ على NBR الأميركية، وللأسف عبث بمحتويات اللقاء والمقابلة التي تمّت معي لأنها كانت مسجّلة، وجدتُ الكثير من الأصدقاء الكتّاب وغيرهم يتضامنون معي وحتى طلاب وخرّيجي جامعة آيوا في برنامج الكتابة العالمي الذي كنتُ مدعوّاً للمشاركة فيه لعامين على التوالي ولكنني ممنوع من السفر لعدّة أسباب بعضها أن دولاً عربية منعتني من الخروج لأن قلمي يتحدّث عن الأنظمة الشمولية. أتمنّى من المشاهدين الكرام أن يقرأوا مقالاتي على موقع الميادين نت وفي غيرها من المواقع خلال هذه الإبادة.
بيار أبي صعب: بعد قليلٍ سنتحدّث عن مقالٍ لفت انتباهي على موقع الميادين وسنعلّق عليه، أعود إلى الأستاذ ربيع بركات، تحدّثتَ عن مُثقّفي السلطة، دائماً هناك مثقّف سلطة لكن السلطات كانت في مرحلة ما سلطات ثورية وتقدّمية، وكانت هنالك حركة ثقافية ساهمت في صياغة الوعي وساهمت أيضاً في القضايا الاجتماعية والثقافية والفكرية والأخلاقية وفجأةً خلا المشهد منهم، هؤلاء مَن يهموّنا.
ربيع بركات: الأمر الأول كون الشخص ينتمي إلى فئة المُثقّفين رغم أن هذا التعريف فضفاض، هذا لا يعني بالضرورة أن كل مُثقّف طاهر أو صالح، المُثقّف في أوقات النزاع هو كالجندي والجندي قد يخوض حرباً عادلة وقد يكون مُرتزقاً، الأمر نفسه بالنسبة للمُثقّف. وددتُ أن ألفت النظر إلى هذه المسألة لأنه في كثير من الأحيان يتمّ التعامُل مع المثقفين وهذه ربّما مسألة مضطرون أن نتعامل معها على هذا النحو من دون أن يعني أنه ليس علينا أن ننتقدها أو ننقضها، يتمّ التعامل مع المُثقّفين وكأنهم مُنزّهون لا عن النقد لأنهم هم القائمون بالنقد بشكلٍ عام، وبالتالي هم بوصفهم ينتمون إلى النُخَب، هم مَن يمارسوه من دون أن يمارَس عليهم هذا النقد، وبالتالي هذا الأمر لا يستأهل فقط التفكيك بل هو عارٍ عن الصحة لأنه في نهاية المطاف كما قلتُ هؤلاء في أوقات النزاع أو في الأوقات التي تتطلّب مواقف حاِسمة يصعب فيها أن يمتلك أحدهم أو مجموعهم مواقف حاسمة، وبالتالي يجب أن يوضعوا تحت المِجْهَر، هذا دور المثقّفين على الأقل في المعارك البينية بينهم. المسألة الثانية التي أودّ أن أشير إليها، صحيح أنه في المرحلة الماضية كان التعاطي مع القضايا العامة مختلفاً عما هو عليه اليوم، لم يكن هناك تسليم بالقَدْر الذي هو موجود اليوم.
بيار أبي صعب: تسليم بماذا؟
ربيع بركات: تسليم بالسرديات المُهيمنة، =بالخطاب المُهيمن وإلى ما هنالك. أحد أسباب ذلك يتّصل بالظروف الموضوعية، بإمكان المرء أن يقول أن هذا الأمر يستدعي إدانةً أكبر، الظروف الموضوعية في المرحلة السابقة كانت قائمة على توازناتٍ معيّنة في المنطقة وحتى في العالم. الاتحاد السوفياتي كان موجوداً قبل 1991، كان هناك توازن ملكيات مقابل جمهوريات، صحيح أنه لم تكن أي من الأنظمة سواء الملكية أو الجمهورية ديمقراطية وتسمح بالعمل الثقافي الحر وغير المُقيّد وما إلى هنالك ولكن هذا التوازن النسبي الذي كان موجوداً كان يتيح الهوامش للمُثقّفين ويتيح للآخرين أن يكونوا مستقلّين تماماً عن أقطاب هذه الثنائية، هذا لم يعد موجوداً إلى حدٍّ بعيد اليوم.
بيار أبي صعب: اليوم انهار المشهد وبالتالي المُثقّف عليه أن يختار إما أن يكون شهيداً يضحّي وإما أن يذهب إلى القوى المُهيمنة ويؤمّن قوته.
ربيع بركات: بالضبط وبالتالي عملية تطويع المُثقّف أصبحت أسهل لأن الأدوات المُسْتخدمة في عملية التطويع هذه اختلفت عمّا كانت عليه في السابق.
بيار أبي صعب: أستاذة فاطمة كرّاي هل تعتبرين أن المُثقّفين الذين لطالما شكّلوا ضميراً وقوّة فاعلة مؤثّرة في بلورة الوعي الجماعي ومجرى الأحداث، شاركوا في حروب التحرير وبناء الدولة بعد الاستقلال هم اليوم قبيلة مُنْقَرضة أو في طريقها إلى الانقراض؟ أين أهل الفكر والإبداع مغرباً ومشرقاً من الجرح الفلسطيني النازِف ومن كل التحدّيات المطروحة على شعوبهم الآن وهنا؟
فاطمة كرّاي: الجرح الفلسطيني مُتواصِل ولكنه ينزف وأيضاً يعرف وقفات عزّ تقوم بها المقاومة، المقاومة تسلّم المشعل مرة بمرة، هذه المقاومة لها عدّة ألوان لكنها تبقى مقاومة فلسطينية وطنية عربية إنسانية، المُثقّف لم يتطوّر بل صيغت له أدوات معيّنة ولِباس معيّن، غمرته التكنولوجيا والنجومية. لا ننسى أن المثقّفين والتقدّميين والأدباء الذين نقرأ لهم في مجلات وكتب و في معارِض الكتاب أصبحنا نراهم في التلفزيونات ولكن ليس فيهم من أحد يقول مثلاً لا أشارك في هذا البرنامج أو في هذا التلفزيون لأنه مدفوع الأجر وهذا يُسمّى إعلاماً موجّهاً، لم نرَ ذلك. كيف تستطيع أنت كتقدّمي تطرح على نفسك فرز الخنادق بين الصهيونية وبين الوطنيين الفلسطينيين وبين الإمبريالية وبين التقدّميين في العالم، كيف تطرح على نفسك هذا الخيار ثم تجد نفسك في تَلْفَزَتِهم؟ هل سيمنّون عليك أو يخافون منك؟ إنهم يربطونك برباطٍ سيكون ضدّ المجموعة الوطنية، ضدّ الوطن، ضدّ المقاومة، ضدّ كل نَفَس تقدّمي إنساني.
بيار أبي صعب: هناك عملية تدجين.
فاطمة كرّاي: هذه إهانة، سيّدي أنا رأيتُ =بأمّ عينيّ ولا أقول إنني تفاجأتُ ولكن الناس تعجّبوا عندما رأوا أحد الرموز الثقافية العربية التقدّمية في أحد مطارات الخليج وقد كُلّف ببناء أكاديمية أو شيء من هذا القبيل، هل صحيح أن هذا المُثقّف وأمثاله كُثُر، هل انطلت عليه الحيلة؟ لا أدري لكن أنا أقول إن التكنولوجيا كما غمرت العديد غمرت المثقّف الذي أصبح يرى في نفسه سياسياً ومُنافِساً للسياسيين، بينما المُثقّف دائماً يجب أن تكون عينه مفتوحة ويجب أن يكون محمّلاً بسلاحه الوحيد، سؤال الحيرة والنقد، نقد السلطة مهما كانت ونقد أيّ شيء موجود.
بيار أبي صعب: حين أثرتُ هذه النقطة أستاذة كراي أعتقد أنه نفس الشخص وهو رمز مهم، أجابني أحد العارِفين وقال لي اترك الناس تسترزق وتعيش، على العموم أنا أشكرك لقبولك الدعوة بالمشاركة على شاشة الميادين. أعزّائي المشاهدين نتوقّف مع فاصل قصير ونعود.
أهلاً بكم مجدّداً في هذه الحلقة من على محمل الجد، أعيد الترحيب بضيوفي: يسري الغول في غزّة، فاطمة كرّاي في تونس، وربيع بركات معنا في بيروت. نصل الآن إلى الجزء الثاني من حلقتنا مع فقرة "على محمل النقد"، قصدنا الباحثة والكاتبة البحرينية خولة مطر لسؤالها عن أسباب انحسار دور المُثقّفين في العالم العربي، فأجابت بثلاث: الترهيب، والتهميش، وشراء الذِمَم، نستمع إليها؟
خولة مطر: هناك إشكالية كبيرة في العالم العربي وما يحدث الآن ليس جديداً، في تصوّري هو تراكُم لسياساتٍ محدّدة موجّهة سواء في التربية والتعليم أو كل شيء، السياسة تستند إلى ثلاثة عناصر في التوجّه والتعامل مع الأصوات المختلفة، مع المُثقّفين، مع الأكاديميين، مع الفنانين والمُبدعين وهي إما التخويف أو التهميش أو الشراء. التخويف هو أن تفقد وظيفتك، تفقد رزقك، تفقد حتى قُدرتك على البحث والإبداع. التهميش هو عنصر أساسي استُخْدِم، أيّ صوتٍ مختلف يُعْزَل ويُهمَّش، وأصبحت الجوائز العربية التي خلقتها في معظم الأحيان دول النفط أصبحت إغراءات لشراء أصواتٍ مُعيّنة بتوجّهات مُعيّنة. منذ سنين طويلة أعرف أنه في رأي النُخَب الحاكِمة أن كل النُخَب والأصوات المختلفة من أكاديميين إلى باحثين إلى مثقّفين إلى فنانين تشكيليين حتى جميعهم لهم ثمن، غزّة كشفت الغطاء عن الجميع. في مقابل أكاديميين في أوروبا وفي جامعات عريقة يخسرون وظائفهم ويقفون وتعتقلهم الشرطة والأمن، النُخَب العربية مُعْتكفة تسير وكأنه لا يوجد شيء حدودها ولا يعني لها. فالمثقف أو المُطّلع المُبدع أصبح أمام خيارين، إما أن يطرح الأسئلة ويستمر بطرجها وفي مرحلةٍ ما يجد نفسه وحيداً أو أقلّية معزولة، ليس الكل يمكنهم القيام بذلك أو أن يقول لك لن أحارب طواحين الهواء. الإعلام كان سلاحاً ولا يزال أقوى من الرصاصة والقتل، ما حدث في حرب غزّة أثبت أن الإعلام سلاح قوي جداً، أليس هو أخطر عندما يخرج إعلامي ليقول إن الإشكالية الحقيقية في مجتمعاتنا العربية والعدو الحقيقي ليس إسرائيل فنتّجه جميعاً قطعاناً إلى التطبيع! أنظر إلى الخليج، أنا أجد نفسي أعيد قراءة ما كتبه خليجيون وخليجيات في السبعينات والثمانينات، بدأوا يقولون في تلك المرحلة إن الخليج ليس نفطاً، لماذا تنظرون لنا على أساس أننا نفط فقط؟ الخليج هو ثقافة وحضارة وفيه أناس يتكلّمون ويطرحون الأفكار والأسئلة الصعبة لمستقبل الخليج، الآن أصبح نفطاً فقط، ينشر ثقافة واسعة ويسيطر ويُهيمن على الثقافة العربية. كل محطات التلفزيون، كل الجرائد، كل الإعلاميين، كل الفنانين، الأكاديميون والمراكز البحثية تسيطر عليها دول الخليج أنظمة أو أشخاصاً هم واجهة لأنظمة خليجية، لماذا هذه الحروب في العقول، لماذا الأسئلة؟ لماذا التعب؟ أريحوا أنفسكم وعيشوا حياتكم، الشعار الآن عِش حياتك.
بيار أبي صعب: فاطمة كرّاي تقول الأستاذة خولة مطر إن الإعلام لعب دوراً ولا يزال أقوى من آلة القتل، ما تعليقك؟ هل الإعلام المُهيمن وراء تهميش المثقّفين النقديين مثلاً؟
فاطمة كرّاي: نعم، الإعلام هو سلاح ذو حدّين، التقدّم التكنولوجي أيضاً هو كالتسونامي ولكن المُثقّقف لم يبقَ على تماس مع هذه المُتغيّرات بل أُقحم عن وعي أو غير وعي، ليست هذه هي المشكلة، وجدنا أن المّثقّف يسبح ولا يجد نفسه ولا يستطيع حتى أن يخاطب الجماهير والرأي العام. لا ننسى أن الرأي العام العربي منذ حرب الإبادة في غزّة أصبحت له الكلمة وأصبح يستعمل السوشيال ميديا، أصبح يُقبل على القنوات الجادّة التي تتحدّث عن الفلسطيني وحتى القنوات التي تتحدّث عن الواقع الفلسطيني نُصرةً للشعب الفلسطيني في الظاهر فإنهم يقفون على أن مَن يموّلها مشكوك به. إذاً المواطن الآن العربي خاصةً مع التحامه بما يصدر عن الجماهير والرأي العام العالمي الغربي والأميركي اللاتيني والآسيوي أصبح يعي أن هذه القضية لا جِدال فيها وأن المُثقّف فاته القطار ولكن المثقّف العربي اليوم مجبول على أن يُعيد صياغة نفسه، يقدّم نقده الذاتي لِمَ لا، حرب الإبادة هذه والصوَر المُتناثرة والموجودة هكذا يقدّمها الكيان الصهيوني على الملأ، لم نجد خلافاً لبعض الأقلام والمقالات لم نجد عملاً درامياً يغوص في ما يحدث،. لم نجد كما هبّت الصهيونية العالمية على ما =يُسمّى بالمحرقة اليهودية التي أركانها إلى اليوم مشكّك فيها ولا نعلمها. الآن نحوّل الكاميرا إلى غزّة فقط لنشهد كيف أن حرب الإبادة تعتمد تجويع الشعب الفلسطيني.
بيار أبي صعب: في هذا السياق تحدّث الأستاذ يسري الغول أنه كتب يوميّاته في جحيم الإبادة،
تحدّثتَ مراراً عن المثقّف المُشتبك والفنان العضوي الذي يدفع عمره ثمناً لقضاياه العادلة كما كتبتَ قبل شهرين على موقع الميادين، مثل فتحي الشقاقي الذي قال إن المُثقّف هو أول مَن يقاوم وآخر مَن ينهزم، ومثل باسل الأعرج الذي قال "إذا أردتَ أن تكون مُثقّفاً عليك أن تكون مقاوماً"، ومثل غسان كنفاني الذي استشهد بعدما كان ندّاً، فأين الندّ، تسأل أنت، أين الندّ الذي يمكن أن تهتف الجماهير العربية خلفه "الموت لإسرائيل"؟
يسري الغول: للأسف، نحن نبحث عن الندّ حتى هذه اللحظة، وأنا في بداية اللقاء قلتُ لحضرتك أين مَن قالوا لا في وجه مَن قالوا نعم؟ وأين المُثقّف الذي يستطيع أن يُجابه السلطة؟ ما هي طبيعة عمل المُثقّف؟ المُثقّف يا عزيزي يجب أن يكون =ناظِماً لأية أمّة، المثقّف هو الذي يقوّم الخلل، المثقّف هو الذي يُعيد إنتاج الحضارة والنهضة لشعبه وأمّته، هل لدينا اليوم مثقّفون أم تابعون تصنعهم الأنظمة الحاكمة، الأنظمة الشمولية، تصنعهم المؤسّسات، هل المثقّف هو مَن يقرأ كتاباً أو كتابين؟ المثقّف هو الذي يرسم لوحة أو اثنتين؟ ما هو دورك كمثقّف إذا لم تستطع أن تجابه الآخرين دفاعاً عن قضايا أمّتك العادلة. ولذلك للأسف نحن في فلسطين اليوم شعرنا بالخُذلان من الجميع، لم نجد الندّ، يا عزيزي اليوم ونحن نقرأ الأخبار نكتشف أن الدول العربية تشتري السلاح من إسرائيل، طب يا أخي اشترِ من الصين، المعركة بين الهند وباكستان أثبتت قوّة الأسلحة الصينية، لماذا تذهب إلى إسرائيل؟ الآن السعي والهَرْولة نحو التطبيع وكأنه هؤلاء يريدون أن يقولوا إننا بتنا نشعر بعبء القضية الفلسطينية، وأنا آسف جدّاً فيما أقول أن هذه الأمّة باتت تبّعاً للنظام النيو الليبرالي الذي بدأ ينقلب على نفسه، والنظام الرأسمالي اليوم لن يكون نظاماً أحادي القطب ولن يستمر طويلاً. للأسف مَن لديه فَراسة واستشراف وبصيرة يدرك تماماً أن العالم مقبل على التغيير في منظومته، نظام القطب الواحد سينتهي، النظام الرأسمالي لن يستمر بقوّته الموجودة اليوم، الدولار الذي حمته وحاملات الطائرات، الحوثي الضعيف الذي حورِب في عاصفة الحزم أربك هذا النظام الرأسمالي لدرجة أن أميركا جلست على الطاولة معه من أجل وقف ضرب حاملات الطائرات لأن ذلك يشكّل إهانة لهذه المنظومة التي تعتقد أنها ربّ هذا العالم.ّ
بيار أبي صعب: أستاذ يسري وجدنا ندّاً، السيّد الحوثي هو ندّ مثلاً. أعود إليك أستاذ ربيع بركات، أريد أن أتحدّث معك عن موضوع تدجين المثقّف، في فرنسا منذ مئة سنة تقريباً بين الحربين ظهر فيلسوف يُدعى جوليان بيندا تحدّث عن خيانة المثقّفين في كتابه في العام 1927 ، يقول فيه إن أسباب الخيانة هي نفسها، هناك سببان لا ثالث لهما هما أولاً المكسب المادي وثانياً تحقيق الاعتراف والتقدير،إلى أي مدى تدجين المثقّف يُعتبر آفة وإشكالية مطروحة بصفتها تهدّد بالتصحّر السياسي والفكري والثقافي بحيث لا يبقى إلا مثقّفون موظفون ومثقّفو سلطة وكما قالت السيّدة فاطمة موظّفي تلفزة وميديا.
ربيع بركات: بالضبط هذا ما كنتُ أرغب بقوله، هذه الظاهرة موجودة على الدوام، ظاهرة الخضوع أو القبول بتطويع الذات والاندراج في السرديات المهيمنة. المقاومة تعريفاً هي أن تواجه أو أن تناهض ما هو سائد بطبيعة الحال، وبالتالي هذا يفترض أن يكون هناك عدم تكافؤ في توازن القوى، وبالتالي هذا يفترض أن هناك ثمناً ما ينبغي دفعه، مَن يقبل أن يدفع ثمناً هل هؤلاء في العادة يكونون الأكثرية؟ عادةً لا تكون الأمور على هذا النحو على الأقل في البدايات. هذه المسألة أثيرت قبل قليل أكثر من مرة، الأدوات ينبغي أن نعيد التفكير بها، أدوات تسمح لنا ليس فقط بتقديم إنتاج معرفي مخالف للسائد ولكن أيضاً تعميم هذا الإنتاج المعرفي قُدْر الإمكان. تحدّث الزملاء أكثر من مرة عن التكنولوجيا وتحدّثتَ أنت للتوّ عن السوشيال ميديا، في مطلع ثورة الاتصالات قيل إن هذه الثورة تسمح بنمطٍ جديدٍ من نقل المعارف الذي لا تقيّده بالضرورة هذه البنى الهيراركية والإعلام من بينها. أصبح الحديث الآن أفقياً، كل مَن يمتلك هاتفاً وإنترنت باستطاعته أن يُسْمِع صوته للآخرين لكننا الآن خصوصاً بعد حرب غزّة بتنا في مواجهة ديكتاتورية الخوارزميات. عملية التطويع متطوّرة، وبالتالي عملية ابتداع أدوات لمواجهة هذا التطويع يجب أن نطوّرها أيضاً.
بيار أبي صعب: أستاذة فاطمة كرّاي هل يمكننا الحديث عن مثقّفي الانحطاط الذين يدافعون عن الخطاب المُهيمن في الداخل والخارج؟ هل باع العربي روحه مجدّداً للشيطان؟
فاطمة كرّاي: في المسرحية أظنّ أن الكاتب بدأ يراجع نفسه، لا أعتقد أن المثقّف اليوم إذا كان باع نفسه بهذه الطريقة وهذا التوصيف الذي تحدّثنا فيه =أولاً تُنْزَع عنه صفة المثقّف لأن المثقّف يجب أن يكون قريباً وفي اتصال عضوي مع الشعب، مع التاريخ ومنطق التاريخ إلى آخره. باعتقادي هؤلاء الذين باعوا أنفسهم سواء عن خيار أو قهْراً أو ربّما مساومةً لا يهمّ، ما يهمّني أن هذا المركز أو هذا التوصيف للمثقّف لا أستطيع أن أركّبه على هذه الفئة بأن يكونوا مثقفين، المثقف يجب أن يكون محمّلاً كما قلتُ بسؤال الحيرة وكما قلتُ في البداية أعود وأقول إننا لم نجد خليل حاوي آخر بعدما حصل في غزّة وفي الضفة الغربية وغيرها.
بيار أبي صعب: للأمانة والدقّة في غزّة هناك شعراء وكتّاب ومثقّفون وبشر ومواطنون يستشهدون، تحية إلى روح الدكتور رفعت العرعير الذي كتب وصيّته واستشهد في الأسابيع التالية.
فاطمة كرّاي: نعم ومثله كثيرون، أنا أنتمي كصحافية إلى مجموعاتٍ من غزّة ومن فلسطين وتصلني الأنباء وأتبادل معهم، أقسم بالله أنهم يكتبون ملاحِم تصلح لمسرحيات وكتب أدبية. هناك مأساة والأدب مأساة أو لا يكون مثلما يقول الإغريق.
بيار أبي صعب: أشكرك أستاذة فاطمة كرّاي على حضورك. أستاذ ربيع بركات سؤالي الأخير، أنت تحاول أن توسّع الرؤية على أنواع وأنماط من المثقّفين والعلاقة بأنماط مختلفة من الواقع السياسي، هل هناك بروز لجيل جديد من المثقّفين، جيل ما بعد السابع من أكتوبر؟ إلى أيّ مدى كما تحدّثت الدكتورة أبو سويرح يمكننا أن نتحدّث عن ولادة مشروع نهضوي؟ هل هناك ظروف كافية لبداية انطلاق مشروع نهضوي اليوم؟
ربيع بركات: علينا نحن أن نصنع هذه الظروف، الظروف لا بنفسها، ما حصل وما يزال يحصل في غزّة فضلاً عن كونه مأساةً إنسانية رهيبة، لكن ما يحصل في غزّة هو عملية تسريع للتاريخ أو تكثيف للتاريخ بمعنى أنّ مَن يرغب بإدانة المحرقة والإبادة في غزّة ابتدع قيوداً أو خرج بقيودٍ جديدة. علينا أن نتعلّم كيف نواجه هذه القيود الجديدة، المعركة هذه لها أبعاد مختلفة وبعضها غير منظور وغير قابل للهَضْم في هذه اللحظة، وبالتالي هي مستمرة وهي دينامية وتتّصل بكيفية أو بمدى قدرتنا على فَهْم الواقع كما هو من أجل تغيير هذا الواقع. وبما أننا تحدّثنا عن غرامشي كثيراً "تفاؤل العقل تشاؤم الإرادة"، نتشاءم بقراءتنا للواقع لأن الواقع يستدعي تشاؤماً لكن إراداتنا هي التي تحرّكنا باتجاه تغيير هذا الواقع.
بيار أبي صعب: شكراً لك دكتور ربيع بركات. يسري الغول سأنتهي معك من غزّة، أنت كتبتَ "قاوِم ولو بكلمة"، هل نستطيع إن معركتنا الكبرى اليوم هي معركة كلمة؟ أرجو أن تكون موجزاً ولكنني أصرّيتُ أن يكون الختام معك من غزّة، تفضّل.
يسري الغول: الكلمة اليوم قد لا تكون ذات أهمية ولكنها وصْمة عارعلى جبين الاحتلال وعلى جبين الصامتين، وهذه الكلمة قد لا تكون مهمّةً اليوم أمام الإبادة بقدر ما هنالك أهمية للبندقية وللإعلام ولكل الأدوات التي نستطيع من خلالها أن نفضح ممارسة هذا الاحتلال، لكن أنا أقول إننا بحاجة وسنظلّ بحاجة إلى الكلمة لأن الكلمة هي الهوية والكلمة هي عنوان أية أمّة.
بيار أبي صعب: يسري الغول أشكرك على حضورك معنا، حماكم الله وألهم أهل غزّة الصبر، الله عزّ وجلّ والمقاومة وإرادة شعبها أيضاً، كُن بخير. مسك الختام مع علي شريعتي من كتابه "مسؤولية المثقّف"، "مكان المثقّف في قلب المجتمع، وإذا تخلّى عن مكانه الطبيعي هذا حتى لو حقّق أكبر النجاحات الفردية فسيبقى المجتمع حيث تركه على شفا الانحطاط". أما فلاديمير إيليتش أوليانوف لينين يقول "المثقّفون أكثر الناس قُدرةً على الخيانة لأنهم أكثر الناس قُدرةً على تبريرها"
شكراً لضيوفي: ربيع بركات، فاطمة كرّاي، يسري الغول، شكراً على المتابعة وإلى الأسبوع المقبل.