أي أدب يكتب الشباب العربي اليوم؟

كل جيل جديد يأتي رافعاً راياته، ويخوض معاركَه، ويجاهر باختلافاته «إننا أصعب جيل لأصعب مرحلة»: كتبَ الشاعر اللبناني محمد العبد الله، ذاتَ مرة قبل نحو نصف قرن. كل جيل يبحث عن ملامحه، عن لغته، عن ذاته. يسعى إلى التحرر من أعباء الماضي، ويريد أن يترك بصماته الخاصة، ويعيد اختراع هويته وحريته ثم يكتشف أنه امتداد لمن سبقَه: حَمل الأحلام نفسها، وارتكب الأخطاء نفسها أيضاً فما هي العلامات الفارقة للجيل الحالي؟ بمَ يتميز «أدب الشباب» اليوم في العالم العربي، في قلب الحروب والأزمات، في خضم التحولات الكبرى، في زمن الصورة الرقمية والنص المركب، ومواقع التواصل والذكاء الاصطناعي؟ أما زال من الممكن اعتماد التصنيفات القديمة، والبحث عن «جيل أدبي» كما كنا نتحدث عن جيل الستينات، وجيل السبعينات، في القرن الماضي مثلاً؟ أم إننا أمام تجارب ومغامرات فردية، وأرخبيلات غير مترابطة، في قلب هذا الواقع المتشظي؟ ما هو «أدب الشباب» اليوم؟ وما علاماته الفارقة؟ وهل يصح الكلام عن «جيل القطيعة» مثلاً، أو عن «جيل بلا آباء»؟

نص الحلقة

 

بيار أبي صعب: مساء الخير، كلّ جيلٍ جديد يأتي رافِعاً راياته ويخوض معاركه ويُجاهِر باختلافاته، إننا أصعب جيلٍ لأصعب مرحلة. كتب الشاعر اللبناني محمد العبد الله ذات مرة قبل نحو نصف قرن "كل جيلٍ يبحث عن ملامحه، عن لغته، عن ذاته، يسعى إلى التحرّر من أعباء الماضي ويريد أن يترك بصماته الخاصة.ويُعيد اختراع الهوية والحرية ثم يكتشف أنه امتدادٌ لمَن سبقوه، حمل الأحلام نفسها وارتكب الأخطاء نفسها أيضاً". فما هي العلامات الفارِقة للجيل الحالي؟ بما يتميّز أدب الشباب اليوم في العالم العربي في قلب الحروب والأزمات، في خضمّ التحوّلات الكبرى، في زمن الصورة الرقمية والنصّ المُركّب ومواقع التواصُل والذكاء الاصطناعي؟ أما زال من الممكن اعتماد التصنيفات القديمة والبحث عن جيلٍ أدبي كما كنا نتحدّث عن جيل الستينات وجيل السبعينات في القرن الماضي مثلاً أم أننا أمام تجارب ومُغامراتٍ فردية وأرخبيلاتٍ غير مُترابطة في قلب هذا الواقع ==المُتشظّي؟ ما هي ملامح أدب الشباب اليوم؟ وما علاماته الفارِقة؟ هل يصحّ الكلام عن جيل القطيعة مثلاً أو عن جيلٍ بلا آباء؟

للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها معنا الليلة في الاستوديو محمد ناصر الدين الشاعر والناقِد والمُتَرْجِم والأستاذ الجامعي، معنا أيضاً الكاتبة والمُتَرْجِمة السورية سارة حبيب من اللاذقية، ومن القاهرة معنا الكاتب والشاعر والصحافي المصري خلف جابر، أهلاً بكم جميعاً. محمد سؤالي الأول لك ما معنى الأدب الشبابي اليوم؟ هل يمكننا الحديث عن أجيال أدبية؟

 

محمد ناصر الدين: مساء الخير أولاً، =سؤال صعب جداً والإجابة ستكون ضبابية، نحن واجهنا المشكلة نفسها في جريدة الأخبار منذ خمس سنوات تقريباً، طرحنا سؤالاً مَن هم الشعراء الشباب في لبنان، تعريف الجيل الشاب كان صعباً جداً، هل هناك كتابة شابّة أم أن الكتابة تُقاس بعُمر الكاتب. قد نجد شاعراً ثمانينياً أو نستلّ قصيدةً من شاعر من جيل السبعينات مثل محمد العبد الله الذي ذكرته في المقدّمة ونجد أنها قصيدة نَضِرَة شبابية، وربّما يكون هناك شاعر بعُمر العشرين يكتب بلغةٍ عربيةٍ قديمة عفا عليها الزمن، فالتصنيف بحسب العُمر سقط.  هناك صعوبة كبيرة بإيجاد خصائص لأدب الشباب اليوم، هل هو الأدب الذي يُقدَّم عبر وسائل التواصُل الاجتماعي في منصّات مثل إنستغرام أو أن التدوينة القصصيىة هي التي تجعل الأدب شبابيّاً.

بيار أبي صعب: سنتحدّث عن العالم الرقمي لاحقاً.

محمد ناصر الدين: يمكنني القول بأنه ليس هناك أدب شبابي واضح، هناك مَن يكتب بمختلف الفروع، على سبيل المثال قصيدة النثر، الشعر الشبابي الجيّد في لبنان لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.

بيار أبي صعب: وفي العالم العربي؟ 

محمد ناصر الدين: في مصر أو العراق أو سوريا الحال أفضل يعني، يمكننا أن نتلمّس آثار الأدب الشبابي لكن الحال اللبنانية صعبة.

بيار أبي صعب: أنتقل إلى الأستاذة سارة حبيب في اللاذقية، اسمحي لي أن أسألكِ، كيف يتمّ التصنيف حسب الأجيال على أساس اللغة، الأسلوب، المرجعيات الجمالية، التجارب الذاتية، المشاغل والتوجّهات أو ببساطةٍ الفئات العُمرية؟

سارة حبيب: مساء الخير، أنا أوافق الدكتور محمد بأنني لستُ مع تصنيف الأدب بالشبابي،  طرفة بن العبد مثلاً كتب مُعلّقته بعُمر العشرينات، حين نستخدم كلمة أدب الشباب فكأننا  نعطي سِمة نقدية أو كأننا نقول هذا أدب بدايات أو غير ناضِج، أنا أعتقد بأن التصنيف بحسب العُمر هو تصنيف ظالِم للكاتب وأفضّل بأن تصنّف المادة نفسها. هناك أنواع من الكتابات فيها روح شبابية، وهناك أيضاً مَن يتّجه إلى النموذج العمودي، فتشعر حين تقرأ لهم بأن كاتبها كبير في السن، لذا أنا أفضّل بأن يصنّف الأدب نفسه ويحدّد عُمره. أعتقد أن هذا الأمر يتجلّى في اللغة، في الأسلوب وفي مدى قُدرة الكاتب على التجديد. 

 

بيار أبي صعب: دعونا نتحدّث عن جيلٍ أدبي، بدلاً من الحديث عن أدبٍ شبابي اتفقتوا على أن هذا المفهوم مطّاط ولا ينطبق بالضرورة على الشعراء، ولكن لنتحدّث عن جيلٍ أدبي، هلا يمكننا أن نجمع مجموعة من شعراء اللغة العربية طبقاً لحساسية مُعيّنة أو مرحلة زمنية مُعيّنة أو مدرسة مُعيّنة فنقول هذا جيل أدبي كما كانت عليه الحال في الستينات والسبعينات.

 

سارة حبيب: في مرحلةٍ أقدم قليلاً من الكتابة بدا وكأن هناك مَن يكتب مُتأثّراً بمثله الأعلى، هناك أشخاص أدونيسيي الهوى أو بتحريين أو درويشيين، مع عصر الحداثة شعرتُ بالنسبة لأبناء جيلي والجيل السابق أن هناك قتلاً للأب الأدبي، وبدأنا بالكتابة كما لو أننا نتحدّث عن ذواتنا، تخلّصنا من فكرة القُدوة أو ضرورة الكتابة وفقاً لنمطٍ مُعيّن يشبه شخصاً مُعيّناً. تعدّدت الأصوات والأشكال حتى أنه يمكننا القول إن كل شاعر بات يشبه نفسه ويكتب بنمطه الخاص سواء كانت هذه الكتابة ناجحة أو فاشلة، لذا أنا لا أفضّل التصنيف ضمن قالب واحد.

 

بيار أبي صعب: سنتوسّع لاحقاً بهذه الفكرة سارة حبيب من اللاذقية. أتوجّه إليك أستاذ خلف جابر، أنت كتبتَ مُبكراَ وحقّقتَ الرواج بسرعة، مَن هو جيلك الأدبي؟ هل تشعر بالانتماء إلى جيلٍ مُعيّن؟ كيف تُعرِّف بتجربتك الأدبية؟ هل تصنيف الأدب الشبابي يناسبك وينطبق عليك؟

 

خلف جابر: في البداية مساء الخير، سأتحدّث عن مفهوم أدب الشباب وأقول إن مثل هذه التصنيفات قد تكون وُضِعت للتصنيف الأكاديمي برأيي ليس أكثر، لكن فكرة أدب الشباب هل هو الأدب الذي يكتبه الشباب أم الأدب الذي يتناول المواضيع المُتعلّقة بالشباب ومشاكلهم وأزماتهم، الأدب الذي يكتبه جيل الشباب أم الأدب الذي يتناول المواضيع الخاصة بالشباب، كما هي الحال بالنسبة إلى أدب المرأة أو الأدب النسائي، فهل هو الأدب الذي تكتبه المرأة أم الذي يتناول قضايا المرأة في العالم العربي أو العالم. بشكلٍ عام أدب الشباب هو مُصطلح مطاطي، أغلب المُصطلحات بشكلٍ عام وُضٍعت لتسهيل الدراسة باستثناء بعض الأشكال الأدبية التي لها سٍمات واضحة مثل أدب الرُعب، أدب الجريمة، أدب الطفل الذي يحتاج إلى مُقوّات وسِمات مُعيّنة في الكتابة، لكن حين نقول أدب الشباب برأيي فإن المقصود هو ما يكتبه الشباب، وقد ==يكون الأصلح برأيي أن نتحدّث عن أدب البدايات، فبالتالي ما كتبه مثلاً نجيب محفوظ في "الحب فوق هضبة الهرم" الذي يتناول قضية الشباب وما يواجهونه من أزمات مثل الزواج أو غيره من القضايا الاجتماعية هل هذا يُعدّ أدب شباب؟ وهل ما كتبه الأدباء الكبار في مراحل عُمرية مبكّرة هو أدب شباب أم باعتبار أننا ننظر إليهم الآن من المستقبل وبعد اكتمال تجربتهم لا ينفع أن نطلق عليه مُصطلح أدب شباب، فبالتالي يمكننا أن نُسمّيه أدب البدايات وهذا المُصطلح قد يندرج ضمنه كل مَن سبقونا، ولكن هل يمكن تصنيف الأدباء إلى أجيال؟ بالتأكيد، اشتراكهم في حُقبةٍ زمنيةٍ مُعيّنةٍ، في عَقْدٍ زمني يضعهم تحت مُسمّى جيل أدبي، جيل الروّاد في مصر مثل طه حسين والعقّاد وغيرهما مروراً بجيل الأربعينات والخمسينات والستينات والسبعينات وصولاً إلى الألفية، هؤلاء هم أجيال ادبية. نصل إلى السؤال الأخيرة هل أنا أنتمي إلى جيلٍ واضح؟ هذا طبيعي، أنا أنتمي إلى جيل ما بعد ثورة يناير في مصر بعد 2011، هذا الجيل تشكّل حامِلاً بعض القضايا وبعض الانتصارات وبعض الخيبات وبعض السِمات الأدبية المُشتركة، فبالتالي أصبح يمكننا وضع هذا الجيل أو تسميته أو جَمْعِه أو تصنيفه بشكلٍ أكاديمي بجيل الشباب، مَن بدأ الكتابة معي وتعلّمنا سوياً والتقينا في الكتابة وفي المواضيع  وجَمَعتنا روابط مشتركة سواء على المستوى الأدبي أو الإنساني أو المَعْرفي، وربّما هذا ما حدث مع كل الأجيال السابقة. هناك جيل تشكّل وحقّق نجاحاتٍ كبيرة في مجال الرواية والشعر وغيره من صنوف الإبداع. في الرواية هناك مَن وصل إلى  مكانة كبيرة جداً. ربما قضايا الرواية والشعر يتقابلان، ما يكتبه الشاعر كتبه الروائي بشكلٍ يناسب القالَب أو العالم الذي يتحرّك فيه بهموم المجتمع وما يمرّ في تلك الحقبة تحديداً.

 

بيار أبي صعب: طلبنا من الشاعر التونسي أنيس شوشان أن يحدّد لنا أدب الشباب فإذا به يُحاكم جيله في زمن الشُهرة السهلة، شَهرة المشاهَدات واللايكات.، كُن بلا موقف نجعل منك أيقونة، نشاهد معاً.


أنيس شوشان: أنا امتدادٌ لكل مَن سبقوا فلو لم يكونوا هم لم نكن نحن، ولكنني أيضاً نِتاج مجتمعي بكل انهزاماته وانكساراته وانتكاساته وإحباطاته وطموحاته وانتصاراته وأحلامه، فأنا إبن جيلٍ شَهِدَ الانتفاضة الفلسطينية الثانية وغزو العراق. أنا إبن جيلٍ حَلِم بتغييرٍ حقيقي وبحياةٍ حقيقية فعوقِبَ على حُلمه، أنا إبن جيلٍ شهيد وشاهِد، شهيد حُلم وهو على قَيْد الحياة وشاهِدٌ على انحدار وانهيار وتفكّك مجتمعه، مجتمعٌ يضرب عَرْض الحائط القِيَم والأخلاق والموروث والتاريخ والهوية باسم التطوّر، وهو يهرول بخُطىً ثابتة نحو الانهيار. أنا إبن جيلٍ ما عاد يكترث بالأثر أو بالرمز، المقياس للنجاح هو الشُهرة، شُهرةٌ بلا ضوابِط، شُهرة بلا أخلاق، شُهرةٌ معيارها الوحيد هو المُشاهَدات، فالمعادلة أضحت سهلة ليس فقط في العالم العربي بل في العالم بأسره. كُن بلا موقف، كُن بلا شرف وسنجعل منك أيقونةً ورمزاً وقُدوةً ومثلاً للنجاح يُحتذى به. عندما نقول إن غزّة كاشِفة فغزّة لم تكشف الأنظمة فقط بل كشفت ما يُسمّونه نجوماً فالفن المُلتزم والفن الذي يحمل رسالةً وموقفاً ما عاد له وجود إلا القليل القليل. بالنسبة لي أناً شخصيّا لديّ جمهور في جميع الوطن العربي وخارجه، لديّ أيضاً قصائد مُتَرْجمة ولطالما مَن تَبِع المدافعين عن الحق كانوا فئة قليلة.

بيار أبي صعب: محمد تحدّثنا عن جيل السبعينات، هذا الجيل الذي تمرّد على الموروث، على المُكرّس قبله وحقّق حضوراً حقيقياً بالمضامين، باللغة، بالأشكال، أعرف أننا لا نستطيع ان نُعمّم لأن هذا يتغيّر من بلدٍ إلى آخر ومن تجربةٍ إلى أخرى، ولكن بشكلٍ عام هل يمكننا القول بأن هذا الجيل الجديد أعلن القطيعة والتمرّد، هل هو جيل بلا مرجعيات وبلا نماذج أفكار مُسْبقة ثابتة؟ هل هو جيل تغيير؟ هل هو جيل بلا آباء؟  تحدّثت الأستاذة سارة حبيب عن فكرة قتل الأب هل هو جيل بلا آباء فعلاً؟

 

محمد ناصر الدين: أستطيع القول بأن هذا الجيل حقّق القطيعة بمجموعةٍ قليلة من الشعراء على الأقل في لبنان، الجيل أنشأ قصيدة بقماشةٍ ثقافيةٍ مقبولةٍ. أنا أرفض ==الاتّهامات بأن هذا الجيل خصوصاً الذين يرفضون تداول السلطة الشعرية، هناك أحكامٌ إسقاطية بأن هذا جيل التفاهة والضَحالة، هناك أربعة أو خمسة شعراء على الساحة اللبنانية اليوم يمكننا تصنفيهم كشبابٍ بكتاباتهم وأعمارهم استطاعوا قتل الأب بالمعنى الفرويدي، هذا لا يعني بالضرورة أنهم قطعوا مع التراث العربي مع ألفي سنةٍ من القصائد، هم يعرفون القصيدة العربية الموزونة الكلاسيكية واستطاعوا أن يحكيوا سجّادتهم الخاصة بقماشةٍ ثقافيةٍ جميلة.  

 

بيار أبي صعب: صحيح، السؤال هو على مستوى الشكل واللغة والأسلوب القُدرة على الذهاب إلى تجريب آخر.

 

محمد ناصر الدين: هي لغة جيّدة ولكن بقلّة قليلة، هنالك مَن حملوا المِشْعل ويطرحون القضايا الحقيقية، ليس الجميع أنكروا فلسطين أو جنوب لبنان، أنا أرى أن هناك كتابة تحاول أن تُحيك الذاكِرة الجنوبية. سألنا ذات مرةٍ الشاعر الراحل محمد علي شمس الدين لماذا لم تُنْتِج المقاومة الإسلامية في لبنان أدباً؟ اللافت في هذه الفترة أن هناك جيلاً من الشباب بدأ يلتفت إلى هذه الذاكِرة وإلى هذا التُراث، انا برأيي أن هذا جيل لديه أصالة ولم يقتل آباءه ولم يتنكّر للقضايا، ربّما قتل الآباء السائدين اليوم وهم آباء الخيانة.

بيار أبي صعب: هؤلاء يستحقّون القتل بالمعنى الرمزي.

محمد ناصر الدين: من خرج عن السائد والمألوف وبدأ يكتب تاريخه على المستوى القصصي والروائي. على المستوى الشعري في العالم العربي لستُ مُتشائماً، أنا لستُ مع الإفراط الذي يُظهره العالم الرقمي، هناك نماذج يحاول فرضها علينا. في كل بلد هناك قلّةّ تُنْتِج أدباً أصيلاً جميلاً، علاقتها مع اللغة جيّدة جداً، قادِرة على سَرْد الرواية وكتابة قصيدة مُكثّفة، وقادِرة على أن تكون على علاقة جيّدة بتاريخها.

بيار أبي صعب: أي أن هناك جيلاً له ملامح. نعود إلى اللاذقية لنسأل الأستاذة سارة حبيب، كيف يكون التمرّد بالنسبة للجيل الجديد في مرحلة التمزّقات والأزمات، تمرُّد جَمالي وأسلوبي بحت، تمرُّد في اللغة وعلى اللغة أم تمرُّد وجودي أم تمرُّد سياسي واجتماعي أي تمرُّدٌ يبحث عن خلاص فردي أم لا يزال يسعى الى إلتحرّر والعدالة والتقدّم وإلى ما هنالك من قضايا كبرى؟

سارة حبيب: أن تتخلّص من فكرة القُدوة بأن تكتب مثله أو أن تلتزم بشكلٍ مُعيّن =هو واحدٌ  من تَمَظْهُرات هذا التمرّد، ويتجلّى خصوصاً بالشكل أكثر منه في المواضيع، مواضيع الكتابة عموماً محدودة، منذ زمن قال عنترة "هل غادر الشعراء من مُتردّم"، المواضيع محدودة ونحن ندور حولها فتجديدنا وتمرّدنا يظهر في الشكل، ولهذا بدأت تظهر أنواع جديدة من الشعر وأحياناً يصعب تصنيفها إذا ما كانت نثراً أو هل هي قريبة أو مُتأثّرة بالهايكو, أنا مثلاً أكتب بالإضافة إلى الشعر ما يُسمّى بالنصّ المفتوح، الإسم بحد ذاته يعكس التمرّد، نصّ مفتوح شكلياً لا يهتمّ بالقوالب ولا أن يشبه شكلاً معيّناً. هذا التمرّد الشكلي يعكس تمرّداً وجودياً وتمرّداً على الأفكار نوعاً ما، الأفضل في الأدب أن يعكس الشكل مضموناً مُعيّناً. إذاً هناك تمرُّد وجودي ولكن كما قال الدكتور محمد كمان نحن لسنا جيل تفاهة أو لا نحمل قضايا، ولكن هذا لا يعني أن علينا جميعاً أن نكتب عن قضيةٍ معيّنةٍ، هناك أمور يمكن أن تكون قضيّتنا وبوصلتنا ولكنها ليست من النوع الذي نكتبه، كتاباتي مثلاً ذاتية ولكن هذا لا يعني أنني لا أكترث بالقضايا الوطنية ولكنني أتفاعل معها وأكتب عنها بطريقةٍ أخرى. هذه الذاتية كما تُشبهني فهي تُشبه جماعتي وتعبّر عنها سواء بشكلٍ واعٍ أو لا واعِ. 

 

بيار أبي صعب: سأُفشي لك سرّاً سارة، كنا نتحدّث تحت الهواء مع الأستاذ محمد الذي هو قارئ وناقِد مُتَمَهّل وناقد، قال لي إن لديكِ تجربة شعرية استثنائية ومدح بك. نعود إلى القاهرة، أستاذ خلف جابر دعني أطرح عليك السؤال انطلاقاٍ من =تجربتك الشخصية، الشعر العامي في مصر يكاد يكون نوعاً أدبياً على حِدَة بفضل شعراء عمالقة من فؤاد حداد وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وغيرهم، لكن أما زالت لهذا الشعر المكانة نفسها في جيلكم ما الذي أخذك إلى الشعر العامّي؟ 

خلف جابر: لا زال للشعر العامّي نفس المكانة في الجيل وفي الشارع ، هو أقرب وسيلة للتواصُل مع الناس عبر تقديم القضايا الكبرى والأفكار الكبرى بلغةٍ بسيطة وبناء بسيط، فبالتالي هذا ما سيُبقيه موجوداً ومطروحاً ومطلوباً ومرغوباً سواء من الشباب الذين يبتدؤون مشوارهم الأدبي ويبحثون عن شكلٍ أدبي ناجح ومناسب مناسب لتكوينه النفسي والاجتماعي والسياسي حتى، الشعر وتحديداً العامّي هو أزْيَد من الأشكال الأدبية الأخرى في استهدافه للناس والوصول إلى المساحة العريضة من الناس أو الجماهير لأن غاية الأدب في الأساس هي الوصول إلى الناس وتغييرهم أو تحريكهم أو الاشتباك، فالشعر العامّي لا زال موجوداً في مصر بشكلٍ قوي وكبير وقد ذكرتُ لك نماذج من الشعراء الشباب الذين حقّقوا نجاحاتٍ أدبية على مستوى الجوائز أو نجاحات في الشارع بأشكالٍ غنائية مختلفة بتناولهم القضايا المُعاصِرة، ذكرنا منهم مصطفى إبراهيم في أغنيته الأخيرة "تلك قضية" التي تحدّث فيها عن طوفان الأقصى وقد تعلّق الشارع بها بشكلٍ كبير، فكيف للشاعر أن يقدّم هذه القضية بتفاصيلها وتعقيداتها بشكلٍ أدبي بسيط وجميل ومطلوب وناجح، فبالتالي هذا الشكل الأدبي موجود بقوّة ومطلوب وناجح وحقّق جماهيريّة كبيرة بين الشباب وبين الأدباء الشباب. 

 

بيار أبي صعب: أنت أيضاً لديك تجربة في كتابة كلمات الأغنيات.

 

خلف جابر: نعم قدّمتُ بعض الأغاني مع الفنانة فيروز وصنعتُ بنداً موسيقياً مع صديقي الموسيقي أحمد مصطفى حيث نقدّم بعض التجارب الغنائية سواء كتابة ولَحْناً وغناءً من صديقي أحمد، وهي محاولة حثيثة للاشتباك مع القضايا التي تحمل طابعاً اجتماعياً مثل أغنية "يا غلابة" التي تناقِش بعض الأوضاع الاجتماعية للناس أو "بتلف بيك السنين" التي تناقش قضية رومانسية بشكلٍ يُعدّ أدب شباب لأن الحبّ هو قضية شبابية في الأساس.

 

بيار أبي صعب: قضية عابِرة للأجيال.

 

خلف جابر: نعم، الحبّ قضية إنسانية لكنه بالأساس أدب شباب، نحن نقدِّم الحفلات للوصول إلى الناس بشكلٍ كبير.

 

بيار أبي صعب: فاصل قصير ونعود.

 

أهلاً بكم مجدّداً أعزّائي المشاهدين في هذه الحلقة من على محمل الجد، إسمحوا لي أن أعيد الترحيب بضيوفي: محمد ناصر الدين في بيروت، سارة حبيب في اللاذقية وخلف جابر في القاهرة. نصل إلى الجزء الثاني من الحلقة وهو على محمل النقد، الشاعر العراقي عامر الطيّب يرفض التصنيف النَمَطي للمُبدعين لكن لنسمع جيّداً ماذا يقول.

 

عامر الطيّب: مُصْطَلح الأجيال يبدو لي مُصْطَلحاً نمطياً إذا كنا نتحدّث عن عدد من الشعراء الذين يكتبون بطريقةٍ واحدة، أما إذا كنا نتحدّث عن وحدة الموضوع فهذا مُصطلح حتمي لأن كل زمن يفرض موضوعه على الشعراء أو على الفنانين أو على البشر جميعاً، ومن هذا الباب فإن مفهوم الجيل حقيقةً لم يعد مفهوما ًمؤثّراً لأن العصر الذي نعيشه الآن هو عصر مُشتّت، عصر فوضوي، وبالطبع فإن شعراء هذا العصر ليسوا شعراءً مُلتفّين حول مفهومٍ مُعيّن وهنا نرى أن أغلب الشعراء اليوم تجمعهم صفة العُزْلة، ولذلك عندما نتحدّث عن ملامِح جيل سنجد أن عدداً من الشعراء لا تجمعهم ملامِح مُحدّدة إنما يجتمعون حول خاصية العُزْلة، وأعتقد أن هذا الموضوع يخدم روح الشعر لأن الشعر ينبغي أن يكون صوتاً خاصاً وليس صوتاً جماهيرياً أو صوتاً جماعياً.

بخصوص مُميّزات هذا الجيل إذا تحدّثنا عن المفهوم الذي طرحناه فإن هذا الجيل الشعري الجديد هو جيل يائِس، برأيي أهمّ ما يلتقي معه شعراء هذا الجيل هو اليأس والإحباط من السلطات، من المؤسّسات. سابقاً كنا نتحدّث عن قلّة دور النشر أو قلّة فُرِص النشر، الآن نتحدّث عن ابتذالها. اليأس الذي يجتمع حول شعراء هذا الجيل برأيي هو من أهمّ المُغذّيات للكتابة وإلا فإن عدداً كبيراً من الشعراء اليوم ربّما هم مُهدّدون بمُغادرة هذه الموهبة والاتجاه إلى مواهب أخرى مثل الرواية والقصّة بسبب الإحباط الذي يعيشوه، لذلك أنا أعتبر أن الاستمرار بكتابة الشعر هو انتصار على الوضع الذي نعيشه، وهو انتصارٌ لليأس الذي نُعانيه. فهنا الشعر هو صيانة هذا اليأس، اليأس الذي يجعلنا أو يُبقينا شعراء.

 

بيار أبي صعب: محمد ناصر الدين معك من جديد، من خلال مُتابعتك للتجارب الإبداعية العربية هل يمكننا القول إن هذا هو جيل اليأس والإحباط؟ جيل اللا مستقبل؟ لماذا لا يكون جيل الأمل أو جيل الغضب أو جيل ما بعد غزّة؟

 

محمد ناصر الدين: هو جيل ضبابي، كما =ذكرتَ في المُقدّمة هناك أرخبيلات تُفضي إلى أماكن كثيرة، تُفضي إلى اليأس، إلى الأمل، إلى الغضب، هناك أيضاً  تجارب كما يقول المُفكّر الإيطالي غرامشي إن "الجديد لم يولَد بعد والقديم لم يمُت بعد وما بينهما أهوال عظيمة". هذا هو جيل الأهوال العظيمة، ما حدث في غزّة وجنوب لبنان يحتاج منا إلى ثلاث سنوات تقريباً لنراها عن بُعد مثل الشخص الذي يُبعِد الصفحة عنه لكي يستطيع أن يكتبْ.  أنا أرى بأن الأدب سيختمر، هذه التجارب العظيمة القاسية حيث يرى الإنسان الصواريخ التي تفتك باللحم العاري وببيته وبأرضه ستجد سبيلها في الأدب، سيكون هناك غضب كبير وشامل إضافةً إلى السُخرية السوداء التي نراها اليوم مع ترامب وغيره، أستعير جملة عباس بيضون "أعيش مُحاطاً بكل هؤلاء الذين جعلوني وحيداً". مَن يكتب الشعر لا يكتب مهرجاناً فلكلورياً للدبكة على الفايسبوك. الإنسان يصنع تجربته وأظنّ أن هذه التجارب الشخصية بعضها يحمل عناوين اليأس، بعضها يحمل الغضب وبعضها الآخر يحمل المقاومة الشخصية التي تتحوّل لاحقاً إلى حالٍ عامة في الكتابة ولكنني لا أستطيع أن أمسك بصفةٍ واحدةٍ مثل الغضب أو اليأس أو الفرح أو الأمل.

 

بيار أبي صعب: هو جيل الأهوال، شكراً. أعود إليك أستاذ خلف جابر في القاهرة، ما هي أهمّ سِمات الأدب الشبابي في مصر اليوم؟ هل بوسعنا أن نتحدّث عن ثقافة الهامِش أو أدب المُهمّشين؟ 

 

خلف جابر: للإجابة على سؤال حضرتك كيف ننظر إلى الجيل أو الأدب بشكلٍ عام؟ هل هو أدب يائس أو أدب ضبابي؟ أنا أرى أنه أدب المحاولات، حتى الهزيمة بحدّ ذاتها هي محاولة لتحقيق انتصار، أصدقاؤنا لم ينهزموا في الكتابة ولم ينهزموا في الحرب، نحن نحاول أن نكتب نحاول أن ننتصر. ربما ننهزم مرة ولكننا نسعى دائماً لتحقيق نصرٍ واحد. نحن نسمّيه جيل المُحاولات حتى في هزائمه وحتى في كتابته وحتى في حروبه وحتى في طوفانه، هي كانت محاولة نصر مثل محاولاتنا لتحقيق الأدب والكتابة. السِمات العامة التي يشترك فيها الجيل الحالي لا تنفصل عن سِمات المجتمع، ربّما لا يشعر بالهزيمة لكنه يشعر بالخيبة، الخيبة من جهاتٍ كان يأمل بأن تقف في صفّه أو في صفوف بعض القضايا أو أهمّ القضايا ولم يُنْصِفوه. هذه الخيبة ربما تُتَرْجم في شكل غضب كما قال صديقي لأن الكاتب لا يُهْزَم بل يكتب يكتب، يدوّن الهزيمة ويُسجّل وقائعها ويُسجّل مَن خذلوا ومَن ساندوا ومَن أيّدوا ومَن انتصر ومَن هُزِم. بشكلٍ عام الأدب لا ينفصل عن سِمات المجتمع الحالي، إذا كان المجتمع مُنْهَزِماً تكون السِمات انهزامية. الأدباء هم في حالٍ من الغضب وفي حالٍ رَصْدٍ وهذا الرَصْد سيُترجم قريباً ويظهر بشكلٍ أوضح يعني. 

 

بيار أبي صعب: الدم الفلسطيني والعربي المسفوك يكاد يُغطّي اليوم على كل ما عداه بما في ذلك أدب الشباب. جيلنا كُتِبَ عليه أن يعيش في زمن الخراب العربي لذلك تبدو نصوصه أكثر حِدَّة وأكثر قلقاً وأكثر تمرّداً، أدب الشباب يخرج اليوم من تحت الرُكام، هذه شهادة الشاعر الفلسطيني جواد العقّاد، نشاهد معاً. 

 

جواد العقاد: فلسطين قضية مركزية في الأدب العربي وجَذْر غائِر في عُمق النصّ الأدبي، وسؤالٌ لا يُحْسَم وجُرْح لا يُشفى فمنذ أولى القرى التي سقطت في فلسطين والحبر شقيق الدم ومرآة له ونديمه. الأدباء والشعراء الفلسطينيون كتبوا من داخل المذبحة، من شظايا البيت ومن التيه ومن المنفى، وكان العربي من المحيط إلى الخليج يرى في فلسطين امتحان شرف، لذلك تجسّدت فلسطين وقضيّتها إنسانياً وسياسياً في النصّ الأدبي يقيناً غير قابل للمُساومة وحُلماً لا ينتهي، حتى الأدب العالمي حين أراد أن يكون أخلاقياً اقترب من هذه القضية. أدب الشباب اليوم يخرج من تحت رُكام، من تحت أنقاض الذاكِرة المُمزّقة، يكتبون عن الحب الممنوع، عن الوطن، عن الأوطان العربية التي صارت خريطة من دم. منظومة القِيَم التي رافقت الأجيال السابقة، القومية والوحدة العربية والكثير من =المعاني والقِيَم السامية اليوم اندثرت، لكن وسط هذا الانهيار الكبير ما يزال هناك أفق فالأدب حين يُكْتَب من الداخل، من وجع الجسد، من حِصار المخيّم، من ارتباك المدينة يصبح وثيقة بقاء لا تعرف الانهيار أو المحو والشَطْب. فالشاعر أو الكاتب الحقيقي هو مَن يُصرّ دائماً على أن يكون حارساً للمعنى في زمن الخديعة وأن يضع مسافة أمان بينه وبين النفاق وبين الزّيْف وبين أضواء الطارئين في المشهد الثقافي والسياسي. 

أقرأ مقطوعة من قصيدة لي "تعكّر دمي الشعارات وأسأل الضحايا، لم يبقَ من أسمائهم إلا الحَسْرة ومن أجسادهم رائحة الليمون تعانق غزّة وتحميها من القنابل، جوع الأطفال يقرع جدران قصائدي يا بلاد وأنا لكِ قصيدة حبٍّ فأعود مخذولاً إلى يأس الشوارع وأسأل يا رفيقة العُمر القادم صرتِ البلاد فهل البلاد تهاجر؟".

بيار أبي صعب: أستاذ خلف جابر اسمح لي أن أطرح عليك سؤالاً أخيراً عن القّراء، هل الأدب الشبابي له جمهوره؟ لقد تحدّثتَ عن الشارع الذي يتفاعل مع الشارع العاميّ ولكن بشكلٍ أشمل هل تساهم الوسائط الجديدة ومنها الكتاب الصوتي مثلاً وأعرف أن لديك تجارب في هذا المجال في انتشار هذا الأدب لدى شرائح جديدة من الجمهور؟

خلف جابر: ربّما الموجود حالياً بشكلٍ أكبر وأبرز هو الكتابة الشابّة بين الجمهور، الكتب الأعلى مبيعاً حالياً هي لأحمد مراد في رواياته "الفيل الأزرق" أو "فيرتيجو" أو "تراب الماس"، هناك أيضاً محمد صادق في روايات "هيبتا" و"طه الغريب" وغيرها، ونجد أدب الرُعب، وسنجد أن أدب الشباب هو الموجود بشكل قوي بين الجمهور حالياً من خلال الأرقام ومن خلال تتّبعنا لقوائم الأعلى مبيعاً أو الأعلى استماعاً لأنك أشرتَ إلى الكتاب الصوتي. هل الوسائط الجديدة من فيسبوك وغيره تساعد في الانتشار؟ بالتأكيد، مرحلة الانتشار هذه ربما تكون مرحلة تسويقيّة فالكاتب فيها أو دار النشر أو غيرها يستخدم كل الوسائط المُتاحة سواء التلفزيون في مراحل ما أو الصحافة كما كان أدباؤنا الكبار في مراحل سابقة يستخدمونها في الدعاية لأعمالهم الأدبية، فبالتالي السوشيال ميديا حالياً هي وسيلة وصول أو تواصُل ما بين الجمهور والكاتب. هل الشباب باعتبارهم الأكثر إدراكاً وفَهْماً لهذه الوسائل كان سبباً في أنهم الأعلى انتشاراً والأعلى مبيعاً؟ ربّما بسبب إدراكهم لطبيعة هذه الوسائل الجديدة أو الحديثة جعلهم يسبقون الكتّاب الكبار في المبيع أو في الانتشار، فالوسائل الجديدة تساعد على الانتشار وهي علاقة رَبْط ما بين القارئ والكاتب بالتأكيد. الكتاب الصوتي هو أحد وسائل الوصول إلى المُستمع، القارئ حالياً أصبح مُستمعاً للكتاب الصوتي لأن الإنسان دائماً يبحث عن السُبل الجديدة والطُرق الأسهل والأيسر، فالكتاب الصوتي هو كتابٌ يواكِب تغيّرات العصر ويناسب الشخص الذي يقود سيارته ويحب أن يستمع إلى كتاب أو لشخص ينتظر قضاء حاجة مُعيّنة أو في المطار أو غيره، فالكتاب الصوتي هنا أصبح وسيلةً معرفية تناسب العصر أكثر من الكتاب الوَرَقي ولكن هذا لا ينفي بقاء واستمرارية وقوّة وحضور الكتاب الوَرَقي، فالوسائل الجديدة هي وسائل مؤثّرة بالفعل سواء السوشيال ميديا أو غيرها من الوسائل.

 

بيار أبي صعب: ممتاز، شكراً لمساهمتك وحضورك. أستاذة سارة حبيب كيف ينعكس تغيُّر الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي والتكنولوجي على الكتابة الجديدة؟

 

سارة حبيب: الكتابة الجديدة تعكس مرحلتها، بالإضافة إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تؤثّر أُضيف هذا البُعد التكنولوجي أو الرَقمي الذي لم يؤثّر فقط على المواضيع التي نكتبها بل أثّر أيضاً على شكل كتابتنا، فبدأنا نرى روايات تشعر كما لو أنها مشهديات فيسبوكيّة تشبه النصوص الآنيّة. قرأتُ ذات مرة رواية لكاتبة أميركية إسمها "حيث أجد نفسي"، تشبه النصوص التي نكتبها حينما يسألنا الفايسبوك بماذا تفكّر الآن. كتابتي لأنها ذاتية وآنيّة تشبه هذه الحال التكنولوجية المُغرقة بالحاضر والآنيّة، وأثّرت على شكل نصوصنا بحيث أصبحت مُكثّفة أكثر وأقصر، وأثّرت أيضاً على القارئ بطريقةٍ قد يراها البعض سلبية. لم تعد لدينا القُدرة على قراءة الأدب القديم المُثْقل بالتفاصيل، قصيدة النثر هي واحدة من تَمَظْهُرات هذه الحداثة التي تقدّم الفكرة بأقصر شكل ممكن.

بيار أبي صعب: أشكرك سارة حبيب من اللاذقية، محمد ناصر الدين هناك ما له علاقة بالثقافة الشابّة أو النصّ الأدبي الشاب والثقافة البديلة، هل الفايسبوك هو فضاء حرية وابتكار بالنسبة إلى جيل تجاوز الرقابة ووسائل النشر القديمة، الورق، الناشِر، الجريدة إلى آخره ==وإعطاء فضاء للتعبير والحصول على دائرة كبيرة من القرّاء ربّما لا يقرأون الكتاب أو الجريدة، في المقابل حال الزمن الرقمي هذه التي نعتبرها فرصةً لإعادة التواصُل والاتصال بالعالم هل يمكنها أن تخلق فوضى واعتباطية وغياب معايير بحيث يمكن لأيّ أحد أن يكتب ما يشاء؟   

محمد ناصر الدين: نحن اليوم في خِضمّ الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، أجرينا تجربة على قصائد لشعراء مشهورين استطاع الذكاء الاصطناعي أن يقلّد كتاباتهم بطريقةٍ عجيبة. نحن قادمون على عالمٍ جديدٍ مهول، هناك عالم قديم انتهى الذي كان الشاعر يتدرَّج فيه عبر الصحيفة، جميعنا كتبنا في الجرائد وعليك أن تحظى بالمقبولية في قصائدك وفي نقدك كما هي حال التدرّج في مهنة المُحاماة ليتمّ الاعتراف بك لاحقاً. السائد اليوم هي دور النشر التي تلتزم بمعايير العَوْلَمة وتحاول أن تفرض عليك الكتابة بطريقةٍ معينة للحصول على جائزة معيّنة، ما يُسمّى اليوم بأدب العولمة أو "البيست سيلر" التي نراها في واجهات المكتبات، هذا الأمر خطير ويقضي على الحرية التي هي القيمة الأولى للكتابة. أنا =شخصياً أنتمي إلى جيلٍ قديم يحب القلم، ولا زلتُ أتَرْجم على الورق، لا يمكننا أن نرفض الفايسبوك بشكلٍ كامل، العملية التي تؤدّي إلى المنتج الأخير تغيّرت بالكامل على الفايسبوك ولكن هذا الأخير ينتج فقاعات هواء بحيث يمكن لأيّ شخص لا يملك الموهبة أن ينال الآلاف من اللايكات على نصّ لا يستحقّ.

 

بيار أبي صعب: هذه فكرة كل مواقع التواصُل الاجتماعي وليس الفايسبوك تحديداً بل كل العالم الافتراضي الذي يجعل منك شاعراً خلال أربع وعشرين ساعة.

 

محمد ناصر الدين: برأيي أن الكتاب لا يزال يثبت حضوره، حين يُقال أمامي تعبير شاعر فيسبوكي أشعر بالخفّة، الشعراء المستمرّون هم الذين تستطيع أن تستخلص منهم "الزبدة" في هذا الفضاء الفوضوي والأرخبيلات ويقدّمون لك شيئاً مُركّزاً. هناك دور نشر في لبنان تقدّم أموراً مهمّة تقوم بالغربلة وإنتاج سلسلة شبابية، مثلاً دار النهضة أصدرت سلسلة عربية شبابية من أناس كنا نظنّ أنهم يكتبون على الفايسبوك فقط.

 

بيار أبي صعب: من العالم الافتراضي إلى الكتاب. 

محمد ناصر الدين: لديهم مشروع شعري جيّد.

بيار أبي صعب: نختم بفكرة العودة إلى الكتاب رغم كل شيء.

محمد ناصر الدين: نسينا أن نتحدّث عن البطركية الثقافية، هناك جيل جديد يُصدر الكتب وعلينا أن نشجّعه، على الشعراء ==المُكرّسين والمُخَضْرمين أن يسمحوا بتداول الأجيال وتداول السلطة الشعرية، الاعتراف جيّد. هناك مقدّمو برامج كبار في العالم العربي يأتون إلى لبنان  ولا زالوا يتوقّفون عند أشخاص بعُمر الثمانين ولا يألون جهداً في البحث عن الأسماء الجديدة. الشعراء المُخَضْرمون عادةً يوجّهون النصيحة للشاعر الشاب أما أنا اليوم فسأوجّه نصيحة إلى الشاعر المُخَضْرم وسأقلب ظهر الميزان، "أكثِر من الفراغات البيض فوق الصفحة كإشارت الطرق، فرّق مثلاً الأحرف الستّة من سبتمبر، يمكنك أيضاً أن ترسم زهرة عبّاد الشمس الصفراء، خذ وقتاً كافياً وأنت تثبّت رأسها بخمس وريقات أو ستٍّ أو ثمان، الأهمّ هو أن تجعلها تدور".

بيار أبي صعب: أشكرك محمد نصر الدين على مساهمتك. كلمة الختام للشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه من كتابه "رسائل إلى شاعرٍ شاب" 1929 "لا أحد يستطيع أن يقدّم لك النُصح أو المساعدة، لا أحد، ليس هناك إلا وسيلة واحدة، عليك الغوص في ذاتك،عليك أن تفهم المنطق الذي يدفعك إلى الكتابة. تأكّد أن جذوره تمتدّ إلى أعماق فؤادك وافحص ضميرك، تُرى هل منعك من الكتابة سيحكم عليك بالإعدام؟".

وأيضاً نستعيد كلمات الشاعر اللبناني الراحل محمد العبد الله من مقدّمة ديوانه الأول "رسائل الوحْشة"،" إننا أصعب جيلٍ لأصعب مرحلة لأننا مضطرّون أن ننتزع أشواكنا بأيدينا، ولأننا لم نرث سوى هزيمةٍ فاحِشة ولم نتزوّد سوى بمجهولٍ آت، وعلينا لكي نعرف أيّ شيء في أية زاويةٍ مُظْلِمة أن نشتعل فيها لأننا نبتكر حريّتنا قَيْداً قَيِداً وفضاءً فضاءً بينما المقصّ يتدخّل بين الشهيق والزفير، ولأننا مضطرّون الآن لحريتنا كلها، إننا على عتبة الشعر". 

أشكر ضيوفي على وجودهم معنا: محمد ناصر الدين والأستاذ خلف جابر والأستاذة سارة حبيب، شكراً لمتابعتكم وإلى الأسبوع المقبل.