سوريا بين الوحدة والتقسيم
يعيش العالم العربي اليوم أحد أخطر مراحله في التاريخ الحديث، حيث تتوالى الأزمات والتمزقات والحروب، من سوريا إلى فلسطين، مرورًا بالعراق واليمن والسودان وليبيا ولبنان. في هذه الحلقة، تُطرح عدة تساؤلات: كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ مَن المسؤول عن فشل المشاريع الوطنية والقومية؟ وهل ما زال ممكنًا إنقاذ ما تبقى؟ نناقش مستقبل الدولة العربية، وسبل تجاوز الطائفية والفساد والاستبداد، ونسأل: من أين يبدأ بناء الدولة العادلة والقوية؟ وكيف نُعيد البوصلة إلى فلسطين، وسط مشاريع إعادة رسم الخرائط وتحقيق "الشرق الأوسط الكبير" و"إسرائيل الكبرى"؟
نص الحلقة
بيار أبي صعب: مساء الخير، لم يعرف العرب على الأرجح في تاريخهم الحديث تحدياتٍ وجودية كالتي يعيشونها اليوم، تمزقاتٌ ومجازر وفتن، أزمات وانهيارات وحروب وعدوان واحتلال وإبادة، كل العوامل الداخلية والخارجية تُسهم في إضعاف العالم العربي وتجزئته. من الجرح السوري المفتوح إلى فلسطين المطلوب تصفية قضيتها مروراً بالعراق وليبيا واليمن والسودان من دون أن ننسى لبنان الرابض على فوهة بركان. مجتمعاتنا ترزح تحت نير الهويات القاتلة، الدول القِطرية يخيّم عليها شبح التفكك والشرذمة، المشروع الوحدوي يواجه التناقضات القبلية والإثنية والمذهبية، وفي قلب الدوامة يجري الحديث عن إعادة رسم الخرائط، عن الشرق الأوسط الكبير، عن إسرائيل الكبرى. كيف وصلنا إلى هنا؟ ومَن يتحمّل مسؤولية فشل المشاريع الوطنية والقومية؟ وكيف نتجاوز اليوم مخاطر التفتّت والبلقنة؟ أما زال من الممكن وقف المدّ الطائفي ولجم العصبيات والتخلص من الاستبداد والفساد؟ ومن أين يبدأ بناء دولة المؤسسات القوية الموحدة الحديثة العادلة؟ وأخيراً كيف نعيد توجيه البوصلة مجدداً نحو فلسطين؟
لمناقشة هذا الموضوع معي الليلة في الاستوديو الباحث والكاتب المغربي محمد شهاب الإدريسي المدير التنفيذي لمعهد الدراسات المستقبلية، في باريس الباحثة والأكاديمية اللبنانية لينا الطبّال، وفي محافزة السويداء السورية الأكاديمي والسياسي جمال درويش، أهلاً وسهلاً بكم. أستاذ محمد أهلاً وسهلاً بك، يمرّ العالم العربي بلحظة من أصعب اللحظات في تاريخه المعاصر والحديث من ضياعٍ إلى شرذمة إلى عنفٍ مضاعف، كيف وصلنا إلى هنا؟
محمد شهاب الإدريسي: وصلنا إلى هنا لعدة أسباب، كل ما جرى في السنوات والعقود الماضية أوصل الى هذه النتيجة في آخر المطاف، فشل الفكر الوحدوي بكل أشكاله، الفكر القومي العربي، القومي السوري، الأممي الإسلامي وحتى الأممية اليسارية التي سقطت مع سقوط الاتحاد السوفياتي وتحوُّل أكثر اليساريين السابقين بسرعة إلى خدم لبعض المشاريع الأكثر يمينية والأكثر رجعية وما إلى ذلك. الدول القطرية بالتأكيد فشلت فشلاً ذريعاً، فشل في التنمية، فشل في في أن يكون هناك مشروع وطني يوحّد الناس، حتى حركات التغيير وحركات المعارضة والانتفاضات والكلام الكبير الذي قيل في الربيع العربي باء وانتهى إلى هذا الفشل الذريع لأنه لم يكن له مشروع ثقافي ولا اقتصادي ولا سياسي، كان فارغاً من أي محتوى، كان هناك فقط شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، تمّ إسقاط أنظمة بالتواطؤ مع بعض الدول العميقة وفتح الباب للحروب الأهلية لأنه في غياب المشروع الوطني، في غياب أي مضمون سياسي واقتصادي واجتماعي وفكري لا يبقى هنالك سوى الغرائز فعاد الناس جميعاً إلى أحضان المشاريع الضيّقة جداً طائفياً ومذهبياً وقبلياً وعشائرياً وما إلى ذلك، فعاد العرب كما كانوا في السابق عبارة عن قبائل يهيمون، يغزون ويسبون، وظهر أن كل ما كان يُقال وكل المشاريع التي كانت تُطرح كانت عبارة عن شعارات كانت تملأ الفضاء ضجيجاً، لكن في الواقع كل شيء تبخّر وعاد العرب كما كانوا في زمن جاهليّتهم الأولى.
بيار أبي صعب: ننتقل إلى الدكتورة لينا الطبّال في باريس، كيف يبدو لكِ المشهد من عاصمة الأنوار التي زارها قبل عشرة أيام تقريباً الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، ما الذي يهّم فرنسا من سوريا الحالية التي تواجه تحدياتٍ عدة أوّلها الاحتلال الإسرائيلي والمجازر والمواجهات المذهبية؟ هل الرئيس ماكرون مهتم بتضميد الجرح السوري ووقف النزف؟
لينا الطبّال: مساء الخير لك بيار ولضيوفك الكرام. من باريس تبدو سوريا خريطة متعبة في طاولة المفاوضات لكن بالنسبة لسوريا هي جرح في القلب، زيارة أحمد الشرع قد تُقرأ كإشارة لكنها أيضاً تذكّر أن باريس لم تعد ترى في سوريا سوى ساحة لتوازناتٍ إقليمية. ما يهمّ فرنسا اليوم هو ليس الاحتلال ولا المجازر بل حدود نفوذها وسط صراع الكبار.
بيار أبي صعب: هل كانت أفضل من ذلك في أيام هولاند وفابيوس حين كانت تُنظَّم مؤتمرات أصدقاء سوريا، لا أظنّ عو نفس الخط.
لينا الطبّال: نعم هو نفس الخط بالتأكيد ولكن ماذا تجاوز ماكرون؟ ماكرون يحبّ أن يظهر كمنقذ لكنه لا يملك سوى المجاملات، ونحن في سوريا، في لبنان، في فلسطين بحاجة إلى كسر هذا الصمت في العالم الغربي المتواطئ. نحن أمام مشهدٍ مأساوي نرى فيه بلادنا تحترق وزعماء الغرب يبحثون عن مصالحهم فقط. ماكرون الذي لم يتردّد في المحاضرات عن حقوق الإنسان استقبل رجلاً يحمّله اليمين الفرنسي مسؤولية مباشرة عن قتل مواطنين فرنسيين وعن وجود دماء على أيديه كأستاذ التاريخ صمويل باتي الذي جرى قتله بأمرٍ مباشر من أحمد الشرع.
بيار أبي صعب: أنتم أقمتم دعوى ضد الرئيس أحمد الشرع في باريس على ما أعرف.
لينا الطبّال: نعم أقيمت الدعوة باسم التجمّع الفرنسي العلوي بوجه الرئيس أحمد الشرع لاتهامه برتكاب جرائم إبادة وتطهير عرقي في الساحل السوري وفي سوريا. المؤذي في هذا الموضوع أن أحمد الشرع كان في الإليزيه بينما على بُعد أمتار من قصر الإليزيه في قصر العدل كانت هناك شكوى مقدّمة أمام المدّعي العام الفرنسي والتي قُبلت منذ نحو شهر بهذه التهمة. في الواقع أن التفكّك والانقسامات هذه في العالم العربي ليست مصادفة بل هي نتاج طويل من التأثيرات المعقّدة التي أحدثها الاستعمار على منطقتنا وهو ليس محصوراً فقط بالحدود الجغرافية التي لا تعكس حقيقة التنوّع الثقافي والعرقي في المنطقة إنما تعكس أيضاً زرع الفجوات الاجتماعية والتوترات الطائفية في منطقتنا.
بيار أبي صعب: هناك جانب آخر تحدّث عنه الأستاذ محمد الإدريسي وهو مسؤولية أنظمتنا ونخبنا. سنعود إليكِ لينا لتوسيع هذه النقطة، دعيني أذهب إلى الأستاذ جمال درويش، كيف يبدو لك المشهد من داخل سوريا، من السويدا تحديداً؟ كيف تعيشون هذه المرحلة الانتقالية هناك؟ هل أنت قلق على وحدة سوريا وتماسكها وحقوق مواطنيها بمعزلٍ عن انتماءاتهم الدينية والثقافية؟ هل ما تشهده عابر ومؤقت أم أننا ذاهبون إلى مزيدٍ من التفتّت وتصادم العصبيات وتثبيت الاحتلالات؟
جمال درويش: شكراً، سؤال جيد، بدايةً أسعد الله أوقاتك وأوقات الأخوة الضيوف والمشاهدين. اسمح لي بهذه المقاربة كمدخلٍ إلى هذه الجزئية، بالتأكيد كما نرى جميعاً أن سوريا شهدت خلال العقدين الماضيين من 2011 إلى 2025 أعنف التحوّلات السياسية والاجتماعية منذ الاستقلال عن فرنسا، حيث تمزّقت الدولة وتآكلت مؤسساتها وتفكّكت البنى السياسية والاجتماعية وانقسم المجتمع السوري بين القوى المتنازعة وأًيضاً بين القوى الإقليمية المتدخّلة في الشأن السوري، هذا جعل معظم المكوّنات السورية تعيد صياغة دورها وتوازناتها وموقفها وخياراتها أيضاً. كنتَ تسألني عن السويداء، نحن نرى أن السويداء عندما بدأ الصراع المسلّح في 2012 اتّخذت السويداء موقف الحياد الإيجابي لأنها رأت أن الصراع المسلّح مع هذه السلطة سيقود إلى تدمير البلد وللأسف هذا ما رأيناه، إلا أن الحياد الإيجابي للسويداء كان يعني إيجابياً باتجاه الثورة، السويداء استقبلت الإخوة النازحين من مجمل المحافظات السورية ولم تُنصب لهم خيمة واحدة في السويداء. أيضاً امتناع حوالي الخمسين ألف شاب من السويداء عن الذهاب إلى الخدمة الإلزامية أو الخدمة الاحتياطية هذا جعل النظام يفقد خزاناً بشرياً كبيراً ليزجّ بأبناء السويداء في المقتلة السورية، وساحة الكرامة قد رفعت شعار "الدم السوري على السوري حرام". أيضاً بعد إسقاط النظام ترى السويداء أن مستقبل البلاد لا يمكن أن يُبنى على إعادة إنتاج سلطة مركزية مطلقة ولا عبر قيام دويلات مذهبية أو تقسيم البلاد، لذلك فإن السويداء تبنّت الدولة المدنية واللامركزية الإدارية والذهاب باتجاه دولة المواطنة المتساوية، دولة يتمّ تداول السلطة فيها، دولة تعددية سياسية، هذا اليوم ما تراهن عليه الدولة المدنية القائمة على حكم إداري مبني على اللامركزية الإدارية. نحن في السوداء عابرون لأي مشروعٍ طائفي أو مذهبي وهذا إرث نتّكأ عليه، هو إرث الأهل والأجداد، حجم الدور الوطني الذي كانت تلعبه السويداء على امتداد تاريخ سوريا من 1920 وحتى الآن كانت تلعب دوراً وطنياً أكبر من عدد سكانها إذا أخذنا النسبة والتناسب بالنسبة لسوريا.
بيار أبي صعب: واضح أستاذ جمال، سألنا النائب السابق في البرلمان الأردني الكاتب والسياسي طارق خوري عن قراءته لحالة التمزق التي يعيشها العالم العربي انطلاقاً من الحدث السوري، الخلاص يقول في استعادة المعنى العميق للدولة، نستمع معاً.
طارق خوري: خطر التقسيم في سوريا ليس مؤامرةً خيالية، هو مشروع واضح بأدوات واضحة. منذ اللحظة الأولى للأزمة كان من المطلوب تدمير الدولة السورية لا إصلاحها، تمزيق الأرض لا تحريرها، إضعاف الهوية لا توسيع التمثيل، دخلوا علينا من بوابة الطائفية والمناطقية ومن جماعات عميلة لمشروع خارجي لا يشبه سوريا ولا يشبه شعبها، حاولوا تقسيمها وتحويلها إلى ساحة نزاعٍ دائم. لنتحدّث بوضوح، لا جماعة النصرة تحمي التنوع ولا الإدارة الذاتية تمثّل شعباً ولا أمراء الحرب لديهم مشروع وطني، كلُّ منهم يمثّل خارطة سايكس بيكو جديدة بتمويل مختلف وغايات مختلفة لكن بنفس النتيجة، تقسيم سوريا. الدولة السورية اليوم وأمس وفي كل وقت رغم كل الضغط وكل الجراح وكل الأخطاء هي الكيان الوحيد القادر على حماية وحدة سوريا.، أنا أقصد هنا تركيبة الدولة وليس الدولة النظام، الدولة بكل مكوناتها هي التي تحمي سوريا. بكل بساطة الدولة هي الإطار الطبيعي الجامع القادر على استيعاب الجميع ويفرض السيادة ويمنع الانهيار، ما من قوةٍ تحمي التنوّع إلا الدولة المركزية، لا حزب ولا طائفة ولا ميليشيا ولا زعيم لأن التنوع بدون دولة يصبح حرباً أهلية والتعددية بدون سيادة تصبح ساحة لصراعاتٍ خارجية. الخلاص ليس بهيكلة الدستور ولا باقتسام السلطة، الخلاص هو باستعادة المعنى العميق للدولة السورية، دولة مدنية قوية موحّدة تحكم، تحمي وتفتح باب العودة والمصالحة من دون أن تتنازل عن كرامتها وسيادتها. سوريا اليوم ليست بحالة طوارئ فقط بل هي بمواجهة مشروع إبادة سياسية وتاريخية عنوانها التقسيم، وإذا سقطت الدولة سقط التنوع وسقطنا جميعاً بلا استثناء. سأختم هنا بالقول للمعلم أنطون سعادة وهو من أكثر مَن أدرك خطر اليهود وخطر التفتيت، قال "إن وحدة الحياة في الأمّة هي التي تضمن استمرارها، وكل تجزئة تُفقدها هذه الوحدة تعرّضها للزوال"، وهذه ليست مقولة فقط، هذا إنذار مبكّر لا يزال حياً حتى اليوم.
بيار أبي صعب: أستاذ محمد العدو الإسرائيلي والاستعمار بشكلٍ عام لا ينظر إلينا بصفتنا شعوباً بل بصفتنا جماعات وطوائف وإثنيات متناحرة ومتنازعة. في الثمانينيات قام الصحافي الإسرائيلي عوديد يونين بتقرير مهم قال فيه إن استقرار إسرائيل وأمنها يمرّان بخلخلة استقرار الدول العربية وتقسيمها، وقد استُعيد هذا الكلام أكثر من مرة في 1996 حيث كانت هناك مجموعة بحثية صهيونية في نيويورك مجموعة صهيونية قدّمت تقريراً بعنوان "الكسر النظيف" الذي يتحدّث عن كيفية تقسيم وضرب الدول العربية وإضعافها، برنارد لويس في أطروحته الشهيرة في العام 2003 عن ثلاثين دويلة إثنية أو طائفية في العالم العربي وممنوعٌ أن يكون هناك دولة مركزية صاحبة قرار وصاحبة حضور إقليمي.
محمد شهاب الإدريسي: قانون ديك تشيني أيضاً عن تقسيم العراق.
بيار أبي صعب: هو عملياً طبّق هذه الورقة التي كان رئيسها وهو أحد مهندسي الحرب على العراق. سؤالي لك إلى أي مدى نحن نذهب اليوم باتجاه إعادة رسم الخرائط؟ هل نحن ذاهبون باتجاه البلقنة، باتجاه مشروع سايكس بيكو جديد؟
محمد شهاب الإدريسي: نعم ربّما نحن متّجهون إلى ما هو أسوأ من البلقنة، حينما نتحدّث عن البلقنة فإننا نتحدّث بشكلٍ خاص عن يوغسلافيا التي قُسّمت إلى صربيا والجبل الأسود والبوسنة وكرواتيا وسلوفينيا. كل بلد عربي اليوم هو مهيأ لأن يكون ست أو سبع أقسام، بالتالي هو شيء يتجاوز البلقنة وخاصةً أن كل الكانتونات في العالم العربي هي ذاتياً تحمل إمكانية أن تتشظّى إلى أجزاء وكأنها عبارة عن خلية تنقسم شيئاً فشيئاً وفي كل طور. البعض يتحدّث عن بعض المكوّنات وعن بعض الألوان في العالم العربي، كل لون هو قابل للانقسام، حينما نتحدّث عن الأمازيغ، التفكير في تقسيم أمازيغي معيّن، الأمازيغ عبارة عن ألوان، العرب في المغرب على سبيل المثال أو في شمال افريقيا عبارة عن تنازعات كبرى، شاهدنا في ليبيا على سبيل المثال بين الشرق والغرب وبين الجنوب ومحاولة استعادة بعض المشاريع الفيدرالية. إذا تحدّثنا أيضاً عن دمشق هناك بعض العصبيات القائمة بين الأصلاء والدخلاء والشوام داخل السور وخارج السور، بالتالي هذه المسألة إذا أُطلقت فلن تتوقف، ويمكن القول هنا إذا أحببنا أن نميّز قليلاً بين النمط الإسرائيلي في العمل في المنطقة والنمط الأميركي، قد يكون الأميركي حريصاً على إبقاء بعض الدول العربية على قدرٍ من الوحدة لأن الأميركي ينظر إلى العالم كساحةٍ واحدة، وهو يريد أن يركّب نظاماً إقليمياً في كل منطقة حتى يخفّف من الأعباء ويضع شرطياً في هذه المنطقة وشرطياً آخر في تلك من خلال مفهوم الإدارة من بعيد أو الإدارة من الخلف، بينما الإسرائيلي مختلف وهو قادر على تقسيم المنطقة بما أنه حاضر في قلبها، ضباط الشاباك يديرون بعض الحساسيات الموجودة في الضفة الغربية وقطاع غزة، في زمن روابط القرى كان الضابط الإسرائيلي يحضر الأعراس في الضفة الغربية الآن من خلال التوسع الإسرائيلي نشاهده في دول الجوار المحيطة بفلسطين، هو قادر على تشغيل مئات الآلاف حتى من عملائه ويكون حاضراً في كل مدشر وفي كل قرية في العالم العربي.
بيار أبي صعب: سنعود إلى هذه النقطة لأنها مهمة جداً. أستاذة لينا الطبّال تحدّثتِ قبل قليل عن الدور الاستعماري بتفتيتنا، هل يمكننا أن نتحدّث عن انهيار المشروع القومي، ما أسبابه؟ هل من الممكن إعادة إحيائه بأدواتٍ نظرية مختلفة وأهداف جديدة وخصوصاً أن هذا الموضوع يهمّك، كيف يتعامل الجيل الجديد مع هذه التركة السياسية؟
لينا الطبّال: المشروع القومي العربي هو أكثر من مجرّد فكرة سياسية في الحقيقة، هو سردية ثقافية وتاريخية نشأت في رحم المقاومة وتطوّر ليصبح حلماً بالوحدة العربية تتجاوز الجغرافيا. هذه الهوية ليست مسألة جغرافيا بل هي حالة وجدانية تتجلّى في اللغة،
في المأساة والأمل، السؤال اليوم مَن يحمل هذا المشروع في ظل التفكك، مَن يستطيع تشكيل هذا الحلم دون الوقوع في فخ الشعارات. في كتاباتي أحب كثيراً أن أسرد المستقبل وأتوقّع الأمل لذلك أتكلّم عن جيلين، جيل z وهو الجيل الجديد المولود بين 1997 و2012 وجيل ألفا الذي وُلد بين العام 2012 و2025، أي أن هناك بقايا من هذا الجيل لم تولد بعد، هذه الأجيال ظهرت كعناصر رئيسية رغم أنها لا تتبنّى الخطاب الكلاسيكي للقومية العربية كما عرفناها نحن جيل الثمانينيات والتسعينايت إلا أنهم يتفاعلون مع القضايا العربية بطريقتهم الخاصة عبر المنشورات والهاشتاغ وأغاني الراب والألعاب الإلكترونية وألعاب عن فلسطين، هذا الجيل لا يهتف بالوحدة العربية مثلنا في الساحات، هم ليسوا أبناء الشعارات وليسوا أبناء الأحلام مثلنا.
بيار أبي صعب: وصلت الفكرة، الرهان على الجيل الجديد. دعيني أسأل الأستاذ جمال درويش إلى أي مدى يعتبر أن هذه الحالة التي نعيشها من التفتّت والانقسام والحروب الأهلية ناهيك عن الوصايات الخارجية والتغوّل الإسرائيلي هي قبل كل شيء تركة البنى السياسية القديمة التي قامت على الاستبداد والفساد هي التي أمسكت بالحكم بعد مرحلة الاستقلال وأورثتنا كل هذا الخراب.
جمال درويش: نعم هذا صحيح. دعني أعود إلى التاريخ قليلاً، المشروع القومي على يد بسمارك الذي ظهر في أوروبا لم يأتِ إلا بالخراب لأوروبا على يد هتلر وموسوليني، معظم الأحزاب القومية التي سادت في المنطقة العربية عملت على تراجُع الهوية الوطنية لمصلحة الهوية القومية وأفهمتنا أن العالم هو مجموعة من قوى الشر تستهدف مرتكزنا القومي، وأنا على ما أتذكر في بداية دراستي الجامعية وبداية تفتُّح الوعي السياسي عندي كنتُ أتساءل لماذا مرتكزنا القومي مستهدف؟ يا صديقي خطيّة هذه الشعوب هي في ما حصل في العشر أيام الأخيرة وأدّى إلى كل هذه الأحداث نتيجة الخطاب الديني الكريه الذي ظهر في الأسبوعين الأخيرين. ظهر فيديو مفبرك بلكنة درزية ومنسوب إلى شيخ درزي.
بيار أبي صعب: انقطع الاتصال مع الأستاذ جمال درويش لأسبابٍ تقنية، فاصل ونعود.
أهلاً بكم مجدداً في هذه الحلقة من على محمل الجد، اسمحوا لي أن أعيد الترحيب بضيوفنا محمد شهاب الإدريسي معنا في الاستوديو، الأستاذة لينا الطبّال في باريس والأستاذ جمال درويش في السويداء. نصل الآن إلى الجزء الثاني من حلقتنا وهو بعنوان على محمل النقد. الباحث والكاتب السعودي بدر الإبراهيم يرى أننا دخلنا زمن ما بعد الدولة القطرية، نشاهد معاً.
بدر الإبراهيم: لا يمكن أن نعزو مسألة الانقسامات الطائفية والعشائرية والجهوية في الوطن العربي إلى عاملٍ واحد، ولكن عند قراءة التاريخ العربي الحديث نجد أن احتباس التطور الاقتصاد والاجتماعي وعدم التحول في أنماط الإنتاج وما نتج عن ذلك من حداثة عرجاء لا شك أنها أسهمت في تكوين المشهد الذي نراه من سطوة البنى التقليدية من عشائر وطوائف، أصبحت هذه البنى التقليدية مظلّة للأفراد لتحقيق مصالحهم السياسية والاقتصادية، وذلك كله جرى في ظل هجمةٍ استعمارية لم ترَ في هذه المنطقة سوى جماعاتٍ دينية وإثنية متحاربة، ووأدت وحاربت كل خطاب يقول بأن هذه أمّة تسعى لتقرير مصيرها، ونشأت الدولة القطرية العربية في إطار هذه الأزمة من حداثةٍ عرجاء ومن أزمة شرعية ولم تتمكن هذه الدولة القطرية من تكوين هوية وطنية وطنية جامعة لمواطنيها. السلطة في كثير من هذه الدول العربية تحوّلت في العقود الماظية إلى إقطاعياتٍ عائلية، وهذا أيضاً ساعد في أن تكون القوى السياسية على اختلافاتها معبّرة أو ممثّلة لجماعات دينيةٍ أو مذهبية أو غثنية أو عشائرية، وصعود حركات الإسلام السياسي أيضاً أسهم في ذلك لأن هذه الحركات لا تملك مشروعاً سياسياً بقدر ما تركّز على أدوات الحشد والتعبئة الهوياتية، فلذلك نجد أن ما حصل في السنوات الأخيرة هو تعبير عن تفاقم هذه الأزمة، وأعتقد أننا اليوم نعيش مرحلة ما بعد الدولة القطرية ويجب أن نفكر في هذا الإطار لأن هذه الدولة القطرية اليوم لم تعد قابلة للإنعاش، وكل محاولات إعادة إحيائها محكومة بالفشل ولذلك أنا أعتقد أنه يجب ان نبدأ من هنا للتفكير في أطر مختلفة ضمن مسألة المشروع الوحدوي العربي وهذا ليس ترفاً فكرياً، والوحدة العربية ليست أسطورة وإنما هي حاجة ملحّة تفرضها وقائع. ما حدث للدولة القطرية العربية من تفكك وانهيار هو بالتأكيد يدفع باتجاه التفكير في مسألة الوحدة العربية بأشكالها المختلفة، لا نتحدّث عن وحدة اندماجية وإنما كل أشكال التكامُل العربي الذي يمكن أن تحقق نوعاً من رأب الصدع وإيجاد لحمة عن طريق الهوية العربية لهذه المكوّنات الاجتماعية المختلفة. أيضاً لا بدّ من الحديث عن أهمية القضية الفلسطينية كمرتكز في هذا الإطار باعتبارها في قلب الهوية القومية العربية، وأيضاً لأنها تعزز من إعادة تعريف التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي لأن التناقض الرئيسي في السنوات الأخيرة اصبح في الداخل العربي بدلاً من أن يكون في مواجهة إسرائيل والغرب الاستعماري، إعادة تعريف التناقض الرئيسي والثانوي بحيث يكون التناقض الرئيسي مع إسرائيل والغرب الاستعماري والتناقضات الثانوية تكون في الداخل العربي يمكّن أيضاً من تجاوز هذا النوع من الانقسامات والخلافات والاحتراب الأهلي العربي بأشكاله المختلفة. لذلك أعتقد أنه لا بدّ من التفكير في هذه المسألة بشكلٍ عميق وإجاد إطارٍ نظري للتفكير فيما بعد الدولة القطرية من أجل أن نُسهم في انتشال هذه الأمّة من القاع الذي وصلت إليه.
بيار أبي صعب: أستاذ محمد شهاب الإدريسي تعقيباً على ما قاله الدكتور بدر الإبراهيم، هل توافق على مقولة إن الأنظمة الحاكمة فرّغت المجتمع من قواها الحية، من المعارضات الجدية فلم يبقَ سوى الأهواء والغرائز والعصبيات التي تتحكّم بالحياة السياسية، ما سهّل من تآكل الدولة وانهيارها كدولة، حتى الانتفاضات الشعبية الشرعية التي تطمح إلى التغيير تحوّلت إلى حروبٍ أهلية أو أنتجت سلطاتٍ استبدادية تشبه السلطات السابقة عليها، ما رأيك في هذه المقاربة؟
محمد شهاب الإدريسي: أعتقد أن الأنظمة العربية تتحمّل مسؤولية بلا شك بحكم أنها أولاً كانت تستأثر بالرأي وبالمال أي بالمقدرات، وهي بتأثيرها ومصادرتها للمجال العام هي التي خلقت هذا الواقع وهي مسؤولة بالتأكيد عن ذلك لكن لا يمكن الذهاب بعيداً في تحميلها المسؤولية الحصرية. بالنهاية هذه الأنظمة ظهر أنها بنت هذا النسيج العربي، هي ليست غريبة عنه، كما كانت تقول المقولات القديمة "إنما يصنع الطغاة العبيد"، "كما تكونوا يولّى عليكم"، هناك نوع من العلاقة المباشرة بين الأمرين، هذه الأنظمة ليست غريبة عن النسيج العربي، ليست غريبة عن الاجتماع العربي بل هي قطعة منه، وحين تجدّد الأنظمة نفسها أو تغيّر وجوهها فهي تأتي أًيضاً من نفس النسيج فتتغيّر الوجوه نفس لكن الديكتاتورية ونفس العصبية ونفس ضيق الأفق والاستبداد والسلطوية وما إلى ذلك، كل الموبقات تتجمّع وتتغيّر الوجوه فقط. هذا يحيلنا إلى أن المسألة ينبغي أن تتّجه إلى الإنسان العربي، إلى أن يكون هناك محتوى جديد للإنسان العربي ليس بالطريقة التي يطرح فيها البعض "العربي الجديد"، هو عربي قديم لكنه بتعبئة جديدة يخدم بعض السلالات الأكثر تخلّفاً وبعض أصحاب الطموحات الثانوية في في السيطرة على العالم العربي خاصةً في بعض الأقطار الصغيرة لكنها محكومةً من بعض المشايخ ذوي الطموحات الكبيرة. المطلوب أن يكون عربياً جديداً فعلاً، يفكّر بطريقةٍ أخرى وأن يكون لنا حداثتنا. المشكلة في العالم العربي هي حالة الاحتباس، حالة التفكير الحرفي السلفي الموجود لدى مجموعات كبيرة جداً تقول إن العرب ليسوا بحاجة إلى تنوير، ليسوا بحاجة إلى عقلانية، نحن ليست لدينا مشاكل أوروبا في عصر الظلمات، ومن جهة أخرى لدينا مثقّفين يحاولون نقل الحداثة الأوروبية بدلاً من أن تكون هناك حداثة تنطلق من الحاجة العربية ومن الأزمات العربية الضرورية حتى يلتحق العرب بركب الإنسانية. بالنهاية حالة الانغلاق وحالة السلفية تمنع العالم العربي من الاستفادة من المنجزات الإنسانية والتطورات الإنسانية التي هي ملك للبشرية جمعاء وأصلاً النهضة العربية التي كانت في وقتٍ من الأوقات إنما نشأت عن طريق الترجمة وعن طريق تلاقح الثقافة العربية مع ثقافاتٍ عالمية.
بيار أبي صعب: أستاذة لينا الطبّال هل الهويات المركّبة هي بالضرورة هوياتٍ قاتلة حسب عنوان كتاب شهير لأمين معروف؟ هل تؤدي حكماً إلى حروبٍ وفتن وتفكك أم يُفترض أن تكون الهويات المركبة مصدر ثراء وغنى وازدهار وتكامُل ووحدة؟
لينا الطبّال: الهوية المركّبة ليست قاتلة بحد ذاتها بل إنها تتحوّل إلى ذلك حين تُمنع من أن تتنفس، حين تُمنع هذه الهوية من التعايش. في الواقع الهويات المركّبة هي جزء من غنى الإنسان وتعدد ثقافاته لكن حين يُطلب من الإنسان أن يتنازل عن جزءٍ من ذاته ليثبت ولاءه للآخر حينها تصبح هذه الهوية مصدراً للصراع لا للغنى. لقد تحدّث أمين معلوف عن الهويات القاتلة مشيراً إلى أن التركيب ذاته ليس قاتلاً ولكن الطريقة التي يُوظَّف بها هذا التركيب سياسياً وأيديولوجياً هو القاتل وهو الذي يخلق الفتنة. في العالم العربي هويتنا مركّبة بحكم الجغرافيا والتاريخ والديانات أيضاً واللغات وحتى بسبب الاستعمار الذي أعاد رسم الخرائط والهويات. الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك يقول إن الاستعمار لم يكن مجرّد هيمنة سياسية بل فرض أنماط حياة وثقافات غير متوافقة مع الواقع، هذا التشويش الثقافي والتاريخي زرع في الشعوب المستعمَرة شعوراً بالعجز وخلق أزمة هوية مستمرة بلأازمات لا تزال تؤثّر على الأجيال. من هنا لا يمكننا الحديث عن هذه الهوية دون الإشارة إلى المقاومة الثقافية، برأيي أننا نستطيع الخروج نحو قوميةٍ عربية جديدة والخروج من التفتّت أيضاً بالمقاومة، إلى جانب مقاومة السلاح هناك المقاومة الثقافية التي توحّد هذا العالم العربي. لنكن صريحين أن الاقتتال الداخلي بين الدول العربية ليس معركةً سياسية اليوم، إنه معركة بناء الهوية في وجه تأثيراتٍ استمرّت لعقودٍ طويلة. أعود للكاتب رومان غاري ورأيه بأن الإنسان لا يتحرّر إلا عندما يتحرّر من ذاته أولاً، ربّما يكون هذا هو التحدي الأكبر اليوم أمام العالم العربي، التحرّر من الفيوض التي فرضها الاستعمار وتجاوُزالاختلافات الداخلية التي زرعها فينا، تجاوُز أوهامنا وتصوّراتنا الضيّقة عن الآخرين وقبول الآخر أيضاً. نحن شعب نحبّ الاستعراض والثورة والشعارات، كل إنسان فينا يرى نفسه مناضلاً وكا فرد فينا له ثورته الخاصة.
بيار أبي صعب: قصدنا الكاتب والسياسي اللبناني معن بشّور في دار الندوة في بيروت، وسألنا الرئيس المؤسّس للمنتدى القومي العربي إن كان يائساً من انهيار المشروع الوحدوي الذي ناضل من أجله عمراً كاملأً فسمعنا هذا الجواب.
معن بشّور: بدلاً من أن نستفيد من عصبياتنا العائلية والطائفية لنضعها في خدمة الوطن وضعنا الوطن بخدمة عصبياتنا العائلية والطائفية والمذهبية، وبالتالي بدلاً من أن تقوم الأوطان دُمّرت الاوطان، لم نعرف كيف نتعامل مع واقعنا الملغوم من أعداء الأمّة. حين نتحدّث عن الاستعمار الفرنسي فلا نعني المندوب السامي، الاستعمار الفرنسي كان مشروع توغل في كل أقطارنا العربية على أساسٍ طائفي ومذهبي، في سوريا يعيدون نفس المنوال، الدول الست التي قُسّمت إليها سوريا في العام 1920، حلب ودمشق ودولة العلويين ودولة الدروز والإسكندرون ولبنان الكبير، هذه الدول مرشّحة للعودة، لبنان بقي دولةً بسبب ثورة 1925 في سوريا، الفرنسيين قدّموا تنازلاً للبنانيين بسبب ثورة السوريين بحيث تحوّل من لبنان الكبير إلى الجمهورية اللبنانية. اليوم هناك مشروع لإعادة سوريا إلى خمس دول، خلال عشرات السنين كان جزءاً كبيراً من معاركنا كحزبيين ضد بعضنا البعض، وبالتالي إرادة التغيير تم تفتيتها لذلك حين تفتّت إرادة التغيير جرى تفتيت المجتمعات، فبدلاً من أن تكون الأحزاب الوطنية والتقدمية أداةً لوحدة الأمّة وللتحرير تحوّلت إلى جزءٍ من عملية التفتيت وانعكس التفتيت عليها وصارت أحزاباً طائفية بدلاً من أن تكون أحزاباً وطنية وتقدمية. فكرة الوحدة هي فكرة أساسية، وحدة وطنية، وحدة قومية، وحدة عالمية أممية، هذه جميعها مرتبطة ببعضها البعض وتنعكس على بعضها، كل خطوة الوحدة الوطنية بنظرنا هي خطوة نحو وحدة المنطقة، وكل خطوة نحو وحدة المنطقة هي خطوة نحو وحدة التغيير في العالم، ونحن لذلك مشروعنا وطني لبناني، عربي قومي، أممي، تقدّمي تغييري لمواجهة التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بدون أن يكون لنا كلمة واحدة، لا يمكننا أن نحرّر فلسطين بدون كلمة واحدة للعرب، لا يمكننا أن نواجه المشاكل في لبنان أو في أي بلد عربي بقطر واحد. الأمة يجب أن تجتمع لكي تحلّ مشاكلها، من هنا نحن نعتقد أن أّمّة عربية موحّدة ولا أقصد هنا الوحدة الاندماجية إنما وحدة المشاعر، وحدة النضال، وحدة التفاعل، وحدة الثقافة، وبالتالي الشكل السياسي ليس مهماً ولكن المهم هو الكلمة الموحّدة للعرب والكلمة الموحّدة لأبناء المنطقة في وجه أعدائنا.
بيار أبي صعب: لينا الطبّال أعود إليكِ للوقوف عند رأيك بما قاله الأستاذ معن بشّور، ما رأيكِ بهذه الثلاثية في مواجهة التفتّت، الوحدة الوطنية، الوحدة القومية، الوحدة الإنسانية من موقعك كمقيمة في الغرب وربّما تجدين قواسم مشتركة للنضال مع جمهور غير عربي بعد الوحدة القومية والوحدة الوطنية؟
لينا الطبّال: في البداية تحيةً إلى الأستاذ معن، ثلاثية النضال التي طرحها هي خريطة خلاصنا، الوحدة الوطنية تحمينا من التفكك الداخلي، الوحدة القومية تردّ كرامتنا المهدورة وتواجه الاحتلال والتقسيم والاستعمار، الوحدة الإنسانية تجعلنا جزءاً من هذا الضمير العالمي وليس مجرّد ضحايا. هذه الثلاثية نعم نتفاعل معها كخيار سياسي وأخلاقي وكأمل وحيد بأن ننهض من جديد كأمّة. بيار سألتني مرة هل أنا سورية فأجبتك بأنني لبنانية من طرابلس وربّما أفضل طرابلسية تلتقيها.
بيار أبي صعب: من المهم جداً أن تكوني طرابلسة، لستِ بعيدة عن سوريا.
لينا الطبّال: الطرابلسيات الجميلات هنّ مَن يحملنَ المقاومة على جبينهنّ، ابني عمر ذو العشرين عاماً وجذوره فلسطينية من عكا وسورية ولبنانية، وأيضاً هو فرنسي، أقول له دائماً أنت ثلاثية نضالي، نحن لسنا بعيدين عنكم، لسنا بعيدين عن هذا الوطن، أنا لبنانية نعم لكنني أفتح قلبي للوجع العربي، أشعر بالانتماء إلى جميع هذه الدول، الانتماء ليس جواز سفر، الانتماء هو جرح، هو ألم، هو فرح. أنا من جيل الحرب الأهلية، جيل نشرة الأخبار وأجواء الحرب والقذائف، كبرنا على صور الشهداء وصور المجازر، تعلّمنا أسماء المدن المحاصرة، كبرنا ونحن نخاف أن نفقد الأهل والأصدقاء.
بيار أبي صعب: لم يتغيّر المشهد المشهد وانتقل اليوم إلى جنوب لبنان وفلسطين، ما زلنا في مشهد الحرب الأهلية بمعنى ما. أشكرك جداً على حضوركِ ومساهمتكِ وشهادتكِ الحقيقية والعفوية المتأتّية من تجربة معاشة وليس نظرياً فقط.
أختم معك أستاذ محمد شهاب الإدريسي، إذا كان الغرب أو المشاريع الاستعمارية يمكنها أن تزعزع مجتمعاتنا فهذا يعني أنها أمسكت بنقطة ضعفٍ أساسية في مجتمعاتنا، كيف برأيك يمكننا مستقبلاً تحصين هذه المجتمعات والانتقال إلى الدولة الحديثة العادلة القوية لجميع أبنائها؟
محمد شهاب الإدريسي: الخارج دائماً يستهدف وإذا كان الاستعمار قاعدة وحيدة فهي كلمة "فرّق تسد"، بهذا حكم الاستعمار العالم وليس فقط منطقتنا ونحن شاهدنا ما جرى في الهند وباكستان القارّة التي قسمها الاستعمار على أساسٍ طائفي ومذهبي، واستمرت الحروب إلى الآن لتستفيد منها القوى الاستعمارية. بالنسبة إلى عالمنا العربي نحن لا نتحدّث عن نقاط ضعف فقط، أن نقول نقاط ضعف فهذا تبسيط للمشكلة وتيسير لها، نحن في حالة اهتراء، العالم العربي في حالة الاهتراء الحالية هو في أسوأ مراحل انحطاطه، لذلك حينما تأتي أي دولة وأي جهة في أي مكان وتحاول أن تضرب فهي تحقّق هذه الإنجازات الكبيرة. في النهاية نحن بحاجة إلى مرحلة تنوير عربي خاصة بنا، نحن بحاجة إلى إصلاح ديني وأن نغادر مسألة النظر إلى أنه إذا حُرّرت فلسطين فستُحلّ كل مشاكلنا، هذا غير صحيح، وأصلاً إعطاء هذه المركزية للقضية الفلسطينية تحت عنوان أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة كان هو وصف تدمير العالم العربي، جرى سحق المواطن العربي، سحق كرامته، إنكار حقوقه.
بيار أبي صعب: ولكن هذه الأنظمة الاستبدادية تذرّعت بفلسطين ولكن شرعية القضية الفلسطينية هي البوصلة.
محمد شهاب الإدريسي: شرعية القضية الفلسطينية هي مسألة مفروغ منها، من السهل الآن أن نهاجم الحكام العرب والأنظمة العربية خاصةً أولئك الذين غادروا مواقعهم، كان الكثير من المثقّفين العرب يزورون بعض القصور بكامل الفرحة وكامل البهجة، والآن حينما غادر هؤلاء الحكام قصورهم أصبحوا يُشتمون، لكن ينبغي أن نتوجّه حتى إلى المواطن العربي، الحديث اليوم عن الأجيال الجديدة، هناك جهاد يسمّى "الأضحكني"، إذا توفّي شخص من دين مختلف أو من طائفة مختلفة ترى حالة الشماتة، كيف يمكن لنا الآن أن نحشد العالم لصالح فلسطين وهناك مَن يحاول أن يعيد أمجاد الفتوحات والغزو الذي كان يمارسه العرب باسم الدين وهو لا يختلف عن الصهيونية الحالية.
بيار أبي صعب: تبقى فلسطين هي القضية العادلة التي ندافع عنها في لحظة الإبادة، الفكرة هي في التذرع بفلسطين والاختباء بقميص عثمان لارتكاب المجازر وبناء أنظمة استبدادية لا علاقة لها بتحرير فلسطين، عند الامتحان رأينا أن كل الأنظمة العربية هي خارج ذلك.
محمد شهاب الإدريسي: نحن في حالة تخلُّف وانحطاط، تحرير فلسطين في نفسه لن يحلّ مشاكل العربي دون علاج المشاكل الأساسية للمجتمعات العربية، هناك حالة تخّلف اقتصادي وفكري، والحالة التكفيرية الإبادية التي تنتشر في العالم العربي وتصفّق لها قطاعات واسعة جداً في العالم العربي، لا يمكننا أن نختبئ وراء إصبعنا في الحديث عن هذا الأمر.
بيار أبي صعب: مسك الختام مع المجاهد سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى في العام 1925 "نحن أمّةٌ عظيمة في التاريخ، نبيلةٌ في مقاصدها، قد نهضت تريد الحياة، قسّمها الاستعمار فوحّدتها حقوق الإنسان. لم يعد في سوريا درزي وسنّي وعلوي وشيعي ومسيحي، إنهم أبناء أمّة واحدة ولغة واحدة وتقاليد واحدة ومصالح واحدة، فلنؤلّف في قلوبنا الإخاء القومي ومحبّة الوطن ولتكن إرادتنا إرادةً حديدية واحدة". وهذه وصية الزعيم جمال عبد الناصر لكم، اللهم اعطنا القوة لندرك أن الخائفين لا يصنعون الحرية والضعفاء لا يخلقون الكرامة، والمتردّدين لن تقوى أيديهم المرتعشة على البناء.
شكراً لضيوفي محمد شهاب الإدريسي ولينا الطبّال والأستاذ جمال درويش من السويداء الذي لم نستطع أن نواصل الحوار معه للأسف لانقطاع الاتصال لأسبابٍ تقنية، شكراً على المتابعة وإلى الأسبوع المقبل.