24 ساعة في السجن

هنا، في فلسطين، بين حرية أسير واستشهاد محرر، يحضر السجن فينا كسؤال مجرد، وكواقع مسلح ومثخن بالعنف والقهر الأسود.

  • 24 ساعة في السجن 
    24 ساعة في السجن 

كان السجن يتمثل لي، قبل اختباره، كمكان مفرغ من الأحداث، وما تولّده من زمن، وكحيّز مكدّس بالأجساد المقيّدة والمعلّقة على "النوافذ" تنتظر غداً مستعصياً وفرجاً تأخر كثيراً.

ومع اختبار السجن، وعلى مدار السنوات الماضية، تبدّى لي كمكان ممتلئ بالأحداث، وكمصنع للأحلام، وكموقع مزدحم التوقعات والآمال المشغولة باليد، وباليأس المشغول والمقيّد والمتمرّد أحياناً على كل ما ينسجه الأسرى له من قيود، السجن مزدحم بالفاعلية الإنسانية قدر انفعاله بالأرواح التي تشغل ضيقه، ولذلك فللسجن زمانه الخاص الذي قد يوازي أزمنة خارجه أو يداهمها ويفرض عليها أحداثها ومستجداته، وقد يكتفي بالوقوف على جدار الشهود والانتظار لما صنع خارجه من أقدار.

في الـ 24 ساعة التي سبقت هذا النص، امتلأ سجني بأقدار الحرية واحتمالات الحياة، وبمرارة فجأة الغياب للأصحاب.

في الصباح، كان أحد أصدقائنا يستعد مبكراً للإفراج عنه، بعد قضائه محكوميته التي امتدت لعامين، عامان كانا كافيين لأن يفقد بعض أصدقائه شهداء، ويتنقل قسراً بين عدة سجون، وأن يشاركه اثنان من إخوانه عدا عن بعض أعمامه وأخواله تجربة الاعتقال.

وقد تحرر مساءً، مخبئاً معه إلى فضاءات الحرية ذكريات سنوات الأسر التي أكلت من سنوات عمره زهرها وثمارها.

في الظهيرة، كان زميلنا وصديقنا المحامي المقدسي صلاح الحموري يستقبل بشارة السفير الفرنسي إلى أهله بأنه عائد إلى البيت الأحد القادم، لتبلغه سلطات السجن في المساء قرار سحب هويته المقدسية ونفيه قسراً إلى بيته في فرنسا.

كانوا يريدون إعادته إلى البيت ليسرقوا منه الوطن، وهو يرفض أسوأ أقدار الحرية، تلك التي تعده بباريس لتسلب منه القدس!!

في الليل، كنت أتقلّب من استعصاء النوم، ليفجعني الصباح بنبأ اغتيال نعيم زبيدي، الأخ والصديق العزيز والمقاوم الصلب والعنيد، إلى جانب استشهاد زميل الاعتقال محمد السعدي أبو الأيمن.

هنا، في فلسطين، بين حرية أسير واستشهاد محرر، يحضر السجن فينا كسؤال مجرد، وكواقع مسلح ومثخن بالعنف والقهر الأسود.

وما بين الفكرة والواقع، تحارب أرواحنا السجن بكل ما في أقداره من قهر وآفاقه من سواد، وننحاز إلى اليقين بأننا قادرون على اجتراح مزيدٍ من الحياة.

ففي الأربع والعشرين ساعة الأخيرة في السجن، عشنا الوجع والفرح، الخوف والغضب، وشهدنا تناقضات الحياة للفلسطيني المسكون بوطن متعب وخائف ومرهق من فرط العنف وطول الاستعمار وعبث الاحتلال.

هنا، في فلسطين، نمضي أعمارنا في أداء مهمات الحياة وليس لدينا سوى أن نحمل أوطاننا على أكف الإيمان بأن الحق العنيد والمقاوم كل ما أوهمنا إياه اختلال الواقع من مستحيلات.