الألغام البحريَّة.. الأسلحة الزهيدة تطفو من جديد

عادت التهديدات الناجمة عن الألغام البحرية بقوة في السنوات الأخيرة، ليبقى هذا السلاح الأقل كلفة على المستوى البحري، لكن الخسائر التي تنتج منه قد تكون كبيرة.

  • هذه الهجمات أعادت إلى الذاكرة ماضي منطقة الخليج مع الألغام البحرية
    هذه الهجمات أعادت إلى الذاكرة ماضي منطقة الخليج مع الألغام البحرية

 

منذ نحو شهر ونيّف، وتحديداً في أوائل كانون الثاني/يناير الماضي، اكتشفت السلطات العراقية لغماً بحرياً مغناطيسياً ملتصقاً بناقلة النفط التي ترفع العلم الليبيري "بولا"، والتي استأجرتها شركة تسويق النفط العراقية الحكومية "سومو". وعلى الرغم من نجاح السّلطات العراقيّة في إبطال مفعول هذا اللغم، فإنَّ هذا الحادث أعاد إلى الأذهان مرة أخرى سلسلة الهجمات التي تعرضت لها عدة ناقلات للنفط بألغام لاصقة في نطاق منطقة الخليج منذ منتصف العام 2019.

هذه الهجمات أعادت أيضاً إلى الذاكرة ماضي منطقة الخليج مع الألغام البحرية، وما تسببه هذه الأسلحة الفتاكة من أضرار خلال النزاعات العسكريّة الواسعة النطاق على مستوى العالم، وكذا ما يمكن أن تمثله من مخاطر مستقبلية على الملاحة التجاريّة، وملامح الدّور الّذي من الممكن أن تؤدّيه في الصّراعات البحريّة المحتملة خلال العقود المقبلة.

 

بداية التفكير في الألغام كسلاح بحريّ

  • خلال الحرب الأهلية الأميركية، استخدمت البحرية الاتحادية الألغام على نطاق واسع
    خلال الحرب الأهلية الأميركية، استخدمت البحرية الاتحادية الألغام على نطاق واسع

 

خلال معظم سنوات القرن التاسع عشر، كان الجيش الأميركي مهتماً بشكل كبير بتطوير الألغام البحرية واستخدامها بغرض دفاعي بحت، وهو توفير الحماية للموانئ والمياه الإقليمية، وفرض ما يشبه حواجز لحماية هذه النقاط البحرية الحيوية من أنشطة القوات البحرية المعادية.

خلال الحرب الأهلية الأميركية، استخدمت البحرية الاتحادية الألغام على نطاق واسع، وأغرقت ما يقارب 27 سفينة كونفدرالية، إلى جانب أضرار متفاوتة في عشرات السفن الأخرى. في هذه الفترة، كان مفهوم اللغم البحري يتلخص في تعديل قذائف المدفعية الميدانية، بحيث يتم تزويدها بصمام تفجير في مقدمتها، وتثبيتها على إطار خشبي، ووضعها في المواضع التي من الممكن أن تسير فيه السفن المعادية.

  • في بداية الحرب العالمية الأولى، امتلك البريطانيون والفرنسيون تفوقاً في القوة النارية البحرية
    في بداية الحرب العالمية الأولى، امتلك البريطانيون والفرنسيون تفوقاً في القوة النارية البحرية

 

بدأ معظم أسلحة البحريّة في تلك الحقبة بتعميم استخدام هذا السلاح بشكل بطيء، إذ تم استخدامه بشكل واسع خلال المعارك البحرية التي دارت بين الإمبراطوريتين الروسية واليابانية في العام 1905، وتسببت النتائج الّتي ترتبت على هذه المعارك في دفع البحرية الأميركية إلى النظر جدياً في تطوير هذا السلاح، وكذا الوسائل التي يمكن استخدامها للحد من مخاطره. بالفعل، قامت البحرية الأميركية في بداية العام 1912 بتعديل البارجة الحربية "يو أس أس سان فرانسيسكو"، لتصبح كاسحة الألغام الأولى في البحرية الأميركيّة.

في بداية الحرب العالمية الأولى، امتلك البريطانيون والفرنسيون تفوقاً في القوة النارية البحرية، وحاولوا من خلال استخدامها فرض السيطرة على الممرات الملاحية الأساسية في أوروبا، وخصوصاً مضيقي البوسفور والدردنيل. وقد لجأت البحرية العثمانية، مدفوعةً بعجزها عن مجاراة هذا التفوق، إلى تلغيم مدخل مضيق الدردنيل بالكامل، لمنع القوات البريطانية والفرنسية من دخوله واستخدام مدافع البوارج البحرية لقصف المواقع البرية والساحلية للجيش العثماني، وذلك انطلاقاً من مواضعها في المضيق. نتج من عملية التلغيم هذه خسائر فادحة في الأسطول الّذي حاول دخول المضيق، وشكَّلت هذه الحادثة فصلاً جديداً من فصول تطور استخدام الألغام البحرية.

  • تمكنت البحرية الألمانية من إغراق ما يقارب 5 آلاف سفينة معادية طيلة فترة الحرب العالمية الثانية. 
    تمكنت البحرية الألمانية من إغراق ما يقارب 5 آلاف سفينة معادية طيلة فترة الحرب العالمية الثانية. 

 

كان للبحرية الألمانية الدور الأبرز في استخدام الألغام البحرية خلال الحرب العالمية الأولى، إذ تمكنت بفضل استخدامها الغواصات من فئة "تايب - يو سي 1" من إغراق ما يقارب 5 آلاف سفينة معادية طيلة فترة الحرب. 

شكلت هذه الاستراتيجية مخاطر كبيرة على السفن التجارية والحربية البريطانية والأميركية، إلى درجة دفعت البلدين إلى تشكيل ما يشبه حاجزاً دفاعياً بحرياً، تم فيه زرع أكثر من 70 ألف لغم بحري في نطاق بحر الشمال، وتحديداً ما بين اسكتلندا والنرويج، وهو الحاجز الذي ساهم إتمامه بشكل كبير في إيقاف حركة الغواصات الألمانية قرب قوافل الحلفاء البحرية حتى نهاية الحرب، لكنه في الوقت نفسه شكل عبئاً كبيراً على قوات الحلفاء في نهاية الحرب في العام 1918، إذ كان لزاماً على البحريتين الأميركية والبريطانية العمل على إزالة كل الألغام التي تمت زراعتها في بحر الشمال. 

وقد فشلت كلا البحريتين في النهاية في إتمام المهمة، فبعد عام كامل من العمل المضني الذي شارك فيه أكثر من 80 سفينة ونحو 4 آلاف رجل، لم تتم إزالة سوى نحو 40% من الألغام التي تمت زراعتها سابقاً، وظلت بقية الألغام التي لم تتم إزالتها، وتقدر بحوالى 40 ألف لغم، تتنقل مع الأمواج، وبعضها تم اكتشافه خلال السنوات الأخيرة.

 

الألغام البحرية خلال الحرب العالمية الثانية

  • في المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، طور كل من الجيش النازي والجيش الأميركي تقنية خاصة بالألغام البحرية
    في المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، طور كل من الجيش النازي والجيش الأميركي تقنية خاصة بالألغام البحرية

 

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وخلال الحرب العالمية الثانية، تطورت الألغام البحرية بصورة كبيرة، وأصبحت آليات تفجيرها مختلفة، فمنها ما ينفجر بمجرد ملامسته الهدف، ومنها ما ينفجر في حالة تغير المجال المغناطيسي المحيطة به، ومنها ما ينفجر في حالة رصده ذبذبات صوتية معينة، مثل تلك التي تنتج من المحركات أو مراوح التوجيه الخاصة بالغواصات المعادية.

وفي المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، طور كل من الجيش النازي والجيش الأميركي تقنية خاصة بالألغام البحرية، تتيح رصد تغير الضغط المحيط باللغم، نتيجة لمرور قطعة بحرية أو غواصة معادية فوقه، ما يؤدي إلى تفجير اللغم، ولو لم يصطدم به الهدف.

  • في المراحل التالية للحرب، كانت البحريتان البريطانية والأميركية هما القوتين الأكثر نشاطاً في مجال استخدام الألغام البحرية
    في المراحل التالية للحرب، كانت البحريتان البريطانية والأميركية هما القوتين الأكثر نشاطاً في مجال استخدام الألغام البحرية

 

في بداية الحرب، كانت القوات الجوية الألمانية نشطة بشكل كبير في بث الألغام البحرية، إذ قامت القاذفات الألمانية بإلقاء الألغام البحرية المغناطيسية قرب السواحل البريطانية، ما تسبب بخسائر كبيرة للبحرية البريطانية التي لم تتمكّن من مواجهة هذا التهديد إلا بعد أن فحصت عدة ألغام ألمانية أصيبت بأعطال ولم تنفجر، وتمكَّنت من كشف آلية تفجيرها التي تعتمد على التغير في المجال المغناطيسي المحيط باللغم.

في المراحل التالية للحرب، كانت البحريتان البريطانية والأميركية هما القوتين الأكثر نشاطاً في مجال استخدام الألغام البحرية، لكن سجلّ نجاح هذا الاستخدام ضد الغواصات الألمانية لم يكن مشجعاً بصورة كبيرة، فمن إجمالي 70 ألف لغم تمت زراعتها في بحر الشمال من جانب البحريتين، و20 ألف لغم تمت زراعتها قرب السواحل الأميركية، لم يتم إغراق سوى 6 غواصات ألمانية فقط. يضاف إلى ذلك فشل القاذفات البريطانية في تحقيق خسائر تذكر في البحرية الألمانية، عن طريق إلقاء الألغام البحرية المغناطيسية على الموانئ الألمانية، نظراً إلى أن سلاح الجو الألماني قام بابتكار حلقات مغناطيسية تم تثبيتها على القاذفات المتوسطة من طراز "يونكرز"، بحيث تقوم بتفجير الألغام عن بعد بمجرد مرور القاذفات على مواضع تواجد هذه الألغام.

كان التحدي الأكبر ضد اليابان، فقد بدأت قوات الحلفاء منذ العام 1944 باستخدام الطائرات المقاتلة من نوعي "أفينجر" و"فينتورا" في بث الألغام البحرية على مداخل الموانئ التي تسيطر عليها أمام القوات البحرية للحلفاء. النجاح الأهم في مجال استخدام الحلفاء للألغام البحرية كان في الجبهة المحيطة باليابان. وتمثل النّجاح الأول في هذا الصّدد بتدمير كل السفن اليابانية الموجودة في ميناء بالاو شرق الفيليبين، بعد أن بثت الطائرات الأميركية الألغام البحرية بكثافة على مداخل الميناء، ما منع السفن اليابانية من الخروج منه.

في العام 1945، بدأت البحرية الأميركية خطة لمحاصرة السواحل اليابانية، وكانت الألغام البحرية ركناً أساسياً في هذه الخطة التي تمت تسميتها "عملية الجوع"، إذ بثت القاذفات الأميركية الثقيلة من نوع "بي-29" نحو 15 ألف لغم من مختلف الأنواع حول الساحل الياباني، وخصوصاً في المضائق والممرات المائية الرئيسية، مثل مضيق "شيمونوسيكي"، وكذا القواعد البحرية اليابانية، والطرق البحرية المؤدية إلى موانئ سنغافورة وفيتنام.

وقد استمرت هذه العملية التي تمت على 5 مراحل حتى نهاية الحرب، وساهمت بشكل أساسي في منع أية إمدادات بحرية من الوصول إلى اليابان، كما أجبرت ما تبقى من وحدات بحرية يابانية على التحرك في ممرات غير آمنة، وتم خلال مراحل هذه العملية إغراق أو إعطاب أكثر من 600 سفينة يابانية.

 

الألغام البحرية في الحرب الكورية

  • في نهاية العمليات العسكرية في كوريا وفيتنام، ابتعدت الألغام البحرية عن دائرة الضوء
    في نهاية العمليات العسكرية في كوريا وفيتنام، ابتعدت الألغام البحرية عن دائرة الضوء

 

عقب الحرب العالمية الثانية، شهدت الميزانيات المخصصة للتسليح والدفاع في دول الحلفاء تخفيضات قياسية، نتيجة توقف العمليات الحربية وعمليات تسريح الجنود. هذه التخفيضات طالت الوحدات المخصصة لمكافحة الألغام، وبدأ التركيز على المستوى البحري يتجه بشكل أكبر إلى تطوير حاملات طائرات ومدمرات وفرقاطات ثقيلة. 

هذا الوضع ساهم بشكل أساسي في ظهور المعضلات التي واجهت القوات الأميركية وقوات الأمم المتحدة المتحالفة معها، حين بدأت العمليات العسكرية في كوريا منتصف العام 1950، عندما هرعت هذه القوات لنجدة قوات الحكومة الكورية الجنوبية التي كانت تتراجع أمام قوات الجيش الشعبي الكوري الشمالي. لم تكد القوات الأميركية تصل إلى ميناء إنشون الكوري حتى بدأت الألغام البحرية السوفياتية الصنع تتسبب بأضرار جسيمة للسفن الأميركية والحليفة.

هذا الوضع ساهم في تأخير نزول القوات الأميركية على ساحل مدينة وونسان، إذ اضطرت القوات إلى الانتظار في البحر لأيام، حتى يتسنّى لسفن كسح الألغام تطهير المناطق المحيطة بمواضع الإنزال من الألغام، لكن رغم الجهود الكبيرة التي تم بذلها لمكافحة الألغام الكورية الشمالية، ظلت كاسحات الألغام تتعرض لأضرار جسيمة خلال الفترة الممتدة بين 1951 و1953 جراء هذه الألغام. وفي نهاية الحرب، كان 70% من قتلى البحرية الأميركية في المعارك قد قضوا نتيجة إصابة سفنهم بالألغام البحرية، بواقع 4 قطع بحرية من مجموع 10 قطع فقدتها البحرية الأميركية خلال العمليات العسكرية في كوريا.

في نهاية العمليات العسكرية في كوريا وفيتنام، ابتعدت الألغام البحرية عن دائرة الضوء في ما يتعلَّق بالحروب والنزاعات الإقليمية والدولية، وظلت خارج هذه الدائرة حتى العام 1984 في خضم الحرب العراقية - الإيرانية، إذ شرعت البحرية الإيرانية عبر مجموعة كبيرة من الزوارق الصغيرة في بث أعداد كبيرة من الألغام البحرية في منطقة الخليج، أصابت ما مجموعه 19 ناقلة نفط بأضرار تتراوح بين الطفيفة والمتوسطة، وهو ما اضطر عدة دول، على رأسها الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، إلى تسيير قوافل لحراسة حركة الملاحة البحرية في هذا النطاق، لكن رغم ذلك، أصيبت الناقلة الأميركية "بريدجيتون" في تموز/يوليو 1987 بلغم بحري إيراني، رغم عمليات الرصد الجوي الأميركية المستمرة للمنطقة ومصاحبة سفن حربية للناقلة المستهدفة.

  • الخسائر الأميركية جراء الألغام البحرية في منطقة الخليج استمرت لسنوات
    الخسائر الأميركية جراء الألغام البحرية في منطقة الخليج استمرت لسنوات

 

نقطة التحول في هذه الحقبة كانت مساء الرابع عشر من نيسان/أبريل 1988، حين أصيبت الفرقاطة الأميركية "صامويل روبرتس" بلغم بحري أثناء تحركها في منطقة الخليج، ما تسبّب بأضرار متوسطة في بدنها. دفع هذا الحادث الولايات المتحدة - التي حمّلت إيران المسؤولية عنه - إلى شنّ هجوم بعد عدة أيام، استهدف منصتين نفطيتين إيرانيتين، إلى جانب عدد من القطع البحرية الإيرانية. 

الخسائر الأميركية جراء الألغام البحرية في هذه المنطقة استمرت بعد ذلك بعدة سنوات، فقد أصيب كل من فرقاطة الصواريخ الموجهة "يو أس أس برينسيتون" وسفينة الهجوم البرمائي "يو أس أس تريبولي" خلال العمليات البحرية المساندة لعملية تحرير الكويت في العام 1991، وذلك بألغام بحرية عراقية.

 

الألغام البحرية في السنوات الأخيرة

  • وجدت البحريات الدولية نفسها أمام عدة استحقاقات مهمة بسبب الألغام البحرية
    وجدت البحريات الدولية نفسها أمام عدة استحقاقات مهمة بسبب الألغام البحرية

 

منذ حرب تحرير الكويت وحتى العام 2019، لم يكن للألغام البحرية دور يذكر في النزاعات العسكرية الإقليمية، باستثناء استخدام جماعة "نمور التاميل" في سريلانكا لبعض النماذج المحلية الصنع منها، لكن جاءت الهجمات التي تعرضت لها ناقلات النفط في نطاق البحر الأحمر والخليج في أيار/مايو وحزيران/يونيو 2019، وفي تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2020، ونتج منها تضرر نحو 9 ناقلات، لتعيد فتح ملف استخدام الألغام البحرية في الخليج، وخصوصاً أن الألغام المستخدمة من النوع المغناطيسي الذي يلتصق ببدن السفينة، ويتم تفجيره عن طريق مؤقت زمني أو عن بعد.

هذه الحوادث التي اتهمت الأوساط الغربية إيران بالتسبّب بها، جعلت التحديات الناتجة من استخدام هذا السلاح تعود إلى واجهة الاستراتيجيات العسكرية لمعظم دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إذ وجدت البحريات الدولية نفسها أمام عدة استحقاقات مهمة، منها ما يتعلَّق بالإمكانيات البحرية المتعاظمة في مجال الألغام البحرية لدول مثل الصين وروسيا وإيران، ومنها ما يتعلّق بمدى الاستعداد التكنولوجي واللوجيستي الذي تمتلكه هذه البحريات لمواجهة هذا التهديد المستجد.

  • يثير قلق الولايات المتحدة الأميركية المخزون الهائل من الألغام البحرية الذي تمتلكه إيران
    يثير قلق الولايات المتحدة الأميركية المخزون الهائل من الألغام البحرية الذي تمتلكه إيران

 

هذه التحديات لم تظهر فقط من خلال حوادث استهداف ناقلات النفط في الخليج، بل ظهرت أيضاً خلال الحرب في اليمن، إذ أعلنت جماعة "أنصار الله" في أواخر العام 2018 عن نوعين جديدين من أنواع الألغام البحرية المصنعة محلياً تحت اسم "مرصاد 1" و"مرصاد 2". وقد تم رصد استخدام هذه الأنواع من الألغام البحرية الشبه سطحية عشرات المرات خلال السنوات الماضية.

ما يثير قلق الولايات المتحدة الأميركية في هذا الصدد، يتعلّق بالمخزون الهائل من الألغام البحرية الذي تمتلكه إيران، وتقدّره المصادر العسكرية الأميركية والبريطانية بنحو 6 آلاف لغم بحري من منشأ شرقي، إلى جانب وجود برنامج محلي لتصنيع الألغام البحرية، وهو ما يضع إمدادات النفط الخام التي تعبر مضيق هرمز - وتقدر بنحو 30 إلى 35% من إمدادات النفط العالمية - أمام مخاطر كبيرة في حالة اندلاع أي مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة وإيران.

تمتلك البحرية الإيرانية كذلك تنوعاً كبيراً في وسائط بث الألغام، مثل زوارق "عاشوراء" السريعة. يضاف إلى ذلك عدد من الوسائط النوعية لنقل الألغام وبثها، ومنها الطوربيد المأهول "غافاسي"، وهو عبارة عن تعديل تم إجراؤه محلياً على الطوربيد البحري الثقيل من عيار 533 ملم، بحيث يتحوَّل إلى مركبة غوص متعددة المهام يبلغ طولها حوالى 7 أمتار، ويتكون طاقمها من غواص واحد أو غواصين، وتستخدم هذه المركبة في العمليات البحرية الخاصة، إلى جانب إمكانية استخدامها لبث الألغام، إذ تستطيع حمل لغم واحد من الألغام الإيرانية الصنع بزنة 480 كيلوغراماً.

أيضاً، تمتلك البحرية الإيرانية مركبة نقل الغواصين "السابحات-15"، وهي مركبة محلية الصنع تم إنتاجها بالاستفادة من مركبات مماثلة ألمانية الصنع، وهي مركبة متخصّصة في إسناد عمليات الإنزال البرمائي، ويتم إطلاقها عن متن سفن الإنزال من فئة "هينجام". ومن الممكن تعديلها للانطلاق عن متن الغواصات، وتبلغ إزاحتها الكلية 10 أطنان، وتمتلك القدرة على بث الألغام البحرية، ويتألف طاقمها من غواصَيْن، ويمكن أيضاً تحويرها لتصبح مركبة هجومية تعمل بمبدأ الطوربيدات نفسه.

 

الألغام البحرية في الصين وروسيا

تعد الصّين أيضاً من مصادر التهديدات المتعلقة بالألغام البحرية، من وجهة نظر الأوساط العسكرية الغربية، إذ تقدر أعداد الألغام البحرية الموجودة في حوزة بكين بنحو مائة ألف لغم على الأقل، بعضها يعد من أحدث الألغام البحرية المتوفرة في العالم، ويتميز بالقدرة على التمركز في المياه العميقة، بحيث يصعد إلى السطح في حالة استشعار وجود هدف بحري معادٍ.

في منتصف العام 2018، أجرت البحرية الصينية واحدة من أكبر تدريبات حرب الألغام البحرية على الإطلاق، شاركت فيها نحو 60 كاسحة ألغام وعشرات الطائرات والغواصات. وقد أدى هذا التدريب إلى زيادة القلق المتزايد بالفعل بشأن توسع الصين في بحر الصين الجنوبي. وتعد روسيا وكوريا الشمالية أيضاً من أهم مصادر التهديد التي تراقبها البحريات الغربية، إذ تمتلك الأولى نحو 250 ألف لغم بحري، وتمتلك الأخرى نحو 50 ألف لغم بحري.

التحدي الثالث الذي تواجهه الدول الغربية في هذا الإطار هو ضعف الجاهزية القتالية الحالية لمكافحة خطر الألغام البحرية. مثلاً، تعتمد أستراليا بشكل كبير على إمدادات الوقود الآتية عبر سنغافورة من مضيق ملقا ومضائق أخرى في إندونيسيا، وتجد نفسها في مواجهة خطر مستقبلي يتمثل في عدم امتلاكها القدرة العسكرية الكافية للتعامل مع خطر الألغام البحرية، إذ تمتلك حالياً 4 كاسحات ألغام من فئة "هيون" من إجمالي 6 كاسحات تم تصنيعها أواخر تسعينيات القرن الماضي، وتم تفكيك 2 منها في العام 2014.

المشكلة الأساسية هنا أن السفن الأربع ستخرج من الخدمة خلال السنوات الخمس المقبلة، وبالتالي تجد الحكومة الأسترالية نفسها أمام وضع يقتضي الإسراع في الحصول على كاسحات جديدة للألغام، تحسباً لتصاعد التوتر في بحر الصين الجنوبي.

البحرية البريطانية ليست في حال أفضل كثيراً من البحرية الأسترالية في ما يتعلّق بمكافحة الألغام البحرية، فهي تمتلك حالياً 13 كاسحة ألغام، بواقع 6 سفن من الفئة الأقدم "هانت"، وسفن أحدث من الفئة "ساندون". وأشار تقرير مكتب التدقيق الوطني البريطاني للعام 2019 إلى أن البحرية البريطانية ستفقد بحلول العام 2030 قدراتها العسكرية لمكافحة الألغام، وخصوصاً بعد خروج سفن الفئة "هانت" التي يعود تاريخ صنعها إلى أوائل ثمانينيات القرن الماضي. 

وبما أن الحكومة البريطانية لم تعلن حتى الآن عن أي خطط لبناء كاسحات ألغام جديدة، فإنَّ هذه المعضلة سوف تشكل هاجساً كبيراً أمام بريطانيا خلال السنوات المقبلة. البحرية الأميركية أيضاً تواجه وضعاً مماثلاً، فبحلول العام 2025، ستخرج من الخدمة كاسحات الألغام الأميركية من فئة "أفينجر"، التي تمتلك منها البحرية الأميركية 11 كاسحة، كما ستخرج من الخدمة 31 مروحية لمكافحة الألغام من نوع "سي دراجون"، وهو ما سيجعل البحرية الأميركية فعلياً من دون أية قدرات أساسية لمكافحة الألغام البحرية.

  • كلّف إصلاح الفرقاطة الأميركية
    كلّف إصلاح الفرقاطة الأميركية "صامويل روبرتس" التي أصيبت بلغم بحري إيراني مبلغ 96 مليون دولار

 

إذاً، نصل إلى خلاصة مفادها أن التهديدات الناجمة عن الألغام البحرية عادت بقوة في السنوات الأخيرة. ويبقى هذا السلاح هو الأرخص على المستوى البحري، إذ يتراوح سعر اللغم البحري الواحد بين 1500 و2000 دولار، لكن الخسائر التي تنتج منه قد تكون كبيرة. مثال على ذلك خسائر الولايات المتحدة خلال الفترة الممتدة من العام 1950 وحتى العام 2013، فقد تسببت الألغام البحرية بما نسبته 74% من إجمالي خسائر البحرية الأميركية، بمجموع 14 قطعة بحرية. 

وقد كلّف إصلاح الفرقاطة الأميركية "صامويل روبرتس" التي أصيبت بلغم بحري إيراني مبلغ 96 مليون دولار، في حين كلف إصلاح فرقاطة الصواريخ الموجّهة "يو أس أس برينسيتون"، وسفينة الهجوم البرمائي "يو أس أس تريبولي"، اللتين أصيبتا بألغام بحرية عراقية، ما مجموعه 29 مليون دولار.