مسيرة المقاومة في ربع قرن وانتقالها من حال إلى حال

محطة مفصلية في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي شكلها الانتصار الذي حققته المقاومة اللبنانية على إسرائيل في آب من عام 2006، بعد 33 يوماً من شن هذه الأخيرة حرباً هستيرية استهدفت كل ما يمكن استهدافه في لبنان من بشرٍ وحجرٍ وبنى تحتية ومدنيين. نستعرض في هذه المادة مسار ربع قرن من هذه المواجهة التي تخوضها المقاومة، منذ عدوان نيسان عام 1996 (الذي شكّل بدوره محطة انتصار تأسيسي ثبتت فيه المقاومة شرعيتها) وحتى اليوم، وكيفية تطور قدرات المقاومة وانقلاب الصورة لمصلحتها في المواجهات المباشرة، وكيف تمكنت من تثبيت معادلة جديدة للردع بوجه العدو، وفرض توازن رعب حقق الأمن في جنوب لبنان طوال السنوات الماضية.

ساهمت الصور المروعة للمجازر الإسرائيلية خلال عدوان نيسان في الدفع باتجاه تفاهم نيسان

جاء عدوان إسرائيل على لبنان في نيسان/إبريل من العام 1996 في سياقٍ دوليٍ وإقليميٍ عنوانه مشروع أميركي "للسلام" كان يقوده الرئيس بيل كلينتون. وكما هي عادة مشاريع السلام الأميركية فقد استبطن هذا المشروع ضروراتٍ إقليمية أولويتها إزالة العقبات الحائلة دون إتمام هذا المشروع، وهذه العقبات عادةً ما تحدد أميركياً وإسرائيلياً على أنها قوى المقاومة المتمسكة بالحقوق العربية، وكان لزاماً القضاء على المقاومة في لبنان كتجربةٍ ناجحة ومتصاعدة، لكم الأصوات التي يتوقع علوها بوجه السلام المزعوم.

وكالعادة أيضاً تبرعت إسرائيل بدور "بلطجي" المنطقة، واضعةً لنفسها هدف القضاء على قدرات المقاومة، فشنت في شهر حملتها العسكرية الشهيرة تحت عنوان "عناقيد الغضب"، وقد أتت هذه الحملة العنيفة مباشرةً بعد مؤتمر شرم الشيخ الذي عُقد في آذار 1996 وطالب بمكافحة الإرهاب بشتى أشكاله وبواعثه، ولم يميّز بين الإرهاب والمقاومة، وبعد دعوة كلينتون إلى محاصرة "أعداء السلام". وعلى جري العادة أيضاً، ترافق هذا العدوان مع سعي رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز لحصد انتصار عسكري يساعده في الانتخابات.

لكن نهاية الحرب لم تكن على قدر الآمال الإسرائيلية والأميركية، فقد صمدت المقاومة وحافظت على قدرتها النارية طوال أيام العدوان، وحققت مفاجآت في تطور أسلوب المواجهة، على الرغم من المجازر المروعة التي ارتكبتها إسرائيل، وأشهرها مجزرتي المنصوري (قصف سيارة إسعاف تقل مدنيين) وقانا (قصف مقر القوة الفيجية التابعة لقوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان) والتي أدت إلى استشهاد 106 مدنيين من النساء والأطفال والعجزة الذين لجأوا إلى مقر قوات الطوارئ للاحتماء من القصف.

لكن النتيجة السياسية لهذا العدوان كانت أكثر سوءاً بالنسبة لإسرائيل، فمن خلال حضورها الميداني والجهد السياسي الذي رافقها والتفاف اللبنانيين حولها، ثبتت المقاومة اللبنانية شرعيتها كقوة مقاومة للاحتلال باعتراف المجتمع الدولي الذي ترجم في "تفاهم نيسان".

وحظي التفاهم بدعم إقليمي ودولي كاملين، فالتزمت به الإدارة الأميركية وترجمته في قمة الدول السبع التي انعقدت في فرنسا في نهاية حزيران وتبعتها قمّة القاهرة العربية في الشهر ذاته. وقد أكد الموقفان الدولي والعربي الاستقلال السياسي والوحدة الإقليمية للبنان، وتم تثبيت القرار 425 كمرجعية تحكم عمل المقاومة وتفرض على إسرائيل الانسحاب من الأراضي التي تحتلها في جنوب لبنان.

وبنتيجة هذا العدوان واستمرار عمل المقاومة وتوجيهها الضربة تلو الأخرى للاحتلال، تحقق الانسحاب الإسرائيلي من معظم الجنوب اللبناني في أيار من العام 2000، باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وجزء من قرية الغجر، التي تستمر إسرائيل باحتلالها حتى اليوم.

لقد ساهمت الصور المروعة للمجازر الإسرائيلية خلال عدوان نيسان في الدفع باتجاه تفاهم نيسان، خصوصاً مع الجهود الديبلوماسية التي أسفرت عن تعاطف دولي كبير مع لبنان. بالإضافة إلى نشاط الديبلوماسية الفرنسية بقيادة الرئيس جاك شيراك الذي ساند الموقف اللبناني يومها، وخفف من حدة الموقف الأميركي.

المقاومة بين التحرير وحرب تموز 2006

ارئيس رفيق الحريري كان صديقاً للمقاومة اللبنانية في المحطات التي خاضتها بوجه الاحتلال الإسرائيلي

بعد التحرير عام 2000، تغيرت الإدارة الأميركية ووصل المحافظون الجدد إلى الحكم في واشنطن، وترأس البيت الأبيض الرئيس جورج دبليو بوش المفعم بالاندفاع نحو الحسم والسيطرة على العالم، وتثبيت الأحادية الأميركية القائدة خصوصاً في الشرق الأوسط، والتي اتخذت من الموقف الإسرائيلي عنواناً لدورها في الصراع القام في المنطقة.

وعلى اثر اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر الإرهابية في نيويورك وواشنطن، دفع بوش الإبن بجيشه إلى أفغانستان، ثم إلى العراق، وعرض على سوريا تغيير موقفها من المقاومة في لبنان، وإلا مواجهة القبضة الأميركية المتحفزة للعدوان. وجاء الموقف السوري متمسكاً بثوابت المقاومة والموقف التقليدي من الصراع العربي ــ الإسرائيلي في رفض عرض "كولن باول" بين التخلي عن حركات المقاومة، أو مواجهة الضغوط المتأتية من تواجد الجيش الأميركي على حدود في العراق.

ومع الرفض السوري للعرض الأميركي، انفجرت بوجه سوريا والمقاومة في لبنان تطوراتٌ دراماتيكية كان أبرزها اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في شباط/فبراير من العام 2005 (صاحب الدور البارز في تفاهم نيسان) والذي كان يعتبر صديقاً للمقاومة اللبنانية في المحطات التي خاضتها بوجه الاحتلال الإسرائيلي طوال السنوات السابقة للاغتيال.

 

انتصار المقاومة في حرب تموز 2006

هذه المرة لم يكن الانتصار عادياً، بل كان مدوياً بكل المقاييس

اتهمت القوى السياسية اللبنانية الحليفة للغرب سوريا باغتيال الحريري، وانفجرت تحركات شعبية عارمة مناهضة للوجود السوري في لبنان، واتخذت القيادة السورية في آذار/مارس من العام 2005 قراراً أعادت بموجبه انتشارها في منطقة البقاع المحاذية للحدود مع سوريا، ثم ما لبثت أن انسحبت من لبنان، تاركة البلاد في حالة مواجهة قطبية حادة بين فريق يجمع قوى المقاومة من جهة، وفريق آخر من القوى السياسية الحليفة للغرب، وعلى رأسها تيار المستقبل الذي أسسه الحريري، والذي دفع هو الآخر باتهام سوريا باغتيال مؤسسه.

مباشرة بعد الاغتيال وعموم الفوضى السياسية في البلاد، شنّت إسرائيل حربها المدمرة على لبنان في 12 تموز 2006، والتي استمرت حتى 14 آب من العام نفسه، على مدى 33 يوماً، قصفت خلالها مئات الأهداف التي تنوعت بين مراكز لحزب الله وحركة أمل والجيش اللبناني ومؤسسات ومرافق لبنانية رسمية ومحطات إعلامية وبنى تحتية أساسية أبرزها محطات الكهرباء والجسور ومطار بيروت الدولي، وقامت بمحاولات اغتيال عديدة لقادة المقاومة أبرزها محاولة اغتيال السيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله من خلال تدمير مجمّع سكني كبير في الضاحية الجنوبية لبيروت افترضت وجوده فيه، ما أدى إلى مجزرة راح ضحيتها عشرات المدنيين.

لكن نتيجة الحرب، مرةً أخرى كانت لصالح المقاومة، وهذه المرة لم يكن الانتصار عادياً، بل كان مدوياً بكل المقاييس. خلال هذه الحرب لم تثبّت المقاومة شرعيتها فحسب، بل ثبتت مكانتها وقدرتها على الردع، والإصابة في البر والبحر، وهو أمرٌ جديدٌ كلياً في سياق الصراع بينها وبين العدو.

لقد تمكنت المقاومة في الأيام الأولى من الحرب من إصابة بارجة حربية متطورة وقتلت طاقمها قبالة سواحل بيروت، ثم أصابت زورقين حربيين آخرين قبالة الساحل الجنوبي. وعلى وقع هذه المفاجأة التي أرفقتها المقاومة بحرب إعلامية عالية الفاعلية، أحدثت المقاومة مفاجأةً أخرى من العيار الثقيل، أهانت بموجبها درتي سلاح البر الإسرائيلي، أسطورة دبابة "الميركافا" التي دمرت العشرات منها في وادي الحجير ومواقع أخرى، ولواء النخبة في جيش العدو "غولاني" الذي سقط العشرات من أفراده أشلاء في ساحة المعركة. ولم يتمكن الجيش الإسرائيلي من اجتياز نهر الليطاني لأسابيع طويلة، على الرغم من الإمداد الأميركي المفتوح عبر جسر جوي استمر طوال الحرب.

معادلة أخرى ثبتتها المقاومة خلال حرب تموز، ترتكز إلى القدرات الصاروخية. فعلى مستوى القدرات الصاروخية النوعية والتكتيكية كشفت المقاومة عن امتلاكها لصواريخ مضادة للدروع، استخدمت في تدمير اسطورة الميركافا، وهي كانت مفاجئة جداً للعدو الذي اقتحم البر من دون إجراء حساباته على أساس واقع قدرة المقاومة على تبديد آلياته ووقف تقدمه وهزيمته في ساحة البر.

وعلى مستوى الصواريخ المتوسطة، فرضت المقاومة معادلة المدن المتقابلة، والتي عبر عنها السيد نصر الله بعبارة "ما بعد حيفا، وما بعد بعد حيفا"، وصولاً إلى وضع استهداف بيروت في مقابل قصف تل أبيب.

انتهت الحرب بدمار واسع في لبنان، لكن النتيجة الأهم كانت تتمحور حول الدمار الوجودي الذي طال الطرف الآخر، فالجيش الإسرائيلي بعد هذه الحرب لم يعد ذلك الجيش المرعب الذي لا يقهر، وانهارت صورته بشأن امتلاكه زمام المبادرة، بل انتقلت إلى المقلب الآخر، لتصبح المقاومة هي الطرف الأكثر قدرة على فرض المعادلات.

وكانت المواكبة السياسية المقاومة فاعلة جداً في تدعيم نتائج الميدان، فتمكنت المقاومة من تحقيق انتصار آخر في المفاوضات التي تولى شقها السياسي رئيس مجلس النواب نبيه بري بالتنسيق اللحظي مع حزب الله، وجاء القرار 1701 ليشكل عائقاً أمام إسرائيل أكثر مما شكل حدوداً أمام عمل المقاومة، التي استمرت إلى جانب قدراتها العسكرية كقوةٍ شعبية عارمة مدفوعةً بزخم من الاحتضان الجماهيري الواسع.

المقاومة بعد الحرب

السيد نصر الله: سيحضر الإسرائيليون بثاً مباشراً لتدمير ألويتهم العسكرية إذا دخلت لبنان

أحدثت نتائج الحرب انقلاباً كبيرة في المشهد الشرق-أوسطي، ففشل المخططات الأميركية والإسرائيلية وسقطت أهداف الحرب التي رسمتها إسرائيل في مخيلة قادتها على صورة تدمير قدرات المقاومة وتجريدها من مخزونها التسليحي وإجبارها على الاستسلام.

وغيرت الولايات المتحدة من مقاربتها تجاه المقاومة. فنقلت اتهامها باغتيال الرئيس رفيق الحريري من سوريا إلى حزب الله. فبدأت معركة جديدة أمام المقاومة، عنوانها رد الاتهام، ومواصلة تحصين واقعها الداخلي عبر تفاهم مع قوى أخرى على الساحة اللبنانية، مثل العماد ميشال عون رئيس التيار الوطني الحر آنذاك، والذي أصبح لاحقاً رئيساً للجمهورية.

وتجاوزت المقاومة ضغوط الاتهامات المتتالية، حتى انفجرت الأزمة السورية، ووجدت المقاومة نفسها أمام خطر آخر، وهو الإرهاب التفكيري الذي أعلن منذ بداية الأزمة في سوريا عن نيته استهدافها، فتدخلت في معارك الحدود للحؤول دون وصول التكفيريين إلى عقر دارها.

شكلت انتصارات المقاومة ضد المجموعات الإرهابية على الحدود وفي سوريا مفاجأة جديدة من مفاجآتها. فهي على مدى سنوات الحرب السورية، حققت انتصارات مهمة جداً، تمكنت من خلالها من ردع القوى المناوئة لها، وحررت بالتضافر مع الجيش اللبناني الجرود اللبنانية المحاذية لسوريا. على الرغم من أن الإرهاب طال مناطق تواجدها في البقاع وضاحية بيروت الجنوبية، لكنها انتصرت في النهاية وثبتت مرة جديدة تفوقها الميداني على نوع جديد من الأعداء، الذي هدفوا إلى إنهائها.

واليوم، وبعد سنوات على انتصار تموز، وبعد حسم المعارك في سوريا لمصلحتها، تواصل المقاومة تدعيم قدراتها لمواجهة إسرائيل. لكن مخططات جديدة ترسم لها، وهذه المرة تركز هذه المخططات على إضعافها مالياً، وقطع إمداداتها، في سياق الضغط الأميركي الأقصى الذي يستهدف محور المقاومة برمته، من إيران وصولاً إلى كل حركات المقاومة في المنطقة. ووفق خطاب الأمين العام لحزب الله في ذكرى الانتصار الـ13، فإن مفاجآت أخرى تنتظر العدور فيما لو حاول المغامرة مرة جديدة بحربٍ على لبنان.

فبالإضافة إلى القدرات التي تم التلميح إليها مراراً حول قدرات المقاومة في الجو، فإن وعده بمشاهدة تدمير قوات الجيش الإسرائيلي "مباشرةً على الهواء" يبدو واقعياً، قياساً إلى تحقيق الوعود السابقة.