عن صعود السلفيّة بعد "الصحوة العربية"

برز دور السلفيين في دول عربية عدة، بوصفه نتيجة جدلية للصحوة العربية، وقد تجلّى في هذا الدورِ الانتقالُ من الانكفاء السياسيّ إلى المأسسة السياسية الفاعـلة على الأرض.

كتاب "الشلفية بعد الصحوة العربية"

 

يتطرّق كتاب "السلفية بعد الصحوة العربية"، الذي حرّر فيه الكاتبان فرانشيسكو كافاتورتا وفابيو ميرون، مجموعةَ دراسات قام بها باحثون دَولـيّون؛ إلى الحالة السلفية، وتقاطعِها مع الآيديولوجيا الجهادية والتيارات السياسية. وتفحَصُ هذه الدراسات سلفِـيّي مصر وتونس واليمن، بوصفهم أبرزَ تجلّيات الصحوة الحادثة في العالم العربي، ومَكمَنَ فهْمِ حيثـيّة الصحوة في الدوائر السلفية. وخلص الباحثون، في هذا الكتاب، إلى أنّ المأسسة السياسية التي عمد إليها السلفيون، لم تمحُ دورَ مفهوم "الجهاد" الذي يعتقدونَه.  

 

تونس.. سـلفية محارِبة للاستعمار ومأسسة ديمقراطية

يقول الكتاب إنّ من الأخطاء التي ارتكبها الباحثون حول السلفية في تونس، أنهم اعتبروها شكلاً من أشكال الإسلام السياسيّ المستورَد من الخارج، بعد سقوط نظام الديكتاتور التونسيّ زين العابدين بن علي؛ وذلك أنّ بن علي قد رعى بنية مؤسّسية ودستورية ذات وجهة غـربيّة. ويؤكّد الكتاب أنّه ضمن العالم العربي، لطالما مثّــلت تونس حالة فريدة من العلاقة القائمة بين الدين والسياسة. فالمواطنون التونسيون يحملون توجّهًا واضحًا نحو الدين وثقافة الإسلام. وبالتالي؛ فإنّ إنكار هذه العلاقة الوطيدة بالدِّين لن يساعد في فهمٍ واقعي لأسباب الفوز الانتخابي لحزب "“النهضة” " التونسيّ في أول انتخابات متعددة الأطراف الحزبية جرت في تشرين الأول/أوكتوبر 2011.

ويقول الكتاب إنّ الحركات السلفية التي بزغت تحت عناوين متنوّعة، بعد سقوط نظام بن علي، لديها جذورها الكامنة في الكيان التونسي، وفي تطوّر مجموعة اتجاهات وُجِدت في البلاد منذ أواخر تسعينيات القرن العشرين.

ثمة تفسيرات عـدّة لبروز السلفية في تونس؛ إلا أنّ اثنينِ منها، بحسب الكتاب، تبدو أكثر واقعية. إذ، أولًا؛ ثمة دينامية ترتبط بسقوط النظام الديكتاتوريّ، وبما تبعه من لَبْـرَلَةِ الساحة الاجتماعية-السياسية التي شهدت بزوغ حركات سياسية واجتماعية كانت مهمّشة أو مقموعة في ظلّ النظام البائـد. وإنّ بروز الحالة السلفية بوصفها لاعبًا جديدًا في ساحة الحياة العامة التونسية، قد تمّ وَسَطَ أجواء الدينامية الآنفة الذِّكر. وثانيًا؛ إنّ إنشاء مجموعات سلفية، وما حظيت به من تأييـدِ بعض الجهات في المجتمع، هما نتيجةٌ مباشرة للخيارات التي اتخذها حزب "“النهضة” " الإسلاميّ.

في الواقع؛ لقد اختار حزب “النهضة” ، الذي أُعلِن حزبًا بصورة رسمية في آذار/مارس 2011، أن يُجري عملية تحوّل داخليّ، تَكـيّف بفعلها مع السياق السياسي والدستوري، إلى أن اعترف، أخيرًا، بمبادئ الديمقراطية الأكثر أهمية، وهي التعددية والمداوَرة واحترام حقوق الأقليات. بالتالي؛ انتقل حزب “النهضة”من كونه حركة معارضة للنظام الحاكم، إلى كونه حركة ذاتَ مأسسة، ولاعبًا إسلاميًّا فاعلًا في الساحة السياسية.

ويقول الكتاب إنّ النقاش حول ضرورة إرجاع المجتمع التونسي إلى القيم التي حملها المجتمع الإسلامي السالف، تاريخيًّا؛ كان قد نشأ بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين. وكانت الآيديولوجيا السلفية والتراث الفكري السلفيّ، بقيادة أمثال محمد السنوسي، في صدارة المواجهة ضدّ محاولة فرنسا (المستعمِرة لتونس آنذاك) غَـرْبَنة المجتمع التونسيّ. وفيما ظلت السلفية شكلًا من أشكال المعارضة الفكرية للسياق الاجتماعي-السياسي القائم؛ كانت هي عينُها، مع حلول سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، نواةَ ما أصبح في ما بعد حزبَ "“النهضة” " الذي حوّل الصراع الآيديولوجيّ إلى صراع سياسيّ.

ومع أنّ الأسس التي قامت عليها الحركات السلفية التونسية، كانت موجودة في البلاد؛ إلّا أنّ تطوّر السياق الديموقراطي الذي شهدته تونس، أثّـر بشكل عميق في نشوء أشكال جديدة من السلفية، وفي مسلكيّاتِها في الإطار التونسي الحاليّ.

 

"أنصار الشريعة".. سلفية-جهادية أم فعّالية سياسية؟

تظاهرة لحركة "أنصار الشريعة" السلفية في تونس

يقول الكتاب إنّ أكبر حركة سلفية في تونس، من حيث العديدُ والسطوة الجغرافية، هي حركة "أنصار الشريعة". لقد نشأت هذه الحركة في عام 2011، على نحو نتيجة مباشرة لظاهرتَينِ؛ الأولى، هي لَبْرَلَة المرحلة الانتقالية بعد سقوط نظام بن علي؛ والثانية، هي بروز حزب “النهضة”بوصفِه أكثر حالة سياسيّة تمثيلًا للإسلام السياسيّ في البلاد. ولقد سمح انتهاءُ القمع السياسيّ والرقابة، بأن تعمل كل المجموعات في إطار من الحرية السياسية. وهذا الانفتاح أدّى إلى دخول لاعبين كانوا محظَّرين، إلى الحياة العامة التونسية. وكان من بين هذه المجموعات الكثيرُ من الإسلاميين الراديكاليين الذين سَجنهم النظام البائد لميولهم الفكرية ونشاطاتهم التي كانت تشتمل على الإرهاب.

ولقد أدّى قرار حزب "النهضة" بالشروع في اندماج كلّي ضمن المؤسسات التونسية، ومعها في إيجاد تسويات مع مجموعات علمانية؛ إلى شرخٍ في الساحة الإسلامية التونسية. فبدأت العناصر الإسلامية الأكثر تشدّدًا بالابتعاد عن “النهضة”والاقتراب من الحالة السلفية، وتحديدًا حركة "أنصار الشريعة".

وساهمت ثلاثةُ عوامل في الشرخ الحادث بين "النهضة" و"أنصار الشريعة"؛ أوّلها، أنّ "النهضة" قد قررت تشكيل حكومة تحالف مع حزبَينِ علمانيينِ، والثاني أنّ "النهضة" رفضت كلّيًّا أن يشتمل الدستور الجديد على اقتباسات من الشريعة الإسلامية، والثالث أنّ حزب "النهضة" كانَ ينتقد علـنًـا تصرفات السلفيين في ساحة الشأن العام في تونس. وفي الوقت عينه، بدت من حركة أنصار الشريعة مميزاتٌ جعلت منها حالة فريدة مقارنة بالحركات السلفية التقليدية.

يقول الكتاب إنّ حركة "أنصار الشريعة" تبدو كأنها تُصنَّف ضمن أكثر من فئة في وقت واحد. فقد أسّسها "أبو إياد"، وهو جهاديّ تونسيّ سابق، يعود تدريبه الآيديولوجي والعسكريّ إلى ثمانينيات القرن العشرين. فبحسب خلفية وتاريخ "أبي إياد"، ينبغي أن تُصنَّف "أنصار الشريعة" ضمن الحركات السلفية-الجهادية. إلّا أن هذه الحركة، وتحديدًا في أولى مراحل نشاطاتها، كانت منقطعة إلى العمل الدَّعَوِيِّ فحسب، فركّزت على التربية والتبشير الديني، دون النشاط السياسيّ والعنف المسلَّح. فأقامت حلقات الدعوة في مساجدها الموزَّعة في أنحاء البلاد. وأعلن قائد حركة "أنصار الشريعة" مرارًا أنّ تونس هي أرض العبادة والصلاة، وليست أرضَ الجهاد المسلَّح.

يقول الكتاب إنّ الصعوبة في تصنيف حركة "أنصار الشريعة"، تكمن في استراتيجياها المزدوَجة التي اختلفت باختلاف تفاعل الحركة مع الأحداث، إنْ داخليًّا وإنْ خارجيًّا. بالتالي؛ مع كون الحركة اعتمدت الانكفاء السياسيّ في الداخل التونسيّ، فإنها دعمت الجهاد المسلَّح في الخارج، ولا سيما في العراق وسوريا.

كذلك؛ وضعت الحركة نفسها في منافسة مباشرة مع مؤسسات الدولة، من خلال تأمين الخدمات الاجتماعية، ومحاولتِها تأمينَ السلامة الاجتماعية كالتي أمّنتها المنظّمات التابعة للإخوان المسلمين، ذاتُ الوجهة الفكرية المشابِهة، في مناطق أخرى من المنطقة.

بالتالي، بدا أنّ "أنصار الشريعة" أثبتت أنها حركة أكثر فعّالية من النماذج التقليدية السلفية المنكفِئة. فقد روّجت الحركةُ، من خلال التظاهرات، لتضمين نصّ الدستور اقتباساتٍ من الشريعة الإسلامية، كما نظّمت اعتصاماتٍ في الجامعات بهدف الاستحصال على تطبيق بعض المفاهيم الدينية في باحات الجامعات، واحتجّت على إقامة الفاعليات الفنية (التي تعتبرها الحركة متعارضة مع الالتزام الديني).

هذا كلّه، بحسب الكتاب، يجعل من حركة "أنصار الشريعة" حركة سلفية ذات وجهة سياسية، لكن في الوقت عينه ليست محصورة في العمل السياسي البحت. فمعظم المحللين يصفونها بأنها مجموعة جهادية-سلفية... وإنه من المؤكّد أنّ الحركة تُجري عملية تأصيلٍ ذاتية، قد تؤدّي بها إلى الانتقال من الدعوة إلى الجهاد المسلّح.

 

مصر.. سلفيّة متأصِّلة ومستورَدة نشِطة

تظاهرة لسلفيي مصر

تعود جذور السلفية في مصر إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد نشأت هذه الحالة بوصفها حركة إسلامية جامعة تسعى وراء تحرير وتحديث العالم الإسلامي، وقد قادها فِكرُ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

دعا محمد عبده إلى الرجوع إلى الإسلام الأصيل، لأنه كان يعتقد بأن الإسلام يتواءم مع العلم والمنطق اللذينِ طَبَعَا سمة الحداثة. إلا أنّ السلفية الحالية تسودها الحالة الإسلامية التقليدية المتزمّتة التي تتمسّك بالتفسير الحرفيّ للتعاليم الإسلامية التي مارسها "السلف الصالح".

ويقول الكتاب إنّ نشوء السلفية السياسية بعد أحداث كانون الثاني/يناير 2011، يمكن اعتبارُها نتيجة لعملية السَّـلْفَـنَة التي سادت المشهد الديني في مصر على مرّ العقود الخالية. ولقد دفعت سياساتُ نظام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، بالسلفيين إلى توسيع شبكاتهم الاجتماعية ونفوذهم، على حساب الإخوان المسلمين، لا سيّما في الضواحي الفقيرة للقاهرة وغيرها من المحافظات. وعلى مدى العقد الأول للألفية الثالثة، شهدت مصر موجةً متزايدة من السلفية، ومع نهاية ذلك العقد، كان النمط السلفي قد سادَ الساحة الدينية في مصر.

ويقول الكتاب إنّ الطفرة التكنولوجية وانتشار الشبكات الاجتماعية، في الألفية الجديدة، ساعـدتـا السلفيينَ في توسيع قاعدتهم الاجتماعية وقدرتِهم على جذب جمهور جديد. ومن خلال القنوات التلفزيونية الفضائية، بدا النمط الفكري السلفيّ والمسلَـك السلفي رائجَينِ لدى مَن كانوا متديّنين أصلًا، وتكامل هذا مع عقودٍ زمنية من تنامي ظاهرة السلفية في مصر. وقد أجاد المشايخ والدعاة السلفيون، بسرعة، استعمالَ الوسائط التبشيرية الجديدة التي تفوّقت على الأنماط التبشيرية التقليدية، كالمساجد والمدارس.

ويشير الكتاب إلى أنّ توسّع السلفية كان كذلك نتيجة مواجهة النظام القائم (نظام حسني مبارك) مع حركة الإخوان المسلمين. فمن أجل محقِ المقبولية السياسية والاجتماعية للإخوان المسلمين؛ عمد النظامُ إلى منحِ مساحة أكبر للسلفيين لنشر آرائهم وتوسيع شبكاتهم الاجتماعية.

ويضيف الكتاب سببًا آخر لرواج الفكر السلفيّ؛ هو عودةُ الطبقة الوسطى المتعلّمة، من المصريين، من دول الخليج العربية حيث هاجروا طلبًا لفـرَص العمل. فكثير من هؤلاء المصريين عاد إلى مصر، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حاملينَ اعتقادًا قويًّا بالفكر السلفي. وتدريجيًّا، أصبح هؤلاء مؤثِّـرينَ في منَ حولَهم، ونالوا دعمًا لدى أوساط المصريين المتـديّنين غير الراضين عن دور مؤسسة الأزهر، الداعم للنظام، ومواقفِه. فقد خلق انعدام مصداقية علماء الدين التقليديين التابعين للأزهر، فراغًا في القيادة الدينية، ملأهُ الدعاة السلفيون بدلًا منهم.

ويعزو الكتاب انتشارَ الحالة السلفية في مصر، كذلك، إلى الشبكات الاجتماعية الكثيرة العائدة للدعاة السلفيين. فهذه المنظّمات الخيرية السلفية رعت أحوالَ المصريين الفقراء، بنمط فعّال اشتمل على خدمات اجتماعية وإعانات مالية واستشفائية وتعليمية.

إلى ذلك، يقول الكتاب إنّ الحالة السلفية ساعدت الكثير من الشبّان المصريين الفقراء، على إيجاد معنى لوجودهم، وحماسة للحياة، من خلال ما منحتهم إياه الرعاية السلفية.

ولا ينكر الكتاب أنْ يكون المال السعوديّ، والمال المقدَّم من قِبل المصريين الذين هاجروا إلى دول الخليج، قد أثّـرا على المشهد السلفيّ؛ لكن ذلك لا يلغي حقيقة أنّ جذور السلفية في مصر عميقة ومتأصّلة بنمط يجعل الكثير من المنظّمات السلفية مستقلّة إلى حدّ بعيد، عن المصالح السعودية.

 

"الدعوة السلفية".. والانقلاب على الانكفاء السياسيّ

يقول الكتاب إنّ حركة "الدعوة السلفية" نشأت في سبعينيات القرن العشرين، عندما قررت حركات طلابية تابعة للجماعة الإسلامية، أن تنشقّ عن "الجماعة" وتشكِّلَ حركة جديدة... سمِّيت "الدعوة السلفية". نشِطت هذه الحركة الجديدة في الإسكندرية واستهدفت الطلاب الجامعيين. ويؤكّد الكتاب أنّ الاختلافات الآيديولوجية والتكنولوجية، مع حركة الإخوان المسلمين، كانت أساسية في تأسيس "الدعوة السلفية".

لقد سعى الإخوان المسلمون إلى الهيمنة على الساحة الإسلامية، وانقطعوا إلى النشاط السياسيّ الذي تعارض مع الفهم السلفيّ للمفاهيم الدينية التي رسم معالمَها الألباني وغيرُه من علماء الدين السعوديين. فبالنسبة إلى المنظّرين السلفيين؛ ينبغي اجتنابُ العمل السياسيّ، لأنه يُحرِف عن القضايا العقيدية، وعن أهمية التعليم الديني. وبهذا اللحاظ؛ شكّل الإخوان المسلمون خصمًا ومنافسًا، ضمن المشهد الإسلاميّ، لأنهم كانوا يؤمنون بالمشاركة في العمل السياسي، ويعملون وفق هذا الإيمان؛ ما يجعل الدينَ تابعًا – بحسب الفهم السلفيّ – للسياسة (وهو ما لا يمكن، سلفيًّا، قبولُه).

كان محمد إسماعيل المقدِّم، المؤسِّسَ الأولَ للدعوة السلفية؛ وقد تأثّـر بمفكّرين سلفيين سعوديين أمثال ابن باز وإبن العُـثَيمين، إضافة إلى ابن تيمية وابن القيّم الجوزية ومحمد بن عبد الوهّاب، الذائعي الصيت.

لم يكن للدعوة السلفية بنية تنظيمية منضبطة. فقد اعتمدت الدعوة بالدرجة الأولى على النشاطات الدينية والاجتماعية للوصول إلى أفراد المجتمع. ونظّمت الدعوة السلفية محاضراتٍ دعوية مجانية، وأقامت حلقات ترفيهية-توجيهية صيفية؛ كما أعطى قادتُها محاضرات دينية في جميع أنحاء مصر، مركّزينَ على أمور العقيدة وعلى الإرشاد.

وفي العام 1986؛ أسّست الحركةُ معهدَ "الفرقان" لإعداد الدعاة الإسلاميين. ومع الوقت بات المعهدُ صرحًا أساسيًّا للتعبئة ونشر الآيديولوجيا الخاصة بحركة الدعوة السلفية. كما أصدرت الحركة مجلّة شهرية، بعنوان "الدعوة"، والتي أصبحت وسيلة الإعلام الأساسية التابعة للحركة.

ويشير الكتاب إلى أنّه من حيث الآيديولوجيا؛ تنظُر الدعوة السلفية بسلبية تجاه مفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية. وحتّى قيام الصحوة العربية (عام 2011)، كانت الدعوة السلفية شديدة الحذر من المشاركة السياسية؛ إذ اعتبرت أنّ ممارسة السياسة الديمقراطية تمثّـل قمّة الشرخ في المجتمع، لأنها تجعل الأحزابَ – وبالتالي المؤمنين – متبارينَ في ما بينهم.

لقد تعرّضت الدعوة السلفية للكثير من التضييق من قِبل قوات النظام الحاكم. وكثير من قادة الحركة تم اعتقالهم وتعذيبُهم مع كونهم منكفئين سياسيًّا. حتى أنّ الحركة ظلّت صامتة عندما اعتُقِل أحد أفرادِها وتمّ تعذيبه حتى الموت في كانون الثاني/يناير 2011.

إلى ذلك؛ يحرّم العلماء السلفيون التقليديون الثورةَ، أو "الخروج"، طالما أن الحاكم هو مسلم (ولو شكليًّا). وعندما قامت التظاهرات ضدّ نظام مبارك، انتقدتِ الدعوة السلفية المتظاهرينَ، ودعت السلفيينَ إلى عدم المشاركة في التظاهرات التي عمّت الشوارع المصرية.

إلّا أنّ نجاح الهبّة الشعبية دفعت ببعض السلفيين إلى إعادة النظر في مواقفهم. ومع الوقت؛ شعرت الأغلبية الساحقة من السلفيين بضرورة دعم الحراك المعارض لنظام مبارك. فإذا كان السلفيون يريدون أن تكون لهم كلمة في تقرير مصير بلادهم (مصر)، وألّا يتمّ تهميشُهم، أو تصنيفهُم مع الذين دافعوا عن النظام (البائـد)؛ فكان لا بد لهم من أن يقبلوا بالمشاركة في الساحة السياسية، وأن ينحازوا لصالح المتظاهرين.

واندفع السلفيون إلى المأسسة السياسية بحماسة؛ فاستحدثوا أحزابًا سياسية، وانخرطوا في حملات انتخابية مصيرية.

وشكّل استحداث حزب سياسيّ ينافس في انتخابات تعددية، تغيّـرًا دراماتيكيًّا في العقيدة السلفية. كذلك؛ أجبرت الحاجةُ إلى مواكبة السياق السياسي السريع المتغيّرات، الحالةَ السلفيّةَ على اتخاذ خيار الانخراط في العمل السياسي. كما دفع خطرُ اتهام الحالة السلفية بالتواطؤ مع النظام الفاقد للشرعية، شخصياتٍ سلفيةً بارزة، إلى تعديل مواقفهم المنتقدة للثورة، وبالتالي إلى تبنّي التظاهرات.

وقد تخلّت الحالة السلفية، بسرعة، عن هواجسها الآيديولوجية؛ وعمد السلفيون إلى إنشاء عدد من الأحزاب التي تمثّـل التيارات المختلفة ضمن الحركة السلفية. وقد كان المتحدث السابق باسم حزب النور، محمد نور، صادقًا جدًّا، بحسب الكتاب، عندما أعلن "إنّنا دخلنا في مجال السياسة لحماية مصر من العلمانيين والليبراليين الذين حاولوا إلغاء هوية مصر الإسلامية".

 

"حزب النور" والانتهازية السلفية

تم تأسيس حزب النور بعد أشهر قليلة من الإطاحة بالرئيس المصري السابق حسني مبارك؛ وأصبحت لاعبًا أساسيًّا في السياسة المصرية. وأبدى حزب النور درجة متقدمة من البراغماتية السياسية، بل حتى الانتهازية! فمثلًا؛ خلال انتخابات عام 2011 البرلمانية، تبنّى الحزبُ خطابًا سياسيًّا بامتياز، وتكتيكات سياسية هادفة لجذب المقترعين. وانخرط قادة الحزب في بناء تحالفات مع قوى أخرى، منها الليبراليون والعلمانيون، سعيًا لنَيل أكبر عدد من المقاعد النيابية.

كذلك؛ بدت براغماتية حزب النور في بيانه السياسي. فقد دعا البيان إلى تأسيس دولة عصرية تحترم المواطَنة والعيش المشتـرَك. لقد وعى الحزبُ ضرورةَ إفهام اللاعبينَ المحليينَ والدوليين، أنه جاهـز لتأدية دوره في نظام سياسي تعددي، وأنه لا ينوي تخريب هكذا نظام. وركّز الحزب كذلك على أهمية الفصل بين السلطة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية؛ ودعا إلى تطبيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع المصريين. وفي السياسة الخارجية؛ دعا حزب النور إلى إنشاء علاقات بنّاءة مع حكومات دول أخرى على أساس الاحترام المتبادَل والتعايش السلمي.

ومع كون البيان لم يتطرّق بالتحديد إلى اتفاقية السلام المصرية مع إسرائيل، وهي الموضوع الشديد الحساسية في السياسة المصرية والدولية؛ فإنّ قادة الحزب أعلنوا أنهم سيخضعون لمضمون الاتفاقية. وقد أجرى المتحدث السابق باسم حزب النور، يسري حمّاد، مقابلة لم يسبق لها مثيل مع إذاعة الجيش الإسرائيلي؛ مؤكِّدًا أنّ الحزبَ ملتزمٌ باحترامَ الاتفاقية التي أبرِمت في العام 1979. كان حمّاد شديد البراغماتية إذ برّر موقفه هذا بأنه اتّخِذ من أجل المحافظة على مصالح مصر القومية.

كان السلفيون، بحسب الكتاب، أكثر انشغالًا بتقدّم المجتمع العلماني، منهم بنجاحات الإخوان المسلمين. فقد دفعت استحالة معرفة أي الأطراف سيسود، بعد الإطاحة بنظام مبارك، بمختلَف الحركات الإسلامية إلى الاتّحاد في العمل السياسيّ. لكن، بمجرّد أن بان تفوّق الإخوان المسلمين، ومحاولتُهم تهميش السلفيين ضمن التحالف؛ غيّر حزب النور تموضعَه السياسيّ، معتبرًا الإخوان المسلمين منافسًا له.

ويشير الكتاب إلى أنّ البراغماتية قد تكون مكلفة. فقد أثّـر موقف حزب النور، منذ سقوط الإخوان المسلمين وحُكمِ الرئيس المصري السابق محمد مرسي، سلبًا على صورته ومصداقيته؛ إذ انتقـدت قـوًى إسلامية كثيرة، وبشدّة، انتهازية حزب النور، ووبّخت قادته لدعمهم الجيش المصري الذي واجه حُكم محمد مرسي.

 

اليمن.. سلفية الوادعي ودار الحديث

لقاء لسلفيي اليمن

يشير الكتاب إلى أن الأبحاث الأكاديمية الراهنة في اليمن تُرجِع جذورَ السلفية فيه إلى أوائل ثمانينيات القرن العشرين؛ وتقول إنّ تطوّر هذه الحالة السلفية تمحورت بدرجة كبيرة حول شخصية مقبِل بن هادي الوادعي (المتوفى سنة 2001) وحول المعهد الذي أسّسه في شمال اليمن—"دار الحديث".

نشأ مقبِل الوادعي في محافظة صعدة – وهي منطقة في اليمن سادتْها تاريخيًّا أغلبية من الشيعة الزيدية – حيث تلقّى تربية وفق المذهب الزيديّ. ثم سافر الوادعي إلى المملكة العربية السعودية حيث اطّلع على أفكار وكتابات سلفية، وعلى إثرها صار يعتقد بأنّ مغالطاتٍ تشوب العقيدة الزيدية. ولدى عودته إلى اليمن، انتقد الوادعي العقيدة والطقوس الزيدية التي اعتبرها غير إسلامية.

ويضيف الكتاب أنّ شبكة من المكتبات والمساجد والمعاهد التعليمية، انتشرت حول معهد "دار الحديث" في الدمّاج. هذه المرافق كلها سهّلت توزيع أعمال الوادعي المكتوبة ومحاضراته المسجّلة. بالتالي؛ انتشرت السلفية بوضوح في تسعينيات القرن العشرين.

ولعلّ أبرز عناصر تعاليم الوادعي، كان انتقادُه للـ"حزبيّة"، ومعارضتُه لأي شكل من أشكال المشاركة السياسية. فهو يعتقد بأنّ أيَّ عهد يؤدّيه المؤمن لغير الله، من خلال الانضمام إلى منظّمة رسميّة، من شأنه أن يخلق شرخًا بين المسلمين. لذا؛ رفض الوادعي أيّة محاولة لمأسسة السلفية—سواء كانت على شكل أحزاب سياسية أو مؤسسات خيرية أو أية كيانات أخرى. وبالنسبة إلى الوادعي، فإنّ أسوأ أشكال التفرقة بين المسلمين، هو قبول النموذج الديمقراطي؛ فالديمقراطية لا تثير الفتنة – برأيه -- فحسب، بل كذلك توجِب الحُكم الذاتي للشعب، ما يهدّد سيادة الله على عباده.

تسييس الحركة السلفية ومحاباتُها للحكومة

أدى اتحاد جنوب وشمال اليمن، في عام 1990، إلى لحظة انفتاح سياسي، ولَبْرَلَة تسبّبت في نشوء مكثّف للأحزاب السياسية. وفي هذا السياق، أسّس بعض تلامذة الوادعي منظّمة "الحكمة" الخيرية، متأثرين على الأرجح بمسار حركة الصحوة الإسلامية في المملكة العربية السعودية آنذاك. وتدريجيًّا؛ رسّخ أعضاء "الحكمة" انفصالَهم عن الوادعي، لكن معترفينَ له بمكانته المرموقة كعالم دين.

واستمر تزايد انخراط النشطاء السلفيين في السياسة. وفي الغالب عمدوا إلى التصويت في الانتخابات المحلية والوطنية، إما لصالح حزب "الإصلاح" التابع لجماعة الإخوان المسلمين، وإمّا – أحيانًا -- لصالح "المؤتمر الشعبي العام" الحاكم في البلاد. إلى ذلك؛ بدأ بعض السلفيين بالمنافسة لنيل مراكز في الدولة في الانتخابات المحلية. ففي عام 1997، ترشّح بعض السلفيين في الانتخابات بوصفهم مرشحين مستقلين في عـدن، فيما ترشّح بعضهم الآخر، في عام 2006، وفازوا في مراكز في الدولة، في الانتخابات المحلية في حضرموت.

ومع حلول عام 2008؛ بدأت تُطرح فكرة تشكيل حزب سلفيّ، في الدوائر السلفية وفي الإعلام. وبعدها بعام، أعطت الانتخابات التشريعية دافعًا للتكهّنات حول تبنّي السلفيين لمرشحين برلمانيين وأحزاب سياسية.

ويقول الكتاب إنه حتى سنة 2011، بدا تسييسُ الحركة السلفية في اليمن، معتمدًا على الحكومة اليمنيّة. فلِخَـوف الإسلاميين اليمنيين من القمع السياسيّ من قِبل الحكومة اليمنية، اضطرّوا إلى كتمان انتقاداتهم والتقرّب أكثر إلى النظام القائم.

 

من "الرابطة" السلفية إلى حزب "الرشاد"

على إثر الحراك الشعبي في تونس ومصر، شارك المواطنون اليمنيون، من جميع الفئات العمرية والمناطق والخلفيات الاجتماعية-الاقتصادية؛ في تظاهرات ضخمة ضدّ الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح. فاحتشد آلاف النشطاء أمام جامعة صنعاء، ونزل عشرات الآلاف إلى الشوارع، في مناطق أخرى من البلاد. وشارك سلفيّون في محافظات عـدّة ضمن الهبّة الشعبية، غالبًا في إطار الاتحادات السلفية في صنعاء وتعز وإبّ. وشيئًا فشيئًا، تأسست "رابطة "النهضة والتغيير" للتنسيق وإرشاد جميع المؤسسات السلفية.

تألفت قيادة "الرابطة" من تسعة أفراد، جميعهم من مؤسسي حزب "الرشاد"؛ فقد ولِدت خطة تأسيس حزب سياسيّ، من ضمن الرابطة. وخطوة خطوة، بدأت قيادة الرابطة بتنفيذ رؤيتها، معلنة خطتَها إطلاق حزب سياسي. وبعد عقد مؤتمر سلفيّ، دام ثلاثة أيام، أعلِن تأسيسُ حزب "اتحاد الرشاد" في 14 آذار/مارس 2012. وكانت شخصيات سلفية معروفة قد شاركت في المؤتمر، ودعمت إعلان تأسيس الحزب.

ويذكر الكتاب خمسة أسباب لتأسيس حزب الرشاد؛ أوّلُها، التغيّرات في الفكر المعاصر—لا في فهم الدين، بل في استيعاب الواقع؛ ثانيًا، التغيرات الحاصلة في اليمن، لا سيما تأسيس ديموقراطية حقيقية؛ ثالثًا، الضغط من قِبل الشباب السلفيّ للشروع في مشروع سياسيّ جديد؛ رابعًا، النية في إعطاء الشباب بديلًا سياسيًّا وآمنًا من المجموعات العنفية؛ خامسًا، غيابُ صوت إسلاميّ في اليمن حيث ساد النفاق السياسيّ.

 

تغييب "السلفية" في علانية "الرشاد"

يقول الكتاب إن قادة حزب الرشاد اعتبروا أنفسهم سلفيين، إلا أنهم مالوا إلى العزوف عن إبراز عنصر السلفية في العَلَنِ، لدى تحدثهم باسمِ الحزب. لذا؛ لم يتمّ إرفاق لفظ "سلفية" في اسم الحزب ولا في برنامجه ولا في شرعة مبادئه ولا في لائحة أهدافه.

وغالبًا ما شدّد رئيس حزب الرشاد على أنّ الوجهة السلفية هي وجهة معتدلة وبعيدة من التطرّف. وقد ذكر أحد قادة الحزب أنّ كون المرء سلفيًّا لا يعني أنه متزمّت، شارحًا أنّ الاسم الصحيح للسلفيّ هو "المسلم". فبحسب أعضاء الحزب، فإنّ السلفية ليست مجموعة أو عصابة ينضم إليها المرء أو يخرج منها، بل هي مفهوم فكريّ ومنهج حياة.
ويشير الكتاب إلى أنّ قادة حزب الرشاد ألغوا استعمال مصطلحات فاقعة، كلفظة "بدعة" و"شِرك"، لدى وصفهم لطبيعة الحزب وبرنامجه السياسي. كما يشير الكتاب إلى سبب آخر لتجنّب استعمال لفظ "سلفية"؛ هو محاولة قيادة الحزب أن يُظهِروه على أنه حزبٌ جامع لا انعزاليّ. فمع كون حزب "الرشاد" قد أنشأه سلفيون، فإنّ أعضاءه ليسوا مقصورين على الحالة السلفية. ولقد اعتبر قادة "الرشاد" أنّ الدولة المدنية – إذا كانت لتُعرَّف على أنها علمانية لا دينية – تمثّـل مفهومًا لن يقبله اليمنـيّون أبدًا، لأنهم مسلمون متـديّنون.

ويخلص الكتاب إلى أنّه يبقى أن نرى ما إذا كان نشاط حزب الرشاد المتزايد في السياسة، وانخراطُه في انتخابات مستقبلية؛ سيعـزّز شعبويّة الحزب لدى المسلمين اليمنيين.