"راية العُقاب"، يُظهّر بطريقة مقصودة أو غير مقصودة مسارين سلكهما تيار "العنف التونسي"
"تحت راية العُقاب" عنوان كتاب للإعلامي التونسي هادي يحمد،
يتناول ظاهرة "السلفية الجهادية" في تونس، فيستعرض شخصياتٍ وأحداثاً
ومحطاتٍ من تاريخها الحديث، خصوصاً في المرحلة التي تلت التحوّل السياسي في عام
2011، بعد خلع الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، في سياق الانتفاضات الشعبية ضدّ
النُظم الاستبدادية في المنطقة العربية.
والكتاب، الذي يحمل اسم الراية المنسوبة إلى النبي محمد
صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتي تتبناها القوى الإسلامية المتطرفة شعاراً لها،
يبحث في استعراضه عن جواب محوريّ بشأن الظروف والأسباب والبيئة الاجتماعية التي
أدّت بالشباب التونسي المسالم تاريخياً إلى النزوع باتجاه العنف والاغتيالات، تحت
قيادة تنظيم "أنصار الشريعة"، الذي خالف التوقعات المتفائلة، ولم يكن
وفيّاً لوعود بيئته المعتدلة، ثم تنكّر لـ"خيام الدعوة" السلمية، حين
أفصح عن وجه مسالم، قبل تأطّره سراً في سرايا مقاتلة وممارسته الاغتيال السياسي
والإقصاء، مستهدفاً بالعنف القوى اليسارية والقومية ذات النفوذ القويّ في البلاد
التونسية؛ وذلك في ظلّ موقف مريبٍ ومتراخٍ أو داعمٍ أمّنه المكوّن الرئيس للإسلام
السياسي المعتدل متمثلاً بحركة النهضة التونسية ذات التوجّه الإخوانيّ، بزعامة
الأستاذ راشد الغنّوشي، منظّر الحقوق والحريات داخل الحركة الإسلامية العالمية.
ويقول الكتاب (ص 11): "لم يفعل قادةُ الإسلاميين
شيئاً من أجل وقف حملات التحريض التي وصلت في أحيان كثيرة إلى التكفير ودعوات
القتل الصريحة"، خصوصاً "إثر معرض ربيع العبدلية الذي نظّم في قاعة
العبدليّة في المرسى يوم 11 جوان(حزيران – يونيو) 2012 والذي اعتبره السلفيون
مسيئاً للإسلام فصدرت العديد من دعوات التكفير"، ثمّ (ص 12): "استفاقت
البلاد صبيحة 6 فيفري(فبراير) 2013 على أول عملية اغتيال سياسي بعد ثورة 14 جانفي
2011 بالرصاص الحيّ. أربع رصاصات اخترقت جسد شكري بلعيد عندما كان يهمّ بالانطلاق
إلى عمله صحبة سائقه".
ومما يؤكّد لـلكاتب يحمد دعم التيار الموسوم بالاعتدال
لـ"تيار العنف" ما أورده (ص 143 ) من استضافة "أنصار الشريعة"
"في مؤتمرها الأخير عناصر من حزب التحرير على غرار الناطق باسم الحزب رضا
بالحاج، ومختار الجبالي رئيس جبهة الجمعيات الإسلامية، وشيوخ آخرين قريبين من
التيار السلفي". كذلك يُشير الكاتب إلى تسامح رئيس الوزراء
"النهضوي" حمادي الجبالي مع حركة "أنصار الشريعة"، إذ يقول:
"إن الأعداد الكبيرة التي حضرت المؤتمر من كافة أنحاء الجمهورية تحت سمع وبصر
حكومة حمادي الجبالي أعطت شحنة كبيرة لأنصار التيار وحسمت خيار الدخول في مرحلة ما
يعتبره أحد منظّري التيار بـ"شوكة النكاية""، لا بل يدعم الكاتب تحليله
(ص 146) بواقعة : "حضور أحد قادتها(النهضة) ونقصد الصادق شورو ضيفاً شرفياً
للجهاديين في مؤتمرهم الأول".
لكن "راية العُقاب"، الصادر عن دار الديوان
للنشر في تونس، يُظهّر بطريقة مقصودة أو غير مقصودة مسارين سلكهما تيار
"العنف التونسي"، فيتحدّث عن حقبة "الجهاد الأفغاني"
و"الجماعة التونسية المقاتلة" بقيادة سيف الله بن حسين في "جلال
آباد"، حيث تأسست "دار ضيافة التوانسة"، ثم نفّذ تونسيّان، هما عبد
الستار دحمان ورشيد بوراوي (ص 65) اغتيال أحد أهمّ قيادات الجهاد الأفغاني أحمد شاه
مسعود، قبل أن يقود مزار نوّار (ص 38) التفجير الانتحاري في جزيرة جربة عام 2002،
بالتنسيق مع خالد شيخ محمد (ص 38) أحد كبار المتهمين بالإعداد لهجمات 11 سبتمبر في
الولايات المتحدة الأميركية، فيما كانت مشاركة الجهاديين في المواجهات العراقية
أثناء الاحتلال الأميركي ذات مردود عسكري وأمني وحركي لصالح
"الجهاديين"، إذ تصدّر مشهد المواجهة الداخلية في تونس تلك المجموعات
العائدة من العراق، على غرار المجموعات الأفغانية. أما المسار الثاني فهو الخيار
السلمي لدى "التيار الإسلامي التونسي"، بعد سقوط نظام بن علي. وتجّلت
سلميّته في "خيام الدعوة" والعمل المسجدي والمهرجانات مع ملاحظة أن
السيطرة على المساجد والمصلّيات كانت تتمّ في أحيان كثيرة بالعنف، حيث تمكن
"أنصار الشريعة" من السيطرة على 400 مصلّى ومسجد في تونس العاصمة.
وتأسيساً على ما تقدّم، لم يُبرز الكتاب اتصالاً ظاهراً
بين الحقبة الأفغانية وحقبة "الربيع العربي"، بالرغم من ذكره دار ضيافة
التوانسة وتفجير جربة في 2002، في وقتٍ لم يفصل بين تلك الحقبة المرعيّة أميركياً
والحقبة التي نعيش تفاعلاتها وإرهاصاتها، وإن عاد لاحقاً ليشير إلى تكاملٍ ما بين
المسارين الظاهرين لتيار الإسلام السياسي، بالرغم من التفاوت الزمني، فيقول
(ص141): "كشفت الإيقافات والتحقيقات التي جرت بعيد اغتيال شكري بلعيد ومن
بعده محمد البراهمي أن التيار الذي كان يرفع شعار الدعوة والخيام السلمية في
الساحات العامة والأسواق كان يقوم بعمل سرّي مواز منذ أواسط سنة 2011 أشهراً قليلة
بعد عقد مؤتمره الأول في منطقة سكرة شمال العاصمة"، مشيراً إلى أنّ
"التيار الشبابي الأغلبي بدا أكثر حماساً وكان يدفع بقوة في اتجاه عسكرة
التنظيم"، وإن سجّل الكاتب (ص 38 _ 39) أن: "الكثير من المتابعين لتاريخ
الحركة الإسلامية في تونس يذهبون إلى أن بدايات التيار الجهادي في تونس كانت مع
تكوّن ما سمّي بالجبهة الإسلامية التونسية في أواخر الثمانينات والتي تبنّت وقتها
نهج العنف المسلح من أجل تغيير نظام الحكم في تونس غير أن محدودية انتشار الجبهة
في الداخل التونسي وعدم انخراط غالبية الجمهور الإسلاميين ممثلين في أنصار حركة
النهضة في خيار العنف إما قناعة أو عجزاً جعل تجربة العنف تتجه إلى الأفول
والذوبان تدريجياً"، ما يمكن أن يؤوّل بأن التربة الوطنية التونسية غير مؤهلة
لممارسة العنف فيما انفتاحها على الساحات الأخرى كان السبب الرئيس في تبنّي منهج
العنف، فكرياً من الجزيرة العربية، وحركياً من أفغانستان والجزائر والعراق.
لكن الثابت لدى "يحمد" أنه يتّهم بطريقة
"دبلوماسية" حركة النهضة الإسلامية وتيار الاعتدال الإسلامي برعاية
التطرف، سواء بفعل القناعة أو بهدف استعمال القوة المتطرفة (عصا غليظة) في مواجهة
التيارات السياسية المناوئة للمرجعية الإسلامية في بلد ذي مستوى علميّ مرتفع
وعلمانيّة حادة ذات مرجعية فرنسيّة، ويقول (ص 145): "ليس من المبالغة القول
إن حركة النهضة استطاعت توظيف التيار الجهادي واستعماله كعصا غليظة من أجل تخويف
خصومها طوال عامين من إدارتها للحكم"، فضلاً عن توفيرها العفو التشريعي لبعض
المجموعات، حيث يرد (ص 48): "ان جلّ العناصر مجموعة سليمان والتي تمتعت
بالعفو التشريعي العام بعد الثورة عادت وانخرطت في تنظيم أنصار الشريعة بعد
الثورة.... وضالعة في عمليات الاغتيال وتهريب الأسلحة والكمائن التي نُصبت لقوات
الجيش والحرس في جبل الشعانبي".
ويلفت النظر في الكتاب إيراده سَبقَ ارتباط بعض
المتشدّدين الإسلاميين بالقوى النظامية التونسية كسعد ساسي من دون التوقف عند تلك
الخلفية ومؤشراتها، حيث يقول (ص 46): "أقنع سعد ساسي وهو عنصر سابق في الحرس
الوطني التونسي قيادات التنظيم الجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر في
أواسط 2006 بضرورة فتح جبهة جهاد في تونس. تمّ الأمر على هذا النحو وزكّى أبو مصعب
عبد الودود تكوين كتيبة تونسية تحت مسمى "جند أسد بن الفرات""،
وتولّى سعد إمارتها.
في المنهج، يجد الكاتب أنه حاول انتهاج الحيادية في
روايته للأحداث وفي تناوله للشخصيات، برغم اعتباره أن الحيادية أمرٌ صعب التحقيق،
إذ "مما لا شكّ فيه أنّ اعتماد الحيادية التامة في البحث والتحقيقات أمر في
غير محله عندما يتعلّق الأمر بإدانة أفكار ودعوات تصدر عن أشخاص تحث على صراحة القتل
والتفجيرات حتى وإن ألصقت بها يافطة الجهاد في سبيل الله".
يحمد الذي نال عدداً من الجوائز تكريماً لعمله الصحافي
يتتبع في كتابه على مدى سنوات مساراً طويلاً "بين تونس والقاهرة مروراً
بمدن أوروبية، وصولاً إلى الرقة ومقديشو وغوانتنامو"، وهدفه الوصول إلى الإجابة
الحاسمة عن سؤال هو لغز بالنسبة إليه: "ما الذي يدفع شباباً تونسيين إلى
الانخراط في فعل القتل والانتحار أو الإثخان والاستشهاد بحسب معتقداتهم؟".
ويعتمد الكاتب المتخصّص في حركات الإسلام السياسي على
التحقيقات والعمل الميداني منذ أعوام التسعينيات من القرن المنصرم، ويُحاول طرح
أسئلة حول البيئة والظروف التي أعطت العنف مشروعية ما، محاولاً الإشارة ـ ما أمكنه
ذلك ـ إلى العوامل الخارجية أو الداخلية التي بعثت شرارة العنف في المجتمع التونسي
وجعلته أداة من أدوات العمل السياسي، من دون أن يصل الأمر حدّ تقديم إجابات وافية
عن الأسئلة المطروحة، لأن الكتاب عمل ذو منحى صحافيّ لا بحثيّ.
وقد كان الكاتب بين همّين يتنازعانه، أوّلهما الهمّ
الصحافي ـ الميداني، وثانيهما رغبته في تقديم إجابات عن أسئلة يفترض أنه طرحها.
لكن التأرجح بين الهمّين لم يمنع الكاتب من إيراد معلومات مهمة حول مرجعية السلفية
الجهادية تونسياً والمتمثلة بالخطيب الإدريسي المتتلمذ على أيدي مشايخ الجزيرة،
بالإضافة إلى مرجعياته العربية، فيرد (ص 59) في حوار للكاتب مع سليم القنطري
الملقّب بأبي أيوب وهو أحد قادة السلفية الجهادية بأنه "أقرّ... بمرجعية
الشيخ الخطيب الادريسي واعتبر أبو أيوب أن التيار يعتمد كتابات أخرى من قبيل مقدمة
ابن أبي زيد القيرواني أو رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب والمتمثلة في كتب الأصول
والتوحيد وكشف الشبهات وكذا كتب أبي قتادة الفلسطيني وكتاب تبصير العقلاء لأبي
محمد المقدسي أو كتاب الرسائل المنهجية للشيخ أسامة بن لادن".
ويثمر الأسلوب الصحافي لدى "يحمد" في إعطاء
النص سلاسة قصصية لكن من دون العمل على تحقيق نسج خيالي، إذ لا ينسى الكاتب القول
إن: "تفاصيل حكايات الجهاد وسير الأشخاص المذكورين في هذا المؤلف لا تهدف إلى
الإثارة بل تحاول معايشة الظاهرة بدون أحكام مسبقة رغبة في الفهم والتقصّي. وإن
كان التناول ينحو في أحيان كثيرة إلى اعتماد أسلوب صحفي وقصصي مشوق، فإنه في باطنه
دعوة ضمنية إلى التفكير وطرح الأسئلة المسكوت عنها".
ويغتني الكتاب ـ من جهة ـ بتوثيقه أخبار بعض الشخصيات
كمليكة العرود المعروفة بأرملة القاعدة السوداء وذات الدور الكبير في تجنيد كوادر
مقاتلة، كان منهم زوجها الذي شارك في اغتيال القائد الطاجيكي شاه مسعود، والخطيب
الإدريسي وسيف الله بن حسين ورضا السنتاوي وأبو بكر الحكيم وأحمد الرويسي وعادل
السعدي... ثم يورد نصوصاً تأسيسية ومقابلات مع شخصيات "سلفية".
وفي إطار حديثه عن دور نظام بن علي في كبح "التيار
الإسلامي" يؤكّد فاعلية الرقابة الأمنية والقضائية التونسية في ضبط مكوّنات
الإسلام السياسي أثناء القرن المنصرم، قبل أن "يُسدي" النظام التونسي
خدمة للمتشدّدين بتحقيقه التواصل بين مجموعات الخارج والداخل في نقطة تلاقٍ قسريّ
هي السجون، حيث تبادلوا الأفكار وشيئاً من الخبرات والتأطير، في وقت يسترعي
الانتباه عدم المتابعة الأمنية الكفيلة بشلّ حركة الإسلاميين الذين ابتدأوا أو
أصبحوا في عداد "الجهادية السلفية".
ويتطرق "راية العُقاب" إلى أجيال
"الجهاديين" التوانسة (ص131) فيقسّمهم إلى ثلاثة أجيال هي:
·
الجيل الأول وُجد زمنياً في الفترة المتراوحة بين 1992
و2001، ويُعرف بجهاد المنافي.
·
الجيل الثاني وُجد زمنياً في الفترة المتراوحة بين 2002
و2011، ويمثّله 20 ألفاً في حركة النهضة.
·
الجيل الثالث وُجد زمنياً في الفترة المتراوحة بين 2011
وإلى وقتنا هذا.
ويجزم الكاتب (ص 110) بأن "تونس لم تشهد تصديراً
للجهاديين في تاريخها بقدر ما صدّرت بين سنتي 2012 و2013 من المقاتلين إلى
سوريا"، إذ "بنهاية 2013 وصل عدد التونسيين الذين يقاتلون بين الحدود
السورية والعراقية إلى حوالى أربعة آلاف شاب تونسي" (ص 103)، ما يجعل
التونسيين (ص 99):"في المرتبة الثالثة من المتطوعين مقارنة بعدد سكان كل دولة
بعد كل من ليبيا والسعودية"، مع أفضليّة يولونها ـ بنسبة 41 في المئة ـ لأن
"يكونوا استشهاديين (انتحاريين) فيما فضّل 58.3 أن ينضموا إلى الجماعات
كمقاتلين".
وفي الحديث عن الإطار الذي يفضّل التوانسة الانضمام
إليه، كان "الجهاديون من السلفيين" (ص 111) يقصدون "جبهة
النصرة" في بداية الصراع السوري، قبل أن تتحول وجهتهم ناحية "الدولة
الإسلامية في العراق والشام (داعش) التي تحوّلت منذ أواسط سنة 2013 إلى قبلة
الجهاديين التوانسة".
يتوقف "يحمد" عند التجربة العراقية
لـ"الجهاديين" التوانسة فيجدها عظيمة الأهمية إذ إن ( ص 95) "قائمة
المنضوين إلى المقاومة العراقية وتحديداً إلى الجماعات الجهادية طويلة إلى الحدّ
الذي دفع عائلات تونسية عديدة عقب الثورة في تونس إلى تأسيس جمعية من أجل المطالبة
بإطلاق سراح الأسرى والبحث عن المفقودين التونسيين في العراق".
أخيراً، تجدر الملاحظة أن الكاتب سجّل انعزال التيار
الإسلاموي في تونس عن المراجعات الشرعية التي أجرتها التيارات الأخرى كما في
الحالة المصرية، فيكتب "يحمد" ( ص 155) أنه: "من المفارقات أن هذه
المراجعات التي يجهلها معظم المنضوين تحت لواء التيار في تونس يعتبرها سيف الله بن
حسين نقطة قوة. بالنسبة لقائد "أنصار الشريعة" فإن ما يميز التيار
السلفي الجهادي أنه لم يقم بمراجعات من أجل نبذ العنف أو التخلي عنه"، ويضيف
(ص 157): "من المهم القول في هذا الفصل ان قضية المراجعات تمثل العنصر
المسكوت عنه او الفريضة الغائبة لدى اتباع التيار السلفي الجهادي في تونس".
لا شكّ في أن التجربة
التونسية في شقّها الإسلامي المتعدّدة مشاربه وألوانه تستحق أكثر من عمل ميداني
وصحافي، بل تحتاج عملاً بحثياً جاداً لا يغفل عن التدقيق في المكوّنات الفكرية
والأطر الشرعية وميادين التفاعل الحركي والعناصر البشرية التي خاضت ما رأته
"جهاداً عالمياً"، لكنها لم تُدرك شيئاً من ملامج مشروعها على المستوى
الوطني في تونس إلا العنف والدمار.