يوتوبيا وديستوبيا عالم "ما بعد الفن"
من فنّ يقبل بمصير الأرض المحتوم وأزمات مجتمعاتنا، وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي وما يفرضه من تحدّيات. هل بقي للفن معنى ودور؟
في زمن يتأرجح بين الأمل واليأس، بين الدمار والاختلاق، يولد مفهوم "ما بعد الفن" كاستجابة لعالم يتهاوى تحت وطأة الحروب، والأزمات البيئية، والتكنولوجيا التي تفرض نفسها كبديل عن الإنسان.
كأنّ الأمر يتعلّق بما يخبرنا عنه الألماني تيودور أدورنو قائلاً: "تُظهر البشرية من دون وعي رغبتها في اتباع وهم الأشياء غير المعروفة أبداً، لكن هذا الوهم يشبه الموت".
الفن في هذا السياق لم يعد مجرّد تعبير عن الجمال أو البحث عن الحقيقة، بل أصبح تجربة أنطولوجية تتحدّى أسئلة الوجود والإيتيقا نفسيهما، حيث طرق العرض ذاتها طالها الخرق، ليتمّ استبدال "المقدّس"، الذي طبع الفن، منذ ميلاده بـ"الدنيوي"، الذي يشكّل أحد أعمدة عصر ما بعد الحداثة الذي نحيا في ثنايا تفاصيله المفاهيمية التي تحرّكها آليات الرأسمالية والصناعية، والتي خرجت من رحمها "إعادة الإنتاج" الرقمي والتقني، المبشّر بأفول "هالة" الأعمال الفنية، ليختفي الحدّ الفاصل بين النسخة والأصل.
ذلك أنّ كلّ نسخة بالإمكان معاودة تكرارها بوصفها الأصل. إنه عالم "العود الأبدي"، المنذور للنهاية المتجدّدة باستمرار. نحن لسنا في عالم يعيش ما بعد الحداثة فحسب، بل في عالم "ما بعد" كلّ شيء، حيث يتساءل الفن عن دوره وهو يرقب "غيابه"، وزوال العالم، المحتمل أو تحوّله إلى شيء آخر غير مألوف.
في هذا المشهد، تنبثق رؤية ديستوبية ترى الفنّ كصرخة في العدم، كآخر مقاومة للجمال قبل أن يلتهمه الخراب. يعكس فن الزوال هذه النظرة، حيث يصبح العمل الفني حدثاً مؤقتاً، كحرق منحوتة جليدية أو تدمير لوحة بعد إنجازها، في تعبير عن هشاشة كل شيء، حتى الإبداع نفسه.
"فن الأرض": الفن يقبل مصيره المحتوم
-
رصيف الحلزون، 1970، روبرت سميثسون
ويقدّم "فن الأرض" رؤية مشابهة، حيث تتفاعل الاقتراحات مع الطبيعة التي تذيبها تدريجياً، وكأنّ الفن يقبل مصيره المحتوم، تماماً كما يقبل الإنسان موته. وتعدّ حركة "فن الأرض" من أبرز التجارب التي تعكس العلاقة بين الفن والبيئة، وتستكشف مفهومي اليوتوبيا والديستوبيا في سياق طبيعي.
ويعتبر الفنان الأميركي، روبرت سميثسون (1938 - 1973)، من روّاد هذه الحركة، وأشهر أعماله هو "دائرة الأرض" الذي يقع في بحيرة سولت ليك في ولاية يوتا. يقترح سميثسون في هذا العمل، تداخل الأرض والماء لتشكّل دائرة من الصخور، مما يعبّر عن العلاقة الهشة بين الإنسان والطبيعة. العمل يُظهر تساؤلات واحتجاجات إستتيقية حول بقاء الفن في بيئة طبيعية مهدّدة بالزوال.
لقد أصبح الفن في هذا الإطار رهينة للأزمات التي تلامس مفهوم الزوال والأفول وحتى الموت. تلك المفاهيم التي ترتبط بالفناء والاختفاء من جهة، وبالبعث والتجديد من جهة أخرى. إذ لم تعد الأعمال الفنية تُنتج لتكون خالدة أو تحمل في طياتها رمزية عميقة تتحدّى الزمن، المكثّف في عصرنا بالأزمات التي تهدّدنا: أزمة البيئة، أزمة الأخلاق، أزمة المعنى، أزمة التلقّي، الأزمة السياسية، الحروب، الاقتتال، التدمير الممنهج... إلخ. أو مثلما يخبرنا كلّ من جيل ليبوفيتسكي وجان سيروي في كتابهما المشترك "تجميل العالم": "إنّ الرأسمالية قادرة على زيادة الثروة، وإنتاج وتوزيع جميع أنواع السلع بوفرة، ولكنها لا تحقّق ذلك إلا من خلال توليد أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة، وتفاقم التفاوت، وإثارة كوارث بيئية كبرى، وتقليص الحماية الاجتماعية، وتدمير القدرات الفكرية والأخلاقية والعاطفية والجمالية للأفراد".
الفن في زمن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي: جسد بلا روح؟
-
عمل للفنان البرازيلي أندريه ليبيكي
لكن إذا كان الدمار قدراً، فهل يمكن للفن أن يكون استثناءً؟ هناك من يرى أن الفن ليس مجرّد انعكاس للسقوط، بل مقاومة له. هنا تتجلى اليوتوبيا باعتبارها إمكانية النجاة، حيث يسعى الفن إلى تجميل الواقع أو خلق بدائل وهمية تبعث الأمل. العمارة التي تبني مدناً خيالية، والسينما التي تحلم بمستقبل مشرق، والتصوير الذي يعيد اختراع الطبيعة، كلها محاولات لإعادة تشكيل العالم بدل الاستسلام لانهياره.
هكذا يستخدم البرازيلي، أندريه ليبيكي (1965)، في أعماله مفردات من الطبيعة والجسد ليعبّر عن مفهوم اليوتوبيا في محاولاته لخلق بيئات تجريبية تتفاعل مع الإنسان بشكل حيّ، لكنه في الوقت نفسه يثير تساؤلات حول النهاية المحتملة لهذه البيئة، وكيف يمكن أن يتغيّر الفن في ظلّ التغيّرات البيئية.
ومع ذلك، فإنّ الفجوة بين اليوتوبيا والديستوبيا ليست واضحة تماماً، فبقدر ما يتطرّق الفنان لدمار العالم فهو يترجّى إعادة تشييده. لنعد النظر في لوحة "برج بابل" (1526) لـبيتر بروخل الأكبر التي تبرز لنا معماراً منظّماً (برجاً) ينبع من آخر ينهار.
هناك أعمال تجمع بين الأمل واليأس، بين البناء والهدم، بين الإبداع والفناء. إذ فنون الواقع الافتراضي تخلق عوالم بديلة تُنسي الإنسان جحيمه الأرضي، لكنها في الوقت نفسه قد تكون شكلاً من أشكال الهروب من الواقع، نوعاً جديداً من "المخدرات الرقمية" التي تجعله أكثر استسلاماً للانهيار المقبل. في المقابل، هناك فن لا يحاول أن يكون بديلاً عن العالم ولا تعبيراً عن نهايته، بل يسعى إلى المصالحة معه.
هل يمكن للفن أن يكون حيادياً؟
-
عمل للفنان الأسترالي ستيلارك
في زمن يفرض على كلّ شيء موقفاً، حتى الجمال نفسه يصبح سياسياً، هل يمكن للفن أن يكون حيادياً؟ عندما يُصوّر فنان مشهداً لطبيعة هادئة في عالم يعيش الحروب، فهو يقدّم مقاومة صامتة ضد الوحشية. وعندما يضع آخرون نفايات المدن في المتاحف، فهم يحاولون إعادة تعريف القبح ليصبح جزءاً من الجمال. هذه التناقضات تبرز في الفن المعاصر، حيث نجد أعمالاً تحتفي بالنقاء وأخرى تحتفي بالفوضى، حيث هناك من يبني جسوراً بين الإنسان والعالم، وهناك من يهدم تلك الجسور ليكشف زيفها.
ما بعد الفن ليس مجرّد مرحلة جديدة. إذ تتناول أعمال الأميركية جيني هولزر (1950) على سبيل المثال، موضوعات اليوتوبيا والديستوبيا في سياقات سياسية معاصرة. وتميل أعمال هولزر إلى استخدام الشاشات الرقمية لعرض رسائل تحاكي الأدوات الإعلانية والسلطة، مما يعكس توترات مجتمعية عميقة تتراوح بين الأمل في التغيير (اليوتوبيا) والتحذير من انهيار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية (الديستوبيا). في هذه الأعمال، يبرز كيف يمكن للفن أن يعكس مأزق الإنسانية في ظل تطوّر القوى السياسية والتكنولوجية.
وماذا لو كان "ما بعد الفن" مجرّد النهاية، ليس فقط للفن بل لفكرة الإبداع برمّتها؟ في عصر الذكاء الاصطناعي، حيث اللوحات تُنتج بضغطة زر، والموسيقى تُصنع من دون ملحن، يصبح السؤال أكثر إلحاحاً: هل يبقى للفن معنى عندما لا يكون للإنسان دور فيه؟
لقد تناولت العديد من الأعمال الرقمية هذه الإشكاليات، وخاصة في أعمال الفن المدمج للجسد البشري بالتقني والاصطناعي الذي يدمج بين الخيال العلمي والواقع، حيث يتمّ تصوّر المستقبل بطريقة تتأرجح بين الأمل واليأس. فقد تخلى الإنسان المعاصر نهائياً عن الروح، مفهوماً وشيئاً ممكن الوجود؛ فلا موجود إلا الجسد، ولا وجود إلا للجسد. لكن في المقابل، جعل هذا الجسد يسير مسرعاً صوب "الكمال". تكتسحنا التكنولوجيا ونكتسحها، تلبسنا ونلبسها، كفاوست الذي اتحد مع الشيطان ليعيش حراً وأكثر. وهو ما يتجلى في أعمال الفنان الأسترالي ستيلارك (1946) الذي عمل على دمج جسده بالروبوتات في أدائية تجمع بين البشري والتقني المتفوّق.