هزيمة الروح أخطر.. كيف دعمت أم كلثوم النضال الفلسطيني؟
شكّلت هزيمة العام 1967 لحظة مفصلية في حياة أم كلثوم. فكيف تحوّلت من مطربة إلى داعمة مباشرة للجيش المصري ثمّ حركات النضال الفلسطيني؟
لم تكن أم كلثوم (1898 - 1975) مطربة عادية، بل كانت رمزاً وأيقونة. لكن السنوات التي تلت هزيمة العام 1967، كانت حداً فاصلاً بين كونها مجرد فنانة، وبين أخرى أخذت على عاتقها تسخير رمزيتها ومكانتها الفنية وصورتها خدمة للمعركة ضد "إسرائيل"، إذ لم تكتف بدعم الجيش المصري وحسب، بل دعمت كذلك المقاومة الفلسطينية إثر انطلاقتها أواخر ستينيات القرن الماضي.
شكل اليوم الذي ألقى فيه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر خطاب التنحي في 9 حزيران/يونيو عام 1967، يوماً تاريخياً في حياة الملايين من المصريين والعرب. حينها، شاهد جميع الذين آمنوا، مثل عبد الناصر، الحلم بوطن عربي يملك إرادة مستقلة، لحظة انكسار هذا الحلم في عيني الرئيس المصري الذي قد لا يبرئه البعض من المسؤولية عن هزيمة حرب الأيام الستة.
من بين هؤلاء الحالمين بوطن عربي موحد وقوي كانت "كوكب الشرق"، أم كلثوم، التي انخرطت بصفتها فنانة ومواطنة عربية في الترويج لهذا الحلم والعمل على تحقيقه. إذ انخرطت، لمدة شهرين في الإذاعة المصرية، مع مجموعة من المطربين والملحنين والمؤلفين في الشهرين اللذين سبقا الحرب لتجهيز أغنيات حماسية تناصر مصر في معركتها. حتى إن الملحن محمود الشريف، لحن في يوم واحد 3 أغنيات، وكان لأم كلثوم نصيب من الأغنيات الوطنية التي لحنت وألفت في تلك الأيام، كأغنية "الله معك"، و"راجعين بقوة السلاح".
ولم يتوقف دور أم كلثوم في الإذاعة المصرية على تقديم الأغاني الحماسية، إذ راحت توجه نداءات بصوتها إلى الجنود على الجبهة لرفع معنوياتهم، معربة عن أمنيتها بالغناء في "تل أبيب" بعد تحرير فلسطين.
لكن، في اللحظة التي أنهى فيها عبد الناصر خطابه، انسحبت أم كلثوم من وسط عائلتها وهي تبكي متجهة إلى غرفة نومها التي سبق وأعدتها للتدرب على أغانيها. عاشت أم كلثوم عزلة شبه صامتة، حيث كان باب غرفتها مغلقاً والأنوار مطفأة، وكانت تربط رأسها بقطعة قماش لعلها تخفف الصداع الذي عانت منه حينها. لأيام عديدة، رفضت أم كلثوم الخروج من غرفتها أو التحدث إلى أحد، ووصفت حالتها بأنها ألم يحرق القلب ويمزقه إلى قطع صغيرة.
هزيمة الروح أخطر.. أم كلثوم ولحظة التحول
وسط الألم واليأس وضباب الهزيمة وقسوة الحلم الذي تحول إلى كابوس فكرت أم كلثوم في مخرج لأزمة مصر ومخرج لأزمتها الشخصية أيضاً، بعدما أدركت أن حلمها بوطن قوي منتصر انهار في لحظة. بعد أسبوع من خطاب عبد الناصر، فكت أم كلثوم عزلتها، إذ خلصت إلى استنتاج حول الدور الذي يمكن أن تلعبه في ترميم النفوس المهزومة. وذلك لأن هزيمة الروح المصرية، كما اعتقدت، أخطر بكثير من الهزيمة العسكرية، وأن المعركة على المدى البعيد وتحقيق انتصار يمحو آثار الهزيمة يتطلب استعادة المصريين لثقتهم بأنفسهم وتجديد إيمانهم بحقهم.
منذ تلك اللحظة، شعرت أم كلثوم أن صوتها يجب أن يخصص لهدف عظيم، وهو تحويل الهزيمة إلى انتصار. هكذا تحولت إلى شخص لا يهدأ، وضربت عرض الحائط القواعد الصارمة التي وضعتها لحياتها الفنية. بعد أيام قليلة من صباح يوم الهزيمة، أطلقت أم كلثوم حملة غير مسبوقة لدعم المجهود الحربي، في وقت كانت مصر على وشك خسارة 459 مليون دولار من إيرادات السياحة والشحن في قناة السويس، وحقول النفط التي استولت عليها "إسرائيل" في سيناء وأدى إلى نقص حاد في العملة الصعبة، في وقت كانت البلاد بحاجة ماسة إلى الأموال لإعادة بناء الجيش.
خلال 18 شهراً، طافت أم كلثوم بحفلاتها عدداً من المحافظات المصرية ودول عربية، كالمغرب وتونس وليبيا والكويت ولبنان والسودان، ثم غنت في قلب أوروبا، على مسرح الأوليمبيا بباريس، لتحول إيرادات حفلاتها بالكامل إلى المجهود الحربي. لكن هدفها الأهم هو إعادة الروح إلى الكرامة العربية التي كسرتها الهزيمة، أو بحسب تعبير المستشرق دينيس جونسون ديفيز، الذي علق على تفاعل السودانيين في حفل أم كلثوم بالخرطوم: "شعب يغني للحب وهو يعيش في جو المعركة، لا يمكن أبداً أن يكون شعباً ضعيفاً، بل شعباً لديه القدرة على أن يواجه أعداءه بقوة".
كانت هزيمة عام 1967 إذاً هي اللحظة التي حولت أم كلثوم من مطربة خارقة إلى أيقونة تحشد كل فنها لخدمة بلادها وقضية الوطن العربي، وشهدت الهزيمة ميلاداً جديداً للمقاومة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات والتي أنشئت عام 1965، إذ أولاها جمال عبد الناصر أهمية أكبر بعد حرب الأيام الستة.
"أصبح عندي الآن بندقية"
بخلاف هدفها في المساهمة في إعادة بناء الجيش المصري، كان دور أم كلثوم في دعم القضية الفلسطينية وحركة "فتح" الوليدة واضحاً. إذ أدت حفلتين موسيقيتين واحدة منها في ليبيا خصصت عائداتهما لدعم "فتح"، فيما خصصت عائدات نصف حفلها في الكويت عام 1968 لدعم المقاومة الفلسطينية بشكل عام.
بعد انتخاب ياسر عرفات لقيادة "منظمة التحرير الفلسطينية"، كشفت أم كلثوم عن نص أغنية جديدة للفدائيين وهي "أصبح عندي الآن بندقية" من كلمات نزار قباني وألحان محمد عبد الوهاب، وأشادت في مقابلاتها وتصريحاتها بالنضال الفلسطيني، ولم تتوان عن مدح المقاومة، وأن بداية العمل الحقيقي لتحرير فلسطين هو ظهور الفدائي الذي يحمل البندقية والقنبلة ويعبر الأسلاك الشائكة والحدود التي أقامتها "إسرائيل" ولا يكتفي بالأمل في تحرير فلسطين.
كما وصفت ياسر عرفات بأنه "قدوة للآخرين"، مشيرة إلى أنه "كان بإمكانه أن يصبح مليونيراً لكنه اختار أن يترك الثروة وراءه ليكرس حياته لتحرير وطنه".
عززت أم كلثوم قناعاتها السياسية من خلال تصريحاتها المتكررة عن الفدائيين. وعندما سُئلت عن هدف مهم لم تحققه بعد، لم تجب بهدف فني، بل هدف سياسي: "تحرير الأراضي المحتلة وتطهير فلسطين من الصهيونية، وإعادة الفلسطينيين إلى وطنهم".
التقت أم كلثوم بياسر عرفات وروجت له، معبرة عن رغبتها في أن تكون هناك انتفاضة مسلحة لتحرير فلسطين. وربطت بين حركة "فتح" وبين حركات التحرر في جميع أنحاء العالم، وليس فقط في فلسطين، مشددة على كرامة الموت من أجل قضية التحرير، بل وصرحت عن نيتها الغناء لدعم فيتنام في نضالها ضد الغزو الأميركي.
وكذلك روجت للرموز البصرية وشعارات حركة المقاومة الفلسطينية في عروضها في ليبيا. إذ علقت شارة حركة "فتح" على الجدار الخلفي للمسرح، ورفعت خلفها لافتات تحمل الشعارات النضالية للحركة.