نظرية المؤامرة الصهيونية بين الوهم والحقيقة
إن قوة اللوبي الصهيوني ليست نابعة من وجوده، إنما من تلاقي مصالحه مع المصلحة الأميركية، والمثال على ذلك نجاح اللوبي الإنكليزي في تنفيذ وعد بلفور رغم ضآلة نفوذه لقاء فشل اللوبي الصهيوني في ألمانيا، على الرغم من قوته في برلين.
يطرح الكاتب المصري عبد الوهاب المسيري (1938-2008) في كتابه "اليد الخفية" إشكالية ما يسمّى "العبقرية اليهودية في السيطرة على العالم". ويفنّد عبر دراسة بحثية موسعة كلَّ المسلمات التي تقول بأن اليهود يسيطرون على مراكز صنع القرار في أميركا، وعلى دوائر المال ووسائل الإعلام في العالم. فهل حقاً لليهود يد خفية تصنع المعجزات؟ وهل هناك مخطط عالمي ومؤامرة كبرى لإفساد الأخلاق، وما يحدث اليوم ما هو إلا تطبيق حرفي لما نصت عليه "بروتوكولات حكماء صهيون"؟
يستخدم المسيري منهجاً فكرياً مناقضاً لمنهج المؤامرة نفسها؛ إذ يحلل عبر فكرٍ تركيبي النموذجَ اليهودي ونظريةَ المؤامرة ويعيد تركيبها ليقدم نتائج مختلفة عن العقلية العربية. إذ يركز نحو عمق التفكير التآمري والاتجاهات الفكرية التي تنسب إلى اليهود قوى عجيبة. ويتجه نحو مناقشة المزاعم التي تثار حول دورهم في الجمعيات السرية والحركات الهدامة، والتي حسب ما يُزعم، تهدف إلى الهيمنة على العالم. ويرى أن هيمنة هذه العقلية على الفكر العربي من أخطر الأمور، فهي تزيد من هيبة العدو الإسرائيلي، وتجعله يكسب الحروب من غير أن يخوضها. إذ يجد أن الانهزام الداخلي سببٌ للاعتقاد بذلك. لذا، يقدّم فهماً مغايراً للمؤامرة اليهودية بادئاً بما سمّاه "النموذج الاختزالي" في الفكر، والذي سيطر على العرب في دراستهم لليهود. ويُرجع هذه الاختزالية الفكرية إلى الكسل العلمي، والنظرة الجزئية، والتأثر بعملاق الغرب في التعامل مع الجماعات اليهودية ككتلة واحدة بعيداً من أي إطارٍ حضاري أو اجتماعي أو سياسي. وهو ما أدى إلى فرز مسلماتٍ ألقي بها عند كل مناسبة. الأمر الذي أضفى على العدو الإسرائيلي قوة وهمية لا يستحقها، وهالات من المجد هو ليس عليها، وبالطبع هي حال تُفرح الصهاينة وتدفعهم إلى تغذية هذا النوع من التفكير والترويج له في مسارات الفكر العربي حتى صار في النهاية مسلماتٍ زادت من إحباط العرب، ومن عجزهم، وشعورهم بالضياع إزاء الوهم بقدرة اليهود على فعل أي شيء.
تزوير بروتوكولات حكماء صهيون:
يكشف البحث عن الخديعة التي روّجت لها وثيقة بروتوكولات حكماء صهيون، وحقيقة انتقالها إلى غرب أوروبا مع المهاجرين الروس، حيث لاقت الاستحسان وكأنها ذات شأن كبير، من غير الإشارة إلى الدراسات التي كشفت عن كونها وثيقة مزورة استفاد كاتبها من كتيب فرنسي نُشر في بروكسل عام 1864 بقلم موريس جولي، وتحوّلت بعد ذلك من حوار يسخر من نابليون الثالث، إلى حكماء صهيون. وما نشرُ البروتوكولات وإشاعتها سوى إيعاز متعمّد من قبل الشرطة الروسية السياسية للنيل من الحركات الثورية والليبرالية لغاية التفاف الشعب حول القيصر وتخويفهم من المؤامرة اليهودية المزعومة.
إقرأ أيضا: هل تنهار "إسرائيل" من الداخل؟
يؤسس الكاتب لتساؤل مفاده: أن صنيعة الوثيقة فكرةُ الحكومة اليهودية العالمية، بينما كان من المعروف تاريخياً أنه لم تكن هناك سلطة مركزية تجمع سائر يهود العالم، وذلك بسبب طبيعة الوجود اليهودي كأقلية دينية لا يربطها رباط قومي، إذ كان لكل أقلية محاكمها وهيئاتها ولم يختلفوا بذلك عن أية أقلية أخرى. في حين يظهر رأي آخر يذهب إلى أن الصهاينة روّجوا للوثيقة لخدمة المشروع الصهيوني الذي يهدف إلى ضرب العزلة على اليهود وتحويلهم إلى مادة خام صالحة للتهجير والتوطين في فلسطين المحتلة.
شيطنة الفكر اليهودي في الأدب:
يسبر الباحث في هذا الفصل أثر الأعمال الأدبية الغربية في تكريس فكرة تجذرت في المجتمع الغربي؛ وهي أن اليهود هم موضع السرّ الكوني الذي لا يتحوّل. ويشير إلى أن الوثوق بكونهم وحدة صلبة لا تُقهر، هي فكرةٌ تروّج لها الدعاية الصهيونية. وتقابل فكرة الشعب المقدس. ذلك أن كلتا الفكرتين: الأولى التي تعدّ اليهود شعباً مقدساً، والثانية شعباً شيطانياً، مكَّن من تجذّرهما في التراث المسيحي الغربي، إلى أن وجدت طريقها في العالم الإسلامي وحلت محل فكرة الفطرة الخيرة. ويُزجل الأمثلة كما في شخصية باراباس في مسرحية مارلو، وشخصية اليهودي في رواية آيفانهو. فضلاً عن الشخصيات المقدسة التي كرستها روايات جورج إليوت ودزرائيلي. ومن هنا، بين النبذ والتقديس، تسلّلت مسلّمة تقول باعتبار اليهودي كياناً عضوياً متماسكاً وغير منتمٍ إلى المجتمع ولا بد من طرده. ومن أبرز الأمثلة شخصية شايلوك في "تاجر البندقية"، التي تبرز دور الفكر العنصري في تكريس الاختزال، أي الفكر الكسول الذي يقنع بإدراك الوقائع عبر صورة واحدة ساذجة تخلص إلى تساؤل وظيفي حول موقف شكسبير من شايلوك: هل كان شيطاناً يجب أن نفرح لسقوطه؟ أم أنه ضحية المجتمع المسيحي المستغل؟ وهنا، يذهب الباحث لحسم هذه القضية أي، كشف حقيقة تكريس شخصية كأداة دمار لم يختر صاحبها واقعه، بينما كان قدره أن يكون عضواً في جماعة أوكلَ إليها المجتمع الاضطلاع بوظيفة الربا.
إقرأ أيضاً: الصهيونية وخيوط العنكبوت
يثير الدكتور المسيري تساؤلاً مفاده: كيف يمكن لأديب صاحب رؤية إنسانية مثل دوستويفسكي أن يتمثل موقفاً مباشراً نحو أقلية دينية بأسلوب اختزالي وضيق الأفق؟ ومنه يعزز الأسباب انطلاقاً من منظور دوستويفسكي إلى الغرب المادي، والذي دمرته قيم الديمقراطية وضمور الحس الأخلاقي، فضلاً عن إيمانه بروسيا كأمة يكمن خلاص العالم بخلاصها؛ أي أنه آمن بالشعب العضوي، وهو الشعب الذي لم تفسده الحضارة الغربية كسائر شعوب أوروبا، ولم يسقط في قيمها. لذا، رفض الآخر الذي وقع خارج دائرته المقدسة. أي أسس للانسياق وراء كره اليهود وتجذرِ تلك المشاعر في الوجدان الروسي ومستوياتهم المعيشية المناقضة لمعيشة الفلاح الروسي. وهو ما أدى عبر العديد من شخصياته إلى تكريس الصورة النمطية لليهود لدى الغرب.
لماذا ترتبط الماسونية باليهود؟
يتطرق المسيري في جزء من كتابه إلى تحليل علاقة اليهود بالماسونية، إذ يجد أن الربط بين اليهود والماسونية صحيح بسبب زيادة نسبة الأعضاء اليهود فيها، بيد أن الخلل بدأ عندما صار الأمر يُقرَأ كمؤامرة خفية لحركة سرية، في حين لم يتعدَّ الحدث مجرد ظاهرة اجتماعية، فضلاً عن وجود يهود معادين للماسونية، وماسونيين معادين لليهود.
يشير الكاتب إلى نشأة الجمعية في العصور الوسطى، إذ ضمّت البنائين والمعماريين، وبعد زوال المهنة تحوّلت إلى جمعية خيرية توفر لأعضائها الأمان المادي. وقد حدث ذلك في عصر العلمنة الكبرى بعد زوال سلطة الكنيسة الدينية، ما حوّل الجمعية إلى دين جديد لقاء تقلص القديم من حياة الغرب، ولا سيما أن الماسونية في نسختها الجديدة، كانت تعلن هدفها في توحيد البشر من خلال العقل، والحفاظ على الإيمان المطلق بالخالق بعيداً من الشرائع والرسل. لذا، يقول الكاتب إن السمات المتناقضة التي اتسمت بها؛ من أحقية الحفاظ على الدين القديم، والديمقراطية إلى جانب الليبرالية المحافظة، سهّل في ظهورها. وهي كمنظمة ربوبية حوت معالم لتفكير إلحادي منظم، بدت كصيغة إسفنجية هدفها إزاحة الأديان من حياة الغرب. وحتى تلك اللحظة لم تكن هناك من علاقة جمعت بين الماسونية واليهود، حتى أن اليهودية الأرثوذكسية حرّمتها. لكنها بعد انتشار العلمنة في صفوف الشباب اليهود، وشعورهم بأزمات دينية لم تستطع اليهودية الحاخامية أو الإصلاحية حلها. فتحت ذراعي الجمعية لهم وجاءت كحلٍّ لهؤلاء لتشعرهم بقبولهم في مجتمع الأغيار، وأسست لأرضية روحية سمحت باللقاء مع مجتمع الأغلبية.
إقرأ ايضاً: عبد الوهاب المسيري ونقد الحداثة والصهيونية
يقول الميسري: إن نقاط الالتقاء تلك جعلت أعداد اليهود أكثر نسبة من غيرهم، إلى جانب العداء المشترك للكنيسة، وكونها منظمة أممية تتجاوز الانتماءات الدينية وهو ما ينفي وجود علاقة تآمرية تهدف إلى السيطرة على العالم، وما انضمام اليهود إلى الماسونية سوى حدث جاء في سياق اجتماعي وفكري وديني يجب علينا عدم إغفاله.
دور اللوبي الصهيوني في أميركا
يفسر الدكتور المسيري ظاهرة اللوبي الصهيوني في أميركا من زاوية تختلف عن الشائعات التي تثار حول دوره، ويتساءل: هل من المعقول أن أقلية قوامها 2 % من سكان أميركا تتحكم في سياسة إمبراطورية عظمى؟ وهل من المستساغ أن القرارات الأميركية ليست نابعة من الداخل الأميركي إنما بضغط من اللوبي الصهيوني؟ يجيب الباحث بالنفي؛ لأن بلداً عملاقاً مثل أميركا لا يمكن أن تكون صناعة القرار فيه بهذه البساطة والسذاجة وكأنها لا تدرك مصالحها إلا بتوجيه اللوبي الصهيوني في الداخل. ويقول إن تلاقي المصالح فقط هو ما يفسر نجاح اللوبي هناك. فهو وليد التراث الفكري الأوروبي في القرنين الفائتين، وهو أداته في المنطقة وأقل كلفة من قاعدة عسكرية، لذا عدّت أميركا وجود "إسرائيل" -صنيعة الغرب- كنزاً استراتيجياً لها، وبالتالي فإن قوة اللوبي ليست نابعة من وجوده، إنما من تلاقي مصالحه مع المصلحة الأميركية، والمثال على ذلك نجاح اللوبي الإنكليزي في تنفيذ وعد بلفور رغم ضآلة نفوذه لقاء فشل اللوبي الصهيوني في ألمانيا، على الرغم من قوته في برلين. هكذا يضع المسيري الأمثلة ليؤكد أن قوة تأثير اللوبي هي رغبة أميركية خالصة، ويتساءل عن سبب رفض أميركا فتح أبوابها أمام النازحين اليهود في المرحلة النازية؟ فهي على الرغم من التباهي بضحايا الإبادة، لم تستقبل النازحين بسبب اقتصادها المتردي، وخوفها من الجواسيس اليهود، وذلك هو المعيار الأساس في السياسة الأميركية؛ أي المصلحة الأميركية التي لا تسمح للوبي بالاستقلال في قرارات تتعدى المصالح الأميركية بالدرجة الأولى.