مهمّة في غاية القسوة

كيف سأبلّغه أن بيته قصف في العدوان على غزّة؟ أنه فقد عائلته كلّها ولم يبق له أب ولا أمّ؟

  • (سعيد الأتب)
    (سعيد الأتب)

(قصة قصيرة من وحي العدوان على غزة)

أثقل وأصعب وأعقد مهمة أُكلف بها في السجن، أن أبلغ بطريقة تخفف من ألم الصدمة، أسيراً بوفاة أحد أعزائه. مهما تفننت في الطريقة ولحفت الخبر وغلفته بكل المحسنات والمصبرات، إلا أن الأسير سيستقر في قلبه نهاية الكلام، ما مفاده أنك عندما تخرج من السجن لن تجد أباك بانتظارك أو أمك أو زوجتك أو ابنك أو حسب المتوفى.

وكان لي أن أحاول التخفيف وامتصاص مشاعر الحزن، وتخفيف وقعها وألم الفراق الأخير من دون وداع. منهم من ينهار عندما يصل إليه الخبر ومنهم من يصرخ بأعلى صوته، ومنهم من يتكلف ابتسامة باهتة بينما قلبه يمور حزناً وقهراً. يلزم نفسه التزاماً بما وقر في قلبه من إيمان بقول "الحمد لله"، ولكن ما أن تنتهي المهمة، تذهب السكرة وتتراقص أمام عينيه الفكرة ليأخذ بتقليبها ومع كل وجه من وجوهها يرى لوناً من ألوان الألم. 

مرات كثيرة كُلفت بهذه المهمة، كان من أشدها قسوة أن أبلغ أباً بوفاة ولده الوحيد بعد أن قطع من حبسته قرابة 20 سنة، 20 سنة مرت وهو يحلم كل يوم بعناق ولده، كبر الولد وكبرت طريقة العناق، من حمله واحتضانه إلى أن صار عليه أن يتقبل عناق رجل لرجل، ثم فجأة جاء الخبر ليتحول الأمر إلى زيارة قبره بعد أن يتحرر من هذه السجون. 

ولكن، هذه المرة المهمة أصعب... 

في إحدى المرات، كان لي أن أبلغ أسيراً بوفاة والده ثم بعد شهرين بوفاة أمه. تجد الأسير أمامك كجبل ينهار فجأة، أقرأ ما يجري في عينيه وما يرتسم على وجهه فيفضح ما يختلج في صدره، على خلاف ما يعبّر به لسانه. منهم من يغلق أذنيه على الخبر، ولا يسمع كل ما يقال بعد ذلك، إلى أن يصحو على نفسه بعد أيام عدة.

هذه المرة المهمة أصعب بكثير. 

في إحدى المرات، طُلب مني أن أبلغ أسيراً بوفاة طفلته التي زارته قبل ساعات، وما زالت مداعباتها أثناء الزيارة تدغدغ قلبه ولم يخرج منها بعد. أغلق عليها باب الحاجز العسكري في رحلة إيابهم فقتلها فوراً. صار الأسرى عندما يرونني على رأس وفد يضعون أيديهم على قلوبهم، قلت له: 

-  إن الله مع الصابرين ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.

- ماذا حدث؟ أبي لا سمح الله؟ قالوا لي في الزيارة إنه مريض؟

-  ليس أبوك.

-  من إذاً؟ أرجوكم عجّلوا بالخبر؟

-  ابنتك التي زارتك تعرضت لحادث وتوفاها الله، شهيدة بإذن الله.

-  مستحيل، ماذا تقول؟

-  (ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها)

-  يا ربي قبل 3 ساعات كانت عندي، يا الله!

وهطلت دموعه بغزارة ثم صمت طويلاً لأيام عدة .

هذه المرة أصعب بكثير.. 

كيف سأبلغه أن بيته قصف في العدوان الغاشم على غزة؟ أنه فقد عائلته كلها ولم يبق له أب ولا أم، كل إخوته، أخته الوحيدة مع زوجها وأبنائها، زوجته وأولاده جميعهم، 45 روحاً أزهقت في صاروخ واحد، بعد أن قصفوا منزله المؤلف من 4 طوابق بصاروخ من صواريخهم الثقيلة التي تزن أطناناً. بالإضافة إلى الذين كانوا في ضيافة عائلته من النازحين. 

رآنا وأقبلنا عليه في الساحة الخارجية خلال الاستراحة من رطوبة الغرف القاتلة. تتسلل أشعة الشمس بعد أن تعترضها الغيوم المتفرقة في السماء ثم تسارع إلى الدخول من مربعات الشبك الحديدي لتطمئن قلوباً أرهقها عنت السجون وزنازينها القاحلة. هي ساعة يخرج فيها الأسير بعد أن كانت قبل الحرب على غزة 4 ساعات. عيون السجانين الحاقدة ترصد كل صغيرة وكبيرة وعلى أهبة الاستعداد للقمع الشديد تحت أي مبرر تتكئ عليه. وجوه الأسرى تكسوها سحب الغضب وقلوبهم تنبض مع الحرب المدمرة في غزة. قبل أن أبدأ الحديث بادرنا بالقول:

-  سمعت الخبر وكنت أتوقعه كلما سمعت خبراً عن عائلة تُشطب من السجل المدني في غزة، وكنت أسأل نفسي هذا السؤال: ماذا لو كان الأمر معي؟ وها قد حصل. 

بحزن عميق قلت:

-  أنت جبل المحامل طول عمرك، لله ما أخذ ولله ما أبقى.

رد برعشة في صوته وتوتر واضح:

- كل يوم نقرأ صباحاً في أدعيتنا المأثورة: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، من مقتضيات الإيمان التسليم لله بقضائه وقدره.

- ولن تذهب هذه الدماء العزيزة هدراً.

- تربينا على أننا مشاريع شهادة، هذه المرة العائلة كلها مشروع شهادة، دفعة واحدة؟ اللهم اربط على قلوبنا وأفرغ علينا صبراً جميلاً. 

سمعنا فتح باب القسم وإذا بضابط القسم ينادي من بعيد على صاحبنا.

"قلت له مسارعاً:

-  احذر. قد يستفزونك، تحلَّ بضبط النفس. 

-  لا تقلق، أعرفهم جيداً.

وقف أسيرنا المنكوب متثاقلاً وخطا باتجاه بوابة القسم. في طريقه أخذ يتلقى العزاء من بعض الأسرى الذين أدركوا بأنه تم تبليغه. خرج من القسم ليسارع شرطيان في تكبيل يديه وقدميه. سار أمامه ضابط القسم إلى مكتبه. جلس خلف المكتب كطاووس، ثم بلكنة عربية ضعيفة أخرج من بين أسنانه كلمات العزاء متلذذاً بها:

-  يسلم رأسك، البقية في حياتك.

رد عليه بهدوء حاسم: 

-  لا أحتاج عزاءكم. 

-  نحن نعرف الواجب.

- تعرفونه جيداً. 

-  اسمعني جيداً ولا تكثر الكلام. أحذرك من أي ردة فعل، إياك أن تتصرف أي تصرف أهوج، ببساطة نلحقك بهم، مفهوم. 

لم يجب وطال صمته بينما الغضب يجتاح كل ذرة في جسمه.

-  أجب، ما بك؟ 

-  ما عندي جواب. 

-  أنا حذرتك ولا تلم إلا نفسك. 

أشار إلى سجان يقف خلفه، فسحبه من "الكلبشة". سار به خارج هذه الغرفة اللعينة. وجد من يدفعه من الخلف ويتهكم عليه. يخاطب آخر بالعبرية:" عائلة إرهابية، راحت إلى الجحيم، قتلة مجرمون، تلقوا جزاءهم، هذا مصير كل فلسطيني مصر أن يبقى في هذه البلاد.....". مثّل أنه لا يعرف اللغة العبرية، اكتفى بمعرفة حقارتهم ولم يمكّنهم من استفزازه، عاد إلى السجن ليعانقه كل من فيه. قلوب متلوعة، مشاعر في غاية الحزن، دموع تترقرق ويغالب أصحابها نزولها إلى أن تخرج رغماً عنها. 

كانت مهمة صعبة.  

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.