من سعيد إلى العرعير: على فلسطين أن تقاوم بالرواية أيضاً
40 عاماً بين نصين كتبهما إدوارد سعيد ورفعت العرعير لكنهما يحرضان على الهدف نفسه. لماذا على الفلسطينيين كتابة روايتهم الخاصة بأصواتهم وحروفهم؟
40 عاماً بكل ما تحمله من مآس ومجازر وأحلام مؤجلة وانتكاسات وبعض الأمل، هي الفارق الزمني بين نصين فلسطينيين أصيلين كتبا للتحريض على الهدف ذاته ويطرحان المقاربة نفسها. النص الأول كتبه الراحل إدوارد سعيد عام 1984 بعنوان " إذن بالرواية"، والثاني أعدّه الشهيد رفعت العرعير بعنوان "غزة تردّ بالكتابة: رواية فلسطين".
في النص الأول قدم سعيد نقداً لآليات صياغة الرواية الصهيونية النقيضة في الإعلام الغربي وخاصة الأميركي حول أهوال حرب "إسرائيل" العدوانية على لبنان عام 1982، وتحديداً مجزرة صبرا وشاتيلا، محرضاً الفلسطينيين على كتابة رواياتهم، حيث كتب: "أتذكر أنني خلال حصار بيروت كنت مهووساً بالقول للأصدقاء والعائلة هناك، على التلفون، إنهم ملزمون بتسجيل تجاربهم وكتاباتها، إذ بدا ذلك ضرورياً كنقطة انطلاق لتزويد العالم ببعض حقائق الرواية".
أما النص الثاني الذي قدمه ابن غزة، رفعت العرعير، فيضم 23 قصة قصيرة كتبها شباب وشابات غزة في مواجهة 23 يوماً من الإرهاب في ما يسمى بــ "عملية الرصاص المصبوب" في العام 2008- 2009. قصص تمثل الحياة في مواجهة الموت، والأمل في مواجهة اليأس، والإيثار في مواجهة الأنانية الفظيعة، كما قدمها العرعير.
اجتمع هذان النصان في ندوة حوارية بعنوان "غزة ترد بالكتابة/إذن بالرواية"، نظمها أول من أمس الأربعاء، "الملتقى التربوي العربي" في رام الله، واستضافت عبد الرحيم الشيخ، الأستاذ في دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، وهو الذي عمل على ترجمة المادتين وتقديمهما ليتم نشرهما في "مجلة الدراسات الفلسطينية".
ويأتي ذلك بهدف بناء مساحة تواصل تفاعلية ونقديّة بين شباب وشابات فلسطين وناشطيها، بالتزامن مع تواصل حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة للشهر الثامن على التوالي، ورغبةً منهم في إحياء النصوص التي كتبها شهداء غزة، وأبرزهم رفعت العرعير، وهو أكاديمي حامل لدرجة الماجستير من جامعة لندنية، ومُدرس للأدب العالمي والكتابة الإبداعية في الجامعة الإسلامية في غزة. قتله الاحتلال بتاريخ 6 كانون الأول/ديسمبر عام 2023 بغارة جويّة استهدفت منزل شقيقته شمال القطاع.
ومن أهم ما قاله العرعير شعراً مخاطباً ابنته شيماء: "إذا كان لا بدّ أن أموت، فلا بدّ أن تعيشي لتروي حكايتي...". لكن الاحتلال قتل شيماء أيضاً فاستشهدت بتاريخ 26 نيسان/أبريل عام 2024، إلا أن سؤالها لوالدها وهي بعمر 5 سنوات: من الذي خلق اليهود؟، والذي وثّقه العرعير في مقدمة نصه، أصبح سؤالاً جمعياً نبحث نحن، أبناء البلاد، عن إجابته.
بدأ عبد الرحيم الشيخ مداخلته بالسؤال حول سبب قراءة هذين النصين تحديداً، ولماذا قام بترجمتهما أصلاً، وقد كُتبا باللغة الإنجليزية للجمهور الغربي؟
يوضح الشيخ بأنَّ الترجمة جاءت في سياق إتاحتهما للجمهور العربي وتحديداً الشباب الذي لا يجيد التعامل إلا مع لغته الأُم/ اللغة العربية، وبهدف المساهمة في تحقيق الغاية التي كتب من أجلها رفعت العرعير، وهي دعوة الفلسطينيين إلى كتابة الرواية بأصواتهم وحروفهم وسردياتهم الخاصة، وللإشارة إلى فكرة كان قد لمّح لها إدوار سعيد بمقاله "إذن بالرواية"، مفادها أن الفلسطينيين وفي سياق وجودهم تحت الظرف الاستعماري الخاص بهم، فهم مجبرون على أخذ الإذن برواية الرواية الخاصة بهم، والتي تتحدث عن آلامهم ومعاناتهم من المركز الاستعماري بصفته الجهة المهيمنة على صناعة الرواية وتشكيل السرديّة في العالم. كما أن المادتين تحاولان البناء على فكرة "الرد بالكتابة"، بمعنى قيام الفلسطينيين بالرد على الأفعال الاستعمارية الحاصلة بحقهم من خلال فعل الكتابة، بصفته فعل مقاومة وحياة، كما يقول العرعير.
طرح الشيخ مجموعة من الأسئلة التي أُثيرت في ذهنه بناءً على ما ورد في المادتين وهي: ما هي الرواية؟ ولماذا هناك ضرورة للإذن؟ ومَن يستأذن مَن؟ وعلى ماذا ترد وبماذا ترد؟ ولماذا الرد بالكتابة؟
يعتقد الشيخ أن الرواية هي مشروع محاولة للسيطرة على الزمن بمحاوره الثلاث: الماضي عبر تمجيد الذات الجماعية بشكل يجعلها تفوق كل ذات وقصة جماعية أُخرى في الماضي، والتي تُشرعن بشكل أو بآخر الأفعال الحالية لراويها في الحاضر المضارع وتمنحه قدراً مهولاً من الحصانة. كما تجعله قادراً على السيطرة على المستقبل عبر الحفاظ على بقاء هذه الرواية، رواية سيّدة إلى الأبد، ما يعني أن نجاح الرواية بالسيطرة على الزمن، بحسب الشيخ، يؤدي بالضرورة إلى السيطرة على المكان وموضوعات الزمان والمكان في فلسطين، وهذا ما يجعل الفترة الحالية التي يعيشها الفلسطينيون وتحديداً ما بعد 7 أكتوبر، فترة مفصلية لمحاولة الفلسطينيين إعادة صياغة وبناء الرواية الخاصة بهم، لأنفسهم أولاً وللعالم ثانياً .
ويُشير الشيخ إلى 5 مقولات كبرى تدخل في الاعتبار عند الحديث عن أي رواية جماعية. أولاً أن الرواية تعتبر ظاهرة حديثة بدأت بالظهور بعد القرن الــ 18، وثانياً ارتباط الرواية بوجود حركات وطنية أو قومية، وثالثاً الحاجة إلى تحويل القصص الشفاهية إلى قصة جماعية ناظمة وهو محور حديث كل من العرعير وسعيد في نصيهما، لكن هذا يحتاج إلى رأس مال طباعي وتحقق مديني يرافق هذه التجربة.
أما رابعاً، فهو أن الرواية القومية واحدة من أشكال القصص الجماعية وليست مُعطاة إنما مصنوعة. وخامساً ارتباط الملامح العامة للرواية بالدولة، يعني بالضرورة وجود أجهزة خاصة تقوم باستحضار وتدشين وتأبيد الرواية القومية.
وعند إسقاط ما سبق ذكره على الحالة الفلسطينية، يستنتج الشيخ أن غياب المؤسسات الدولانية عن الواقع الفلسطيني لم يحقق للرواية الفلسطينية حضورها بل العكس. فوفق تشخيص ادوارد سعيد استطاع الاحتلال أن يحوّل الفكرة إلى حضور، فيما فشل الفلسطينيون في تحويل حضورهم إلى فكرة،يقول الشيخ.
أما حول المخاطر التي تُهدد الرواية الفلسطينية اليوم، فيرى الشيخ أن أهم التحديات تتمثل في التركيبة الخاصة ببنية الرواية الفلسطينية نفسها، وهو ما يبرز من خلال ما أسماه "الطعم الصهيوني" وطريقة التعبير عن الآخر العدواني في الرواية نفسها،ثم "تهويد الفلسطيني"، أو بمعنى آخر يجب أن تستند الرواية الفلسطينية على مفهوم واحد للصراع بين فلسطين و"إسرائيل"؛ وهو صراع بين حركة تحرر وطني فلسطيني وحركة استعمار استيطاني قادمة من خارج فلسطين. أمّا بخصوص المُكّون اليهودي؛ فهو من المكونات الأصلية للشعب الفلسطيني وقد تم استغلاله من قبل الحركة الصهيونية.