معنى فيروز الآن
نأت فيروز بنفسها عن المجتمع والناس، لكنها لم تنأ عنهم بصوتها وإحساسها وموقفها الذي أعلنته واضحاً في أغنياتها المنحازة للحب والحرية والعدالة.
بينما تشنّ "إسرائيل" عدوانها الهمجي على لبنان، فلا توفّر مدينة ولا قرية أو حيّاً من نيران آلتها العسكرية المدمّرة، لم ينسَ اللبنانيون عيد ميلاد السيدة فيروز (21 تشرين الثاني/نوفمبر 1934) التي بلغت التسعين من عمر حافل بالعطاء الفني، وامتلأت صفحات "السوشال ميديا" مثل كلّ عام بالمعايدات والتمنيات الطيّبة والعمر المديد لـ"جارة القمر".
تسعون عاماً وفيروز أيقونة اللبنانيين على اختلاف أهوائهم وتوجّهاتهم، من دون أن تضطر إلى مداراة أحد أو مجاملة جهة. ظلت هي كما هي، شاهقة في علياء مجد الغناء الذي أُعطي لها.
ولئن شاركها اللبنانيون التمنيات الطيّبة في تسعينها المباركة على الرغم من الظروف القاسية بفعل العدوان الإسرائيلي. فلأنها لطالما شاركتهم أتراحهم قبل أفراحهم، ظلّت معهم وبينهم في عزّ التقاتل والحروب، يوم كان لبيروت مجد من رماد، وللبنانيين عتمة الملاجئ ورطوبة الغرف السفلية. آنذاك كان صوتها مؤنس اللحظات الموحشة، وصديق الأيام القلِقة حتى بدا مثل كفٍّ تربت على أكتافنا المثقلة أو راحة تمسح عن جباهنا تعب العمر والبلاد.
ظلت فيروز هنا، وظل صوتها رفيق الصباحات على اختلاف طبائعها وأمزجتها. في الصباحات المؤنسة ظلت هنا، وفي الصباحات الراعفة أيضاً. لم تسافر، لم تهاجر، لم تتاجر بمحنة وطنها ولا بوجع مواطنيها. غنّت لبنان في كلّ حالاته وأحواله، زمن السلم والهدوء وراحة البال، وزمن القتل والموت والدمار.
طبعاً لم تكن وحدها، كان معها الأخوان الرحباني عاصي ومنصور وإلى جانبهما شقيقهما الأصغر الياس، وثلة من كبار الشعراء والأدباء والمثقفين، صنّاع حقبة ذهبية من الموسيقى والغناء. ولاحقاً كان ابنها زياد الذي استطاع بعبقريّته الموسيقية أن يطيل "العمر الغنائي" لوالدته فاهماً ومدركاً المراحل التي يمر بها الصوت وما يطرأ عليه من تحوّلات وتبدّلات. فاختار لها ما يناسب الصوت والمرحلة، وفي الوقت نفسه ما يحاكي ويحكي مع أمزجة أجيال كادت تصير على مسافة من زمن الأخوين.
المهم أن فيروز، وفي كل مراحلها، ظلّت كما هي، راهبة فنّ وغناء، بإمكانياتها الصوتية الهائلة وإحساسها الرفيع الراقي، وذائقتها العالية. ولا مغالاة في القول إنها رفعت الغناء إلى مرتبة لم يكن ليبلغها لولاها ولولا الأخوان والصحبة الطيبة.
مختلفة فيروز عن سواها. مختلفة جداً. الآن في عزّ الحرب ووحشية العدوان يتأكّد هذا الاختلاف، ففيما يرقص الكثير من "الفنانين" على جراح وطنهم لبنان، ويديرون الظهر لمأساة بلدهم، ولا يأبهون لأوجاع أهلهم وناسهم، وإن حصل وتذكّروا لبنان رفعاً للعتب لا يجرؤون على تسمية المحتل والمعتدي الإسرائيلي، ولا يغتنمون شهرتهم ومنابرهم ومسارحهم ومهرجاناتهم للتذكير بحال لبنان الذي كان ولا يزال ضحية الحرب والعدوان.
ليس على الفنان أن يقدّم خطاباً سياسياً، ولا أن يتبنّى موقفاً حزبياً، ولا أن يحمّل فنّه أعباء الأيديولوجيات المختلفة، لكنه لا يستطيع الانفصال عن واقعه، والتنكّر لوطنه وأهله وناسه. بل يكون صوتهم وعضدهم وأنيسهم متى دعت الحاجة، وفيروز دائماً كانت صوتاً لوطنها الصغير لبنان، وللإنسان في كل مكان. بل أنها وسّعت بصوتها مساحة لبنان.
الفارق كبير جداً بين فيروز وسواها، والمقارنة ظالمة لها لا لسواها. هي مَن غنّت بلدها المسوّر بالغضب، وبيروت التي لها "مجد من رماد"، والجنوب "المشغول بقلوب"، وليالي الشمال الحزينة، وصنين وبعلبك وسواها من علامات لبنان الفارقة، مثلما غنت القدس ومكة والقاهرة ودمشق وبغداد وعمّان وسواها من عواصم العرب، لكنها لم تغنِ يوماً لحاكم أو سلطان، ولم تهن نفسها على أعتاب التملّق والنفاق. غنّت الشعوب والأوطان، والغضب الساطع الآتي. من جسر اللوزية إلى جسر العودة لم ينقطع يوماً جسر تواصل صوتها مع عشّاقه ومريديه.
نأت فيروز بنفسها عن المجتمع والناس، لكنها لم تنأ عنهم بصوتها وإحساسها وموقفها الذي أعلنته واضحاً في أغنياتها المنحازة للحب والحرية والعدالة. غنّت الوطن السليب فلسطين، والوطن الحبيب لبنان، وحيّت بصوتها السماوي معظم الأقطار العربية من دون الوقوع في المجاملة والابتذال. ابتعدت عن الأضواء حتى صارت في غيابها الطوعي، وفي عزلتها المنتقاة أكثر سطوعاً من نجمة وأكثر حضوراً من رمز.
تشرّفت مرةً بزيارتها فوجدتها أكثر تواضعاً من سنبلة ملأى، وأكثر اخضراراً من أرزة دهرية، قريبة إلى القلب والروح، تلقائية مرِحة، وسيدة لا تشبه سواها أبداً، وفنانة مثل مياه النهر لا تتكرّر مرتين.