مطارحات للعقل الملتزم: في خضم التحررّ من الاغتراب
يتناول نصّار فلسفة السياسة عند الفقهاء والمتكلمين المسلمين، دارساً ابن الأزرق الغرناطي في "بدائع السلك في طبائع الملك".
يأتي مؤلَّف الفيلسوف اللبناني في إطار الفلسفة العملية (فلسفة الفعل) أو الفكر العملي، الرامي إلى مواجهة "اللاعقل" لا في العالم العربي فحسب، بل في العالم كافة. والقارئ المعني بهذه المطارحات، صاحب العقل الملتزم، أي غير المحايد، هو بالطبيعة نقدي. وإذا كان نصّار مفككاً لبعض التصوّرات الفكرية التي مر عليها الوقت، فذلك يرد إلى سياق "الزمن الفلسفي"، حيث استحضار الماضي يمثل شكلاً من أشكال نقد الحاضر"، بحسب صلة ذلك بمشكلاته الراهنة.
الفلسفة والتغيّير
تندرج النصوص العشرة المتنوعة في إطار النظرة النصّارية إلى "الاستقلال الفلسفي" (1975)، حيث يريد للفلسفة العربية التفاعل مع العالم، ليكون زمنها "غير زمن اتباع أو اجترار أو غير زمن غربة أو غرابة أو تغريب أو اغتراب". وكان من البديهي أن تحمل النصوص همّ "التحرر من الاغتراب"، ومقصده "الاغتراب في تاريخ الفلسفة عن التاريخ الحيّ، والاغتراب في التاريخ الحيّ عن تاريخ الفلسفة"، وفقاً لخاتمة "في طريق الاستقلال الفلسفي". ينطلق نصّار من فهم عميق للفلسفة ودورها، فلا يراها منعزلة أو منفصلة عن العالم، بل هي تنمو وترتقي "في إطار علاقة وثيقة مع التجربة الدينية أو مع العلم أو مع مشكلات الحياة الاجتماعية والسياسية".
يطرح كاتب "فلسفة الأمر" (1995) سؤال الممكن في السياسة، بمعنى النظام السياسي الأمثل، ويستعين بالمعلم الأول الذي لم يقف عند نموذج بعينه، لأن الأساس عنده تحقيق "الخير العام"، ومن يحقق هذه الغاية يكن نظاماً صالحاً. لذا، يقول أرسطو في "السياسيات": "يجب أن نجعل لأنفسنا مثلاً متناسباً مع تطلعاتنا، ولكن شريطة أن لا يكون غير مستحيل". ففكر أرسطو، وفقاً لنصّار، فكر إصلاحي يُشدّد على فكرة الممكن، وحتى على محاولة التغيير أن تبدأ من الدساتير القائمة، لأن "إصلاح دستور قائم ليس عملاً أدنى من وضع دستور على أسس جديدة"، في زعم أرسطو.
نقد مقولة الملك
يتناول نصّار فلسفة السياسة عند الفقهاء والمتكلمين المسلمين، دارساً ابن الأزرق الغرناطي (توفي في العام 896 هـ / 1491م) في "بدائع السلك في طبائع الملك"، والحجج المقدمة لتبرير السياسة السلطانية واستبدادها برقاب المحكومين. فيرى إن هدم سياسة السيطرة أو القهر يبدأ بنقد مقولة "المُلك" كمقولة سياسية، وإزالة "جذورها ونتائجها"، ما يسمح بتعقل "العلاقة السياسية تعقلاً فلسفياً مُطابقاً".
ثم يتساءل فيلسوفنا عن المهمات الموضوعة أمام الفكر السياسي العربي؟ ويشير إلى ضرورة إنجاز خطوات، منها: التحليل النقدي للتراث السياسي العربي والإسلامي حتى مطلع عصر النهضة في القرن التاسع عشر، وذلك في إطار نقد زعم الأصولية والسلفية في اعتبار التراث "الطريق الصحيح للتحرر والمحافظة على الهويّة والأصالة"، ومن ثم تستكمل المهمة بتحليل التراث السياسي العربي الحديث، ولا سيّما الفكر القومي، في إنجازاته وإخفاقاته. ويُطالب نصّار العقل العربي بالعمل على "إدراك ماهية السياسة كبعد من أبعاد الوجود الإنساني، أو كوجه من وجوه الفعل الإنساني"، والتفكّر في الدولة المتعالية على الانتماءات الضيّقة، وينقل عن أدمون رباط، العلامة في الدستور، شعوره بأن أكثر الدول العربية تسير نحو "العلمانية الصامتة" (1975) في مؤسساتها وأدواتها وتفكيرها، من دون تبنّي هذا الانطباع، لأن رأيه هو "أن الدولة العلمانية تقتضي مجتمعاً علمانياً"، وهذا الأخير يتطلب "حرية الإرادة العاقلة" وترجمة ذلك في الأخلاق والتربية والتعليم. وفي كلمات موجزة، لا بدّ للعقل السياسي العربي من إنجاز مهمة النقد لـ"الاستبداد والقهر والمُلك" شرطاً لازماً لعلاقة سليمة بين الحاكم والمحكومين.
الأيديولوجيا والعقل
ولأن نصّار عقلاني بالطبع، فإنه يدافع بشراسة عن ملكة العقل ويرسم الحدود التي تفصله عن الأيديولوجيا، في تنازعهما على الحقيقة وسياستها، ومثاله على مكر الأيديولوجيا وتحايلها هو الماركسية التي تماهت مع العقل، بيد أن الخدعة لا تدوم طويلاً، كما يقول: "فالتاريخ كفيل بفضحها وإظهار المحرك اللاعقلي الذي اصطنعها، وهو، بكل بساطة، الرغبة في السيطرة"، والعقل عنده قادر على التحرك لجبه الأيديولوجيا والعمل ضدها، حين يتعقل طبيعتها ويفضح أضاليلها.
يُقدم نصّار فكرة جوهرية مهمة عن تغيير العالم، الذي يراه "عملاً واعياً لتهديم أشكال العالم وتشييد أشكال جديدة"، حيث تتجلى في العملية وحدة النظرية والممارسة، فتغيير العالم يعني أيضاً النقد العملي له. ويكشف أنه لتحقيق ذلك، لا بد للإنسان من "التعاليّ الأنطولوجي – المشروعي"، ما يُولد نماذج تعالٍ كثيرة (وجودي، ميتافيزيقي، قيمي، أكسيولوجي) قد تتصادم وتتنازع وتخوض حروباً شرسة ضد بعضها. وترتسم هذه التعاليات في مستويات يحصرها فيلسوفنا في ثلاثة: الديني والفلسفي والأيديولوجي، ولكل تصوّره ومشروعه وأدواته لتغيير العالم، الذي يمثل حقل المواجهة بينها. ويُراهن نصّار على دور فاعل للفلسفة في عملية التغيير وشرطها الحرية العاقلة كما العدل، ولا يمتنع عليها تعقل الصلة مع المتعالي الميتافيزيقي، ما يعني عدم إنكار "العلاقة مع المطلق" لعلاقة سليمة مع العالم.
وكون نصّار مشغولاً بالعقل والعقلانية، يستطلع صلة العرب بفكر الأنوار ومعانيه، عند أبو حامد الغزالي (توفي عام 505 هـ / 1058م ) في "مشكاة الأنوار" وأ. كانط في "ما الأنوار؟" (1784)، رغم اختلاف المقاصد والبُعد التاريخي بينهما، وذلك في سبيل وعيّ نقدي أفضل لما ينبغي لفلسفة التنوير العقلاني أن تكون عليه "في مجابهة ظلاميّات هذا العصر الفتاكة وأنواره الخادعة".
الدين والدولة والحريّة
وفي إطار التفكر في الدين وصلته بالدولة، يلاحظ نصّار قصور الباحثين في إرساء نظرية ناضجة، إذ إن لكل منهما ماهيته الخاصة المستقلة عن الأخرى. وكسؤال منهجي يرغب في توضيح مسألة "ضرورة الدين للدولة" مع الأخذ في الحسبان الضرورة الأخلاقية. وتنهض هنا عنده بعض الفرضيات: هل حاجة الدولة إلى الدين حاجة وجودية أم عملية؟ أم الاثنتان معاً؟ وهل يمكن أن تغيب حاجة الدولة إلى الدين؟ واسترشاداً بنظرية جان جاك روسو في "الدين المدني" ونقده، يرى فيلسوفنا في المختصر أنه يمكن للدين أن يكون أساساً للدولة في حالة الدولة الدينية حصراً، وفي نماذج أخرى، يمكن استخدامه كأداة توظيف سياسي، وفي إطار المعركة السياسية، نجد المجال مفتوحاً لتدخل الدين، كما الأيديولوجيا والفلسفة. واقتناعه بأن "حاجة الدولة إلى الدين ليست كيانية"، بل هي حاجة ثقافية، إذ إن "الوضع السليم لعلاقة الدولة بالدين يتنافى مع منطق الخضوع والإخضاع".
يرغب نصّار في بيان حقيقة الصلة بين الدين والدولة، بمعنى أخصّ تناول السؤال الإشكالي: هل الدولة جزء لا يتجزأ من الإسلام؟ أي فصل المقال في ما بين الدولة والشريعة من الاتصال؟ وليس هناك إجابة واحدة ناجزة بحسب رأيه، لا بل ثمة تضارب في الأمر. ويتضح ذلك من خلال فحص فيلسوفنا لمصنّف ابن تيمية "السياسة الشرعية" (705 هـ) الذي يُنظّر فقهياً لوجوب الدولة، وكتاب "الإسلام وأصول الحكم" (1925) للشيخ الأزهري علي عبد الرازق (المؤيد لفصل المجال الديني عن السياسي)، مع غياب أي نص قطعيّ من القرآن في مسألة الحكم. لذا، قام الإسلام السياسي باستخراج أدلته من الشريعة نفسها باعتبارها شمولية، وهي مسألة يراها نصّار لا تنهض على يقين ثابت، لا بل ثمة مأزق بنيويّ "في علاقة الإسلام بالسياسة". وخلاصة الرأي عنده إن الدولة ليست ضرورية للإسلام، فالدين له مرجعيّته والدولة لها مرجعيّتها الخاصة، ومرجعيّة السلطة الحديثة هي الناس بوصفهم مواطنين متساوين، ولا يتحقق ذلك إلا في الدولة الديمقراطية.
يطرح نصّار قضية التحرر الإنساني بمناسبة قراءته لكارل ماركس، فيفصح عن موقف هذا الأخير من المسألة في تشعّبها السياسي والاقتصادي والديني. إذ اعتبر ماركس أن تحرر الوعيّ من الدين (متابعة لموقف الهيغليين الشباب ورأي فيورباخ) يأتي ضمن صيرورة تحرر الإنسان. بيد أن فيلسوفنا، يخالفه في أن "فلسفة الحرية لا تقيم أي مُطابقة بين الحرية الدينية والتحرر من الدين، ولا تُبرر قيام أي ديكتاتورية عقائدية".