ما وراء الرماد
في الجانب الآخر من هذا العالم، فوجئنا بمتظاهرين رفعوا رايتنا "حرّة.. حرّة". تعالت صيحاتهم. توقّفوا عن شرب قهوة "ستارباكس"، أو أكل وجبة خفيفة من "ماكدونالدز"، وألصقوا عبارة "عار" على أبواب شركات عديدة اشتركت في سكب دمائنا بين الرماد.
عندما استيقظنا على مشاهد "طوفان الأقصى" شعرنا بالنصر كما لو كان لأول مرة. اهتممنا. تحدّثنا عن الهدف والأمل وأصبح حلم التحرير أقرب.
في الأيام الأولى، لوّحت أشجار الأرز في جبال لبنان، وانسحب الخنجر من غمده في باب المندب، وعصفت الرياح في "أرض السواد".
انزلقت الجثث إلى غرف النوم. زحفت إلى المساجد والكنائس والمدارس. كان الملائكة يتطايرون من الزوايا والكتل الخرسانية. ارتفعت الإحصائيات بشكل كبير. ما زلنا نهتم.. نحن بحاجة لصد الغزاة، وتخزين الضروريات.
في هذه الأثناء، اشتبكت دول مع دول، واشتبكت مدن مع مدن، وفي كل ذلك، استخدمنا "ريلز" الإنستغرام لنلقي نظرة على وجوه أخواتنا وأمهاتنا الباكيات على من تحت الأنقاض، ونحدّق عبر "التايم لاين" في أصدقائنا وآبائنا القلقين.
بينما كنا نُهجّر من منطقة إلى أخرى، من شارع إلى شارع، من الشمال إلى الجنوب، كنا ننغمس في البحث عن الفتات وحساء الحُمّص، عندما غمرتنا مساحات غرف الطوارئ المعقّمة. لا.. لم تعد كذلك.
شربنا المياه الملوّثة، وانتظرنا عطايا الله من المطر. شربنا كل شيء. وفي الوقت نفسه، كان الخشب والورق المقوّى هو الوقود الوحيد لنار الخبز المخلوط بالتراب والدم ورائحة الجيران.
ومع مرور كل أسبوع، تهاجمنا الأخبار بالمزيد من الخذلان والجثث والتحليلات النفسية والإحصائية. بينما تواصل أرواحنا تحرّكاتها من الأنفاق لمواجهة الموت. 24 ساعة من الأصوات المتشابكة والمختلطة لم تهدأ ولو للحظة.
اشتد كل شيء من حولنا. توزّعت العظام على أرصفة الطرقات. تحوّل لون الإسفلت أحمر. بعض الجلود احترقت بآلاف الدبابيس والإبر. بعض الوجوه بلا ملامح ولا هوية. لا شيء سوى الصراخ الممزوج بالانتقام والغضب و"الله أكبر".
في الجانب الآخر من هذا العالم، فوجئنا بمتظاهرين رفعوا رايتنا "حرّة.. حرّة". تعالت صيحاتهم. توقّفوا عن شرب قهوة "ستارباكس"، أو أكل وجبة خفيفة من "ماكدونالدز"، وألصقوا عبارة "عار" على أبواب شركات عديدة اشتركت في سكب دمائنا بين الرماد.
فوجئنا في الجانب القريب من هذا العالم! بدلاً من تقديم المرثيات على الأقل، قدّموا الأقمشة البيضاء، وتحدّثوا عن المؤامرات والمسرحيات، والصناديق التي هبطت في البحر من هنا وهناك. شيئاً فشيئاً أصبحنا أرقاماً بينهم في ألعاب الجوع والتشريد.
نزعوا الأقنعة وكانوا عراة.
في نهاية المطاف، سينمو العشب بين القفص الصدري ويحتلّ الجزء العلوي من الرأس. سيمرّ الربيع، كما هو الحال دائماً.
لم نعد نهتم. علينا أن نعود.
هكذا ولدتنا أمهاتنا.