لينا كريدية للميادين: "الأدب النسائي" انتهى
هل للأدب جنس أو جندر؟ طرحت الميادين هذا السؤال وغيره على الناشرة والكاتبة اللبنانية، لينا كريدية. وهذا ما أجابتنا به.
-
لينا كريدية
ترفض لينا كريدية تصنيف الأدب بحسب الجنس وتؤكّد أنّ ما يسمّى "الأدب النسائي" انتهى. فالكتابة تنبع من الإنسان ولا وجود لتصنيف جنسي أو عمري. كريدية التي كتبت بلسان المذكّر يشكّل المعيار بالنسبة لها جودة الأدب لا هوية الكاتب، فالحساسية والعقلانية ليسا حكراً على جنس معيّن.
في مقابلة مع برنامج "على محمل الجدّ" على قناة الميادين، أعلنت الناشرة والكاتبة اللبنانية، لينا كريدية، رفضها الجرأة المصطنعة والتسليع في الأدب لأنّ "الرهان على الجمال في الكتابة رهان زائل"، مؤمنة بأنّ الزمن كفيل بتمييز الأدب الحقيقي من الزائف.
حول هذه المسألة وعناوين أخرى تتصل بدور الأدب كشاهد على العصر، وموقع المرأة في عالم النشر، تحدّثت كريدية إلى بيار أبي صعب في حلقة حملت عنوان "الأدب النسائي"، وهنا نصّ الحوار بينهما.
***
بيار أبي صعب: هل للأدب جنس أو جندر؟
لينا كريدية: عندما بدأت بالكتابة لم أفكّر بالجندرة، أهي ذكر أم أنثى، بل كنت دائماً أفكّر في نفسي كإنسان. في إحدى رواياتي، كتبت بلسان المذكّر، ولم أشعر بالحاجة إلى كتابتها بصيغة المؤنّث، لأنني أؤمن بأنّ الأدب والإبداع الأدبي ينبغي أن ينبع من الإنسان من دون قيد أو تصنيف سواء كان ذكراً أو أنثى، صغيراً أو كبيراً، أو مهما كانت حالته النفسية.
فالمعيار الحقيقي هو جودة الأدب نفسه، وليس هوية الكاتب أو الكاتبة. ليست الحساسية حكراً على المرأة، وليست العقلانية حكراً على الرجل. قد يكون الرجل حسّاساً جداً ويكتب بأسلوب أنثوي ويبدع، تماماً كما قد تكتب المرأة بأسلوب عقلاني متميّز.
لهذا السبب، أرى أنني عندما أكتب، فإنني أكتب كإنسان، وأقيّم الأمور من منظور إنساني، وليس بناءً على تصنيفات مثل الجنس أو العمر أو أي تصنيف آخر.
بيار أبي صعب: في مجتمعات ذكورية كمجتمعاتنا، حيث يُنظر إلى المرأة بطريقة سطحية وضيّقة، لا يمكنكِ إنكار أنّ هذا الأمر قد ينعكس على طريقة وجودك، والكتابة جزء من حياتك، من تنفّسك. أحياناً، لا تشعرين أنكِ أنتِ، أو بشكلٍ عام، تواجه الكاتبة المرأة منظومة ذكورية تضيّق عليها، تصنّفها، تحاصرها، أو حتى تستغلّها كدمية جميلة. وكما كنّا نتحدّث في الكواليس، هناك فكرة "المظهر" عند بعض النساء اللواتي يعتقدنَ أن جاذبية المظهر تجعلهنّ كاتباتٍ مهمّات أو مشهورات.
لينا كريدية: أنظر إلى الكتابة على أنها شيء يفوق مجرّد كونها جزءاً من التاريخ أو نوعاً من المذكّرات. أظن أنّ الكتابة الإبداعية ليس لها هدف سوى أن يستمتع القارئ بها، فلا يجوز الحكم عليها إلا من خلال جودتها الأدبية. مشكلتنا في هذا الزمن هي التسليع. فإذا كنا نفكّر في المرأة كوسيلة للترويج لبضاعة معيّنة، فإننا نجد أحياناً أنّ المرأة نفسها قد تسلّع ذاتها عبر الترويج لأسلوب كتابتها من خلال إبراز جمالها.
وهنا أكرّر القول: نحن لا نحكم أو نحاكم، ولكن إذا ارتضت المرأة أن تسلّع نفسها، فما الذي يمكننا فعله حيال ذلك؟ إذا اختارت أن تُبرز مفاتنها، أو أن تتخذ أوضاعاً معيّنة، أو أن تضع مساحيق تجميل مبالغ فيها، وتقول: "أنا أكتب"، وهي في الواقع تقدّم مظهرها قبل كتابتها، فإنها بذلك تراهن على شيء زائل، لأنّ الشكل يتغيّر ويذوي مع الزمن.
فأنا كنت أكثر جمالاً في العشرينيات من عمري، لكننا جميعاً نتقدّم في العمر، والزمن دائماً يأتي بأشخاص أجمل منا، وأذكى منا، وأكثر مهارة منا. لذا، إذا كنتِ تراهنين على المظهر لجذب الانتباه أو زيادة الإعجابات، فهذا قرارك، لكن إذا كنتِ ترغبين في أن تكوني أديبة بحق، فما علاقة مظهرك بذلك؟ المهم هو أن يقرأ الناس شِعرك أو كتاباتك، وإن كان لا يُقرأ إلا عند مقارنته بجمالك أو لباسك، فهذا خيارك الشخصي.
في النهاية، كلّ فرد يختار طريقه، لا يمكنني الاختيار عنكِ، كما لا يمكنكِ الاختيار عني. إذا كنتِ ترغبين في تصحيح مسارك، فهذا شأنك وحدك، أما أنا، فلا يمكنني فعل شيء سوى أن أراقب وأدير وجهي، لأنّ الزمن وحده هو القادر على الحكم، وعلى المدى الطويل، هو الذي يحدّد ما يبقى وما يزول.
كنت أتحدّث عن هذا الأمر، ورأينا العديد من النماذج في مختلف أنواع الفنون، حتى في الطرب. فعندما ظهرت الأغاني، كان هناك أيضاً أغانٍ "هابطة"، حتى في زمن أم كلثوم، واستمر ذلك في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث ظهرت أغانٍ تثير الضحك. ولكن ما الذي بقي منها؟ الأمر ذاته ينطبق على جميع أنواع الفنون. فالحقيقي منها هو ما يصمد، أما ما يقتصر على التقليد من دون أن يكون شاهداً على عصره، فهو مجرد زيف وزخرفة لا قيمة لها.
هذا ينطبق أيضاً على الشعر والرواية. إذ ينبغي أن يكون الأدب شاهداً على عصره. فإذا لم يكن قادراً على مواكبة المستقبل، فسيصبح متراجعاً. فعلى سبيل المثال، إن لم تستطع كتابة شعر يتجاوز ما قُدّم في العصر الجاهلي أو الأموي أو العباسي، أو حتى ما كتبه الجواهري، فعلى الأقل كن شاهداً على عصرك. اكتب بأسلوبك، بمنهجك، ولا تظل متمسّكاً بالماضي فقط، بل حاول أن تكون حاضراً في زمنك.
والأمر ذاته ينطبق على الرواية. كانت الرواية، ولا تزال، فنّاً عظيماً، ونحن لا ننكر أن تراكم الإنتاج الأدبي هو الذي بنى ثقافتنا ومعرفتنا، لكن متطلّبات العصر قد تغيّرت. في وقتنا الحاضر، لم يعد المطلوب مجرّد كتابة أعمال ضخمة، بل أصبحت هناك حاجة إلى نصوص أكثر رشاقة وسرعة، تزخر بالمعلومات. فالمعايير تختلف، وعلينا مواكبتها حتى نتمكّن من البقاء متصلين بالواقع وفهم ما يخبئه المستقبل. فلا يمكننا الاستمرار في التمسّك بالماضي أو الانغماس في التصنيع الأدبي.
بيار أبي صعب: وبالمناسبة، عندما ذكرتِ آني إرنو، يجدر التنويه بأنها كتبت تجربتها كامرأة، لكنها لم تُصنّف يوماً ضمن ما يُسمّى "الأدب النسائي"، بل اعتُبرت جزءاً من الأدب الخالد بمعناه الحقيقي.
لينا كريدية: ليس هناك ما يسمّى "الأدب النسائي"، بل هناك أدب إنساني، يتجاوز حدود الجنس أو العرق أو اللون. هذا المفهوم القديم لما يسمّى "الأدب النسائي" قد انتهى منذ زمن، إذ لم يعد الأمر استثنائياً أن تكتب المرأة؛ فالنساء اليوم يكتبن كما الرجال، ولم يعد الأمر نادراً كما كان في الماضي.
في زمن مي زيادة، على سبيل المثال، قد يكون هناك من يظن أنّ تلك الأيام قد ولّت وانتهت، لكنّ الواقع يفرض علينا أن نكون حاضرين في عصرنا، متيقظين لما يجري حولنا، وألا نقتصر فقط على الجوانب السلبية للتطوّر الذي نعيشه، سواء في الإعلام أو في ظواهر مثل تلك التي نشهدها على منصات التواصل الاجتماعي كـ"تيك توك" وغيره. علينا أن نأخذ الجوانب الإيجابية أيضاً، وأن نراقب كيف يفكّر العالم وإلى أين يتجه. لا يمكننا البقاء أسرى الماضي.
بيار أبي صعب: حين نتحدّث عن الجرأة في الأدب، فالمكتبة العربية خلال الثلاثين أو الأربعين سنة الماضية شهدت تجارب أدبية جريئة جداً، بدءاً من غادة السمان وليلى بعلبكي وغيرهما. لقد كانت المرأة، في كثير من الأحيان، هي الرائدة في الجرأة الأدبية، حيث كانت أول من كشف العالم الحميمي وطرح العلاقات العاطفية بشكل صريح، وهو ما جعل العديد من الروايات تحقّق شهرة واسعة. لكنّ السؤال المطروح هو: ما رأيك بالجرأة في الأدب؟ هل هي حقيقية أم مفتعلة؟ ولماذا لا يُحاسَب الرجل على جرأته الأدبية بينما تُوصَف المرأة الجريئة بأنها متجاوزة للحدود؟
لينا كريدية: أنا أرى أن المرأة الجريئة في كتاباتها تكون حقيقية، وحين تصف الأمور بدقة وجرأة في سياقها الصحيح، فإنّ ذلك يكون مقبولاً. فنحن، سواء كنا رجالاً أو نساءً، نستطيع التمييز فوراً بين الجرأة الحقيقية التي تُسرد في الرواية بانسيابية، وبين تلك الجرأة الفجّة التي توظَّف فقط من أجل إثارة الجدل. هناك من يلجأ إلى إدخال العناصر الجريئة أو الجنسية بشكل مفتعل بغرض لفت الانتباه وتحقيق الشهرة، بل قد يروّجون لأعمالهم الأدبية عبر الحديث عن منعها أو إثارة الجدل حولها.
لكنّ الجرأة، عندما تكون في سياقها الجمالي والأدبي الصحيح، تكون مؤثّرة وجميلة، إذ تمنح القارئ مشاعر جديدة وتفتح أمامه آفاقاً فكرية. أما حين تكون الجرأة مجرّد استعراض فجّ يهدف فقط إلى لفت الأنظار، فتتحوّل إلى شكل من أشكال الابتذال الذي لا قيمة له. وأي قارئ واعٍ يستطيع أن يميّز فوراً بين الجرأة الأصيلة والجرأة المصطنعة.
الأمر لا يحتاج إلى الكثير من التعقيد. فأنا مع الجرأة، لكنني ضدّ الابتذال وضدّ استجداء الشهرة، لأننا في زمن كَثُر فيه من يسعون إليها بأي وسيلة ممكنة. هناك من يتسوّلون الشهرة من خلال استخدام أساليب رخيصة، مثل السبّ والشتم، كالتطاول على الدين مثلاً. ولكن لماذا تشتم الدين؟ احترم معتقدات الآخرين كما تحب أن يُحترم فكرك الديني.
وهناك من يلجأ إلى الإباحية المفرطة أو استخدام الألفاظ النابية والتعدي على شخصيات معروفة فقط لتحقيق الانتشار. هؤلاء جميعاً، في نهاية الأمر، مجرد متسوّلين للشهرة، يأتون ويمضون كما تعبر الرياح، ولا يبقى لهم أثر. فما الذي يبقى من هذه الظواهر الصفراء في الحياة؟ لا شيء.
بيار أبي صعب: بالنسبة لنوال السعداوي، فقد كتبت عن الأنوثة في مواجهة الذكورة، وجعلت الأمر وكأنه صراع مستمر بين الرجل والمرأة، سواء في الكتابة أو في الحياة.
لينا كريدية: قد يبدو هذا الطرح جريئاً بعض الشيء، لكنني شخصياً لا أرى الرجل كخصم. على العكس، أنا أحب الرجل، فهو والدي وأخي، وقد يكون حبيبي أو عشيقي. الرجل هو من ساندني في حياتي، وأبي هو من وجّهني إلى الطريق الصحيح، وهو من قدّم لي كل الدعم الجميل في حياتي. أنا لست في حالة صراع مع الرجل، سواء كان زوجاً أو حبيباً أو أباً. ولهذا لا يمكنني أن أتبنّى أسلوب المواجهة الذي يعتمده البعض، لأنّ تجربتي مختلفة. لم أتعرّض للاضطهاد من قِبل والدي، ولم يحرمني من العلم أو يُمارس العنف ضدي. ولذلك، لا أستطيع الحديث إلا عن الرجل الذي يمتلك الذكورة الحقيقية، والتي تتجلى في فرض شخصيته بالاحترام وليس بالعنف أو القهر. بل على العكس، أنا أرى الرجل بصفاته الإيجابية وأحترمه.
الرجل ساندني، الرجل أحبني، الرجل احتواني.
أما إذا كان هناك من خرج من تجاربه بشعور بالصدام، فهذا شأنه. أما أنا، فقد نشأت في تجربة مختلفة تماماً، حيث كان الرجل بالنسبة لي شخصاً داعماً، تماماً كما قد تكون الصديقة أو الصديق. على العكس، احتواني وأحببته وأحبني، أعطاني وأعطيته. حتى والدي قدّم لي الكثير، لكنني أيضاً كنت معطاءة. كنت متفانية في عملي، سواء في النشر أو في غيره، وكانت علاقتي بالرجال قائمة على الأخذ والعطاء المتبادل.
هذا لا يعني أبداً، بأي شكل من الأشكال، أن العلاقة بين المرأة والرجل يجب أن تكون صدامية. المرأة ليست بحاجة إلى المواجهة، بل إلى التناغم. عليها أن تختار الرجل الذي يناسبها، فإذا لم تجد من يلائمها، فذلك يعود إلى تجربتها الخاصة.
بيار أبي صعب: في ما يتعلق بالنشر لقد خضت التجربة ككاتبة وناشرة، وأسست لنفسك مكانة في لبنان والعالم العربي. فهل كان مجال النشر مجالاً ذكورياً؟
لينا كريدية: في الحقيقة، عندما بدأت، لم يكن الأمر سهلاً. في عام 2000، بعد وفاة والدي، اضطررت إلى تولّي الإدارة في سن صغيرة، وعندما سافرت للمرة الأولى عام 2001 لحضور "معرض فرانكفورت الدولي للكتاب"، كنت المرأة الوحيدة في الطائرة، وسط مجموعة من الرجال.
مع مرور الوقت، تغيّرت الأمور بشكل كبير، وأصبح عدد النساء في مجال النشر في تزايد مستمر. ظهرت أسماء نسائية قوية مثل رنا إدريس (دار الآداب) وغيرها، وبدأت أعداد الناشرات تتزايد تدريجياً. حتى في معارض الكتاب، التي كانت تحتاج إلى جهد بدني في حمل الكتب والصناديق، صار هناك وجود لفرق نسائية تتولّى المبيعات وتمثيل دور النشر، ولم يعد ذلك الحاجز القديم موجوداً.
اليوم، نرى العديد من النساء في مواقع إدارية عليا في دور النشر، سواء في لبنان، القاهرة، أو المغرب، حيث تدير النساء مؤسسات قوية وناجحة. لذلك، لم يكن هناك حاجة لنظام "الكوتا النسائية" في النشر، لأنّ النجاح لا يُقاس بالجندر، بل بالكفاءة. لا يُمكن فرض امرأة غير كفؤة في منصب فقط لملء حصة نسائية، تماماً كما لا يمكن تهميش امرأة ناجحة أمام رجل غير كفؤ.
الإدارة لا تعترف بالجنس، بل بالكفاءة والقدرة على تحقيق الإنجازات. قد تكون هناك امرأة تدير دار نشر بنجاح يفوق 10 رجال، بينما قد يفشل رجل ذو خبرة طويلة. لذلك، يجب ألا نخلط بين الأمور، فالنجاح يتحدّث بلغة الأرقام، وليس بلغة الذكورة أو الأنوثة.
أنا ضدّ "الكوتا"، فأنا مع الإنسان الناجح بغضّ النظر عن جنسه. لذلك، يجب أن نربي أطفالنا على عدم التمييز بين الرجل والمرأة، بين الذكر والأنثى، بين الطفل والطفلة. التربية هي الأساس. عندما ينشأ الطفل على مبدأ "أنت إنسان، إما صالح أو غير صالح، إما جيد أو غير جيد"، سيتعلّم احترام المرأة الذكية والمتميّزة، تماماً كما قد لا يحترم الرجل غير الكفؤ. كلّ شيء يعتمد على التربية.
علينا أن نغرس في عقول الأطفال فهماً صحيحاً للمساواة، بعيداً عن فرض "الكوتا". لا يمكن أن نقول لفتاة: "أحضري الماء لأخيك لأنك فتاة"، أو لشخص "سنوفّر لك فرصة عمل لأنّ وضعك صعب"، فهذه ليست الطريقة الصحيحة للتأهيل. إن كنتِ تدرسين في الجامعة نفسها، وتحصلين على درجات أفضل، فمن الطبيعي أن تُفضّلي على غيرك وفقاً لمعيار الجدارة، وليس وفقاً لنظام "الكوتا".
في الماضي، كنا نخاف من التطوّر. كنا نستغرب كيف يمكن أن يعمل الهاتف المحمول بلا شريط! أما الآن، نرى الفلاح يحمل هاتفاً ذكياً من أحدث الطرازات. هذا يدل على أننا يجب أن نتقبّل التقدّم وأن نواكب تطوّرات الحياة.