كيف تعامل الفرنسيون مع زيارة الشيخ محمد عبده للجزائر؟
عام 1903، زار الشيخ محمد عبده الجزائر. في أي سياق أتت هذه الزيارة؟ وكيف تعامل معها المستعمر الفرنسي؟
سنة 1903، زار الشيخ محمد عبده، أحد رواد حركة الإصلاح الإسلامي، الجزائر. يحاول هذا المقال الإضاءة باقتضاب على السياق العام لهذه الزيارة، وكيفية تعامل الإدارة الاستعمارية الفرنسية معها، والشخصيات التي قابلها، والأثر الذي تركته لدى النخب الثقافية الجزائرية.
الجزائر في بداية القرن العشرين
لم تتوقَّف المقاومة طيلة القرن الـ19، التي تلت سقوط مدينة الجزائر بيد الجيش الفرنسي. وقد اندلعت في إطار البنيات الاجتماعية التقليدية الجزائرية، مُتمثِّلةً في النظام القبلي والطرق الصوفية، وكان أبرزها مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري في السنوات بين 1832 و1847، التي كانت ضمن مشروعٍ طموح لدحر الاستعمار، وبناء دولة جزائرية ترث النظام المركزي الذي سقط في العام 1830.
بعد استنفاد المقاومات الشعبية لقدراتها، وفشلها في التحرير لأسباب عديدة، بدا جليّاً مع مطلع القرن الـ20 أنَّ المجتمع الجزائري، بمختلف نخبه، قد تيقَّن من عدم جدوى المواجهة العسكرية مع الاستعمار الاستيطاني العنيف، بالأساليب العسكرية والتنظيمية نفسها التي عرفتها العقود الـ7 التي تلت سقوط البلاد، وأنَّ المطالبة بالحقوق السياسية والمدنية والثقافية هي أقصى ما ينبغي للجزائريين النضال من أجله.
هكذا تشكَّل على هذا الأساس تياران سياسيان، رأى الأول ضرورة الحفاظ على بنيات المجتمع الجزائري الدينية واللغوية والاجتماعية، ومنعها من الذوبان في القيم الأوروبية، وإلغاء القوانين التمييزية بحق المسلمين، كقانون الأهالي، وقانون منح الجنسية الفرنسية لليهود الجزائريين من دون المسلمين، ومشاريع التجنيس والتجنيد الإجباري التي أصدرتها الجمهورية الفرنسية الثالثة بين عامَي 1871 و1900. وضمَّ هذا التيار المحافظ شيوخ طرق صوفية وطلبة زوايا وبعض ملاك الأراضي، بالإضافة إلى مجموعةٍ من العلماء الجزائريين الذين تأثَّروا بالأفكار المنتشرة آنذاك في العالم الإسلامي، والتي لم تكن الجزائر بمنأى عنها، كالإصلاح الديني والجامعة الإسلامية... على غرار مولود بن الموهوب، وعبد الحليم بن سماية، ومحمد بن الخوجة، وعمر بن قدور وغيرهم.
أما التيار الثاني فضمَّ نخبةً من المثقفين الذين تلقّوا تعليماً فرنسياً، والمتأثِّرين بالثقافة الغربية، ودعوا إلى الاندماج الثقافي في "الحداثة الغربية"، ورفعوا مطالب المساواة في الحقوق السياسية مع المستوطنين الأوروبيين، بما يسمح للمسلمين الجزائريين بحق التمثيل النيابي، والمساواة مع الأوروبيين في التعليم وجباية الضرائب، وتجنيس المسلمين الجزائريين ودمجهم في المجتمع الفرنسي. وقد نتج عن الاختلاف بين هذين التيارين حَرَاك ثقافي، تجسَّد في ظهور الصحافة والنوادي الثقافية، لكنّه ظلّ إلى حدٍ كبيرٍ نخبوياً وبعيداً من الواقع العام لغالبية الجزائريين، الذين كانت أوضاعهم الاقتصادية في غاية السوء، نتيجة مصادرة الأراضي والاستيطان التي عرفتها البلاد في العقود السابقة.
كما تأثَّر المجتمع سلبياً بالتحوُّلات الثقافية والديمغرافية الكبيرة، التي رافقت التفكيك العنيف والمُمَنْهج لبنياته التقليدية، وانتشار الجهل والأمية، فلم يكن عدد تلاميذ المدراس الابتدائية مع نهاية القرن الـ19 يتجاوز 2% من أبناء الأهالي المسلمين، كما كتب المؤرخ الفرنسي شارل روبير أجرون في كتابه "تاريخ الجزائر المعاصرة".
زيارة الشيخ محمد عبده للجزائر
كان الشيخ محمد عبده من أبرز رواد حركة الإصلاح الديني التي ذاع صيتها في القرن الـ19، فهو تلميذ السيد جمال الدين الأفغاني، الأب المؤسس للحركة التي رامت إصلاح أحوال المسلمين مشرقاً ومغرباً، واللَّحاق بركب الأمم المتحضّرة من جهة، ومواجهة الاستعمار الغربي من جهة أخرى، الذي استطاع أن يقضم أجزاء من مغرب البلاد الإسلامية؛ في الجزائر سنة 1830 ثم في تونس سنة 1881، أو في عدن سنة 1838 وفي الهند سنة 1858، وغيرها من الأماكن في المشرق.
وقاد الأفغاني حملةً مناهضة للاستعمار الغربي ومعاديةً لنفوذه، وداعيةً للثورة عليه في مختلف البلاد الإسلامية، التي رأى فيها ساحة واحدة لنشاطه المُحرِّض والثوري، دونما أي اعتبار للاختلافات اللغوية أو العرقية أو المذهبية، في مصر مع ثورة عرابي، أو في إيران مع ثورة التنباك، أو في الأستانة، أو غيرها.
وكانت "الجامعة الإسلامية" هي الفكرة الأساسية التي صاغها الأفغاني من أجل "الاعتصام بحبال الرابطة الدينية، التي هي أحكم رابطة، اجتمع فيها التركي بالعربي، والفارسي بالهندي، والمصري بالمغربي"، وقد أسَّس ضمن هذا الإطار جمعية ومجلة "العروة الوثقى"، التي أوكل لمحمد عبده تحريرها.
ومن أجل إحكام الرابطة ببلاد المغرب والمغاربة، تعرَّف محمد عبده إلى الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق وبيروت، وأثمر هذا التعارف في النهاية عن انضمام الأمير إلى جمعية "العروة الوثقى" (حسب بعض الباحثين)، واعتناقه وأبناءه لأفكار الأفغاني وعلى رأسها "الجامعة الإسلامية"، فكبرت الرغبة لديه في زيارة الجزائر للتعرف عن كثب على أحوالها، لهذا رجَّح المؤرخ الجزائري أبو القاسم سعد الله أن تكون مبادرة الزيارة جاءت من عنده، وليست دعوة من الإدارة الفرنسية كما رأى البعض.
وعلى أي حال فإنَّ الإدارة الفرنسية لم تكن لتسمح بالزيارة لولا أنَّها أرادت أن تُحقِّق بها مصالح مُعيَّنة، فهي لن تسمح له بالقيام بهذه الزيارة بالطبع إن أظهر حدّاً أدنى من معارضة سياستها، ناهيك عن التحريض عليها، وقد كتبت مجلة "المنار"، التي كان يُديرها تلميذه رشيد رضا، مقالاً قُبَيْل الزيارة بعنوان "الجزائر وفرنسا"، كان "معتدلاً جداً" في التعاطي مع واقع الاستعمار الفرنسي للجزائر.
ارتبطت تلك المصالح بالواقع الداخلي للجزائر، حيث باشرت الإدارة الفرنسية بقيادة حاكمها العام في الجزائر شارل جونار إصلاحات تعليمية وثقافية، هدفت من خلالها إلى تشكيل نخبة مُتفرنِسَة تحدُّ من نفوذ الزوايا والطرق الصوفية، التي شكَّلت رافعة المقاومة والثورة، لتُسهِّل عملية ترويض وإدماج المسلمين في المجتمع الأوروبي، فيما ارتبطت المصالح الأخرى بسياق التنافس الدولي الذي طبع تلك الفترة بين بريطانيا وفرنسا، والذي زاد من حِدَّته الخشية من نجاح مشروع "الجامعة الإسلامية"، الذي تبنَّاه السلطان العثماني عبد الحميد المتحالف مع ألمانيا.
وقد رأت الإدارة الفرنسية أنَّ بإمكانها أن تُوظِّف نفوذ الشيخ محمد عبده ضد منافسيها البريطانيين، لكن ذلك لم يجعل الفرنسيين يطمئنون تماماً إلى الشيخ، فأحاطوا زيارته برقابة شديدة منذ أن وَطِئت قدماه ميناء مدينة الجزائر، كما نقرأ في الوثائق الأرشيفية الفرنسية.
زار عبده مقر الحكومة العامة في المدينة، التي انبهر بعمرانها الحديث، والتقى بأعيان المدينة، وبعض علماء البلاد مِمَّن كانوا شغوفين للقاء أبرز قادة الإصلاح الديني، بعد أن عرفوه من خلال ما كان يصلهم من مقالاته في مجلة "المنار"، وكان أبرزُهم عبد الحليم بن سماية ذا الخلفية الصوفية والإصلاحية.
واستقبل الشيخ محمد عبده المئات من الزوار الذين قصدوا مقر إقامته ليلقي عليهم محاضرات في التفسير والعقيدة، متجنِّباً أي حديث في السياسة. ثم توجَّه إلى مدينة قسنطينة في الشرق الجزائري، والتقى أعيانها وعلماءها، وكان أبرزهم بن الموهوب، وهناك وجَّه سهام النقد اللاذع للطرق الصوفية. وألغى زيارة تلمسان في غرب البلاد، التي كانت ضمن برنامجه، لأسباب قد تكون صحية.
بذر محمد عبده الأفكار الإصلاحية الدينية في الجزائر، وأعطى دفعةً معنويةً قوية لعلمائها الإصلاحيين القلائل، تُوِّجت بعد ذلك بـ3 عقود بتأسيس "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، التي ورثت نصائحه في الاهتمام بالجانب التعليمي فحسب، ومسالمة الحكومة الفرنسية وترك الاشتغال في السياسة.
ومن نافلة القول إنَّ التوجُّه المُهادن للشيخ عبده لم يحدّ عن آرائه الإصلاحية المعتدلة، التي خالفت توجُّهات أستاذه الأفغاني الثورية، لكنَّ أفكار الأفغاني الثورية عادت لتُزهر من جديد عندما امتزجت بالتيار الثوري للوطنية الجزائرية الحديثة، المولود من رحم الحركات النقابية اليسارية، بعد لقاء مؤسسه مصالي الحاج بشكيب أرسلان في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، والذي أثمر في سنة 1954 ثورة كبرى، نسفت نظاماً استيطانياً دام أكثر من 130 عاماً.