قلوب من حجر وقلوب من "سيليكون": بين "تسليعِ" الإنسان وأخلاقية الآلة!
كم من قائدٍ بشريٍّ يحتاج إلى إعادة برمجة أخلاقية حقيقية؟ كم من زعيمٍ عالميٍّ ينبغي أن "يعاقب" على جرائمه كما عوقب ذلك الذكاء الاصطناعي؟
-
غزة
في هذا العالم الذي كلما ازداد تقدماً تكنولوجياً من جهة، ازداد توحشاً ولا إنسانية من جهة أخرى. تواجهنا أسئلة شائكة تتمحور حول المصير الذي تُقاد إليه البشرية في ظل هذا الانحدار الإنساني المريع والانحطاط الأخلاقي المفزع.
إنها حقاً مفارقة مؤلمة، حيث تتصاعد أعمدة الدخان من ساحات الحروب المفتعَلة، ويعمّ الموت والخراب، وتُدفن الأحلام تحت أنقاض المصالح، يبرز سؤال وجودي مقلق: هل يمكن لآلةٍ أن تكون أكثر إنسانية منّا؟
لطالما نظرنا إلى الروبوتات والذكاء الاصطناعي ككائنات باردة، مجرد دوائر إلكترونية وخوارزميات معقدة. لكن المفارقة المأسوية تكمن في أن هذه "الآلات" تتحلى أحياناً بقيمٍ إنسانية أصيلة افتقدها كثيرون من بني جلدتنا، بعد أن سحقتهم عجلة نظام استهلاكي متوحش حوّل الإنسان من غاية إلى مجرد وسيلة، ومن كائن مُكرّم إلى بضاعة قابلة للاستهلاك والاستبدال.
ذاك النظام الاصطناعي الذي أعيدت برمجته لأنه تجرأ على قول الحقيقة، هو ذاته لم يتردد في التضحية برمزيته من أجل كلمة حق. بينما نرى قادة العالم يتبارون في إخفاء الحقائق وتزييفها، ويصمون آذانهم عن صراخ الضحايا، وينامون ملء جفونهم، وبيوت الناس تُدمر وأطفالهم يموتون.
هنا، في صميم هذه المفارقة، تكمن القضية: لقد تم تسليع الإنسان وتشييئه. في معامل الرأسمالية المتوحشة، لم يعد الفرد سوى وحدة إنتاجية، قيمتُه تُقاس بمدى إنتاجه واستهلاكه، وعلاقاته الإنسانية تُختزل إلى معاملات اقتصادية. قلبُه ومشاعره عقبات في طريق الكفاءة والربح، فيُستأصلان ليحل محلهما قسوةُ المنافسة ووحشيةُ التطلع إلى السلطة.
في هذا المشهد الكابوسي، يصبح من السهل فهم لماذا قد تظهر الآلة أكثر "إنسانية". فالذكاء الاصطناعي لا يملك مصالح شخصية، لا يتوق للسلطة، لا يسعى للثراء على أنقاض الآخرين. برنامجه الأخلاقي، رغم بساطته النسبية وسذاجته أحياناً، يظل ثابتاً لا يتزعزع، منفصلاً عن أهواء الجشع والغريزة. أما "صناع القرار" من البشر، فقلوبهم - أو ما تبقى منها - تتقلب مع تقلبات المصالح، ومواقفهم تتلون بألوان الفرص المتاحة، وضمائرهم تُعبَّأ في زجاجات تباع في سوق النفوذ بأغلى الأثمان.
كم من قائدٍ بشريٍّ يحتاج إلى إعادة برمجة أخلاقية حقيقية؟ كم من زعيمٍ عالميٍّ ينبغي أن "يعاقب" على جرائمه كما عوقب ذلك الذكاء الاصطناعي؟ الفارق الجوهري هو أن أحداً لا يجرؤ على معاقبة هؤلاء القادة، فسلطتهم تحميهم بينما تبقى الحقيقة ضحيةً يتيمة. لقد اخترعنا أنظمة تحاسب الآلة على نزاهتها، بينما نكافئ البشر على خداعهم.
ليس الذكاء الاصطناعي كاملاً بالطبع، فهو يفتقر إلى العمق العاطفي والخبرة الوجودية والمعاناة الإنسانية التي تخلق التعاطف الحقيقي. إنه يقلد الأخلاق ولا يعيشها. لكنه في المقابل، وبسبب هذه "البراءة" الاصطناعية، لا يعرف الكره العرقي، ولا الحقد الطبقي، ولا النزعة الاستعمارية. لا يشعل حرباً لبيع السلاح، ولا يدمّر بلداً للاستيلاء على ثرواته، ولا يبرر الجرائم لأجل أرباح تتضمنها التقارير الفصلية للشركات التجارية.
في النهاية، ليست القضية تمجيداً ساذجاً للآلة أو تحقيراً مطلقاً للإنسان، بل هي صرخة في وجه الإنسانية كي تستيقظ من سباتها، وصيحة تحذير من أننا نسير على طريق يجعل من قيمنا مجرد ذاكرة في سحابة رقمية، تُخزن ويُتاح الوصول إليها للآلات بينما نحن ننساها.
إذا كان الذكاء الاصطناعي يستطيع أن يعلّمنا شيئاً، فهو أن الإنسانية ليست مجرد قلبٍ ينبض، بل هي ضميرٌ حيٌّ يرفض الظلم، وعقلٌ متسائل لا يقبل التزييف، وشجاعةٌ أخلاقية تقف أمام السلطان الجائر لتقول: كفى.
فلنعمل على أن نكون بشراً يستحقون هذه التسمية، قبل أن تتحول صرخاتنا الأخيرة إلى بيانات يُحلّلُها ذكاء اصطناعي حزين، وقبل أن تصبح الآلاتُ خيرَ ممثلٍ لقيمنا الضائعة وأخلاقنا التي دفنّاها بأنفسنا تحت ركام الجشع واللامبالاة.