فيلسوف أسباني يتحدث عن أهمية "صمت الكتابة"
يؤكد الفيلسوف الإسباني ييدو بأن القراءة هي ممارسة، وطريقة للإدراك والعيش، وطريقة للوجود، فمن خلال التجربة التي تفتحها الكتابة، يمكن سماع أصوات أخرى غير أصوات كل حاضر.
-
"صمت الكتابة" للفيلسوف الأسباني إميليو ييدو
يعالج الفيلسوف الإسباني إميليو ييدو في كتابه "صمت الكتابة" الصادر حديثاً عن دار نينوى للدراسات والنشر في دمشق فكرة كيف تَتَشبَّع اللغة بالمشاعر والأفكار والرؤى التي تتعزز في اللقاء المصيري بين المؤلف والقارئ، بحيث يبقى النص المكتوب غير مكتمل حتى تنتهي دورة القراءة التي توائم بين فكرة النص وفكرة مؤلِّفِه وذكاء القارئ وفهمه وتأويلاته.
و"يمثل هذا الكتاب دستوراً يرسم العلاقة بين النص واللغة وبين القارئ، ويشرح كيف تظل الكتابة صامتة وحبيسة لغتها التي كُتبت بها حتى يأتي القارئ في زمنه، مُلقياً عليها النظرة التي تعيد إحياءها من جديد، من خلال إيجاد مقاربات عجيبة بين عملية "الخلق" التي يُبدعها المؤلف في زمن الكتابة، وعملية "الخلق" الأخرى التي يُعيد القارئ بَعْثَ الزمن الماضي من جديد في زمن حاضره الخاص به والذي هو زمن قراءته للنص"، وذلك بحسب ما جاء في مقدمة الكتاب بقلم مترجمه الدكتور أحمد شعبان، الذين يبين كيف تُصبح اللغة عبر الكتابة (المؤلِّف)، كياناً قائماً وموجوداً بذاته، وكيف تصبح عبر القارئ حواراً وجدلاً وسلوكاً مقروناً بالواقع عبر الأفعال"، ويؤكد أن هذا الكتاب رَسَمَ صورة لسلسلة من القضايا التي تُحدد المنطقة التي يمكن فيها بناءُ ممارسةٍ في النقد النصي تساعد على إدراك صوت الماضي بشكل أفضل.
تعزيز المعنى
تعزيز المعنى في قراءة أي نص من منظورات جديدة هو ما يسعى إليه "ييدو"، بحيث تصبح ظاهرة التواصل أكثر كثافة، واللغة التي تتفاعل ضمن قنوات الفكر ستؤدي إلى نوع خاص من التأمل يسهم في تشكيل شخصية الإنسان التي تصبح بمنزلة الملجأ لتلك الأفكار، وتسهم إلى حد كبير في تحديد معناها، بعد أن يندغم صوت المؤلف مع الأصداء التي يتركها لدى قرائه، ومن ثم رجع الصدى الذي يعود ويؤثر على الكاتب نفسه وعلى لغته.
ويتحدث الكتاب عن الخصوصية الناجمة عن ذاتية التلقي، وعن التجربة التي يعيشها المرء مع كل قراءة، تدفعه إلى توضيح النص وتطويره. ويتكئ الفيلسوف الإسباني في رؤيته تلك على مقولة كانط في كتابه "نقد العقل المحض" من "أنه ليس هناك أي شك في حقيقة أن كل معرفتنا تأتي من الخبرة"، وتالياً فإن "الذاتية هي "مقياس كل الأشياء"، ومن دونها تكون أي معرفة فارغة وبلا جوهر، وفرادة تلك الذاتية كما يراها ليدو تتشكل من العلاقة بين مصطلحي الفيليا واللوغوس المتشابكين ضمن المنظومة اللغوية، الأول الذي يعني العاطفة والصداقة أو الحب، وينبع من كون الإنسان بحاجة دائمة إلى التواصل وهو ما تحققه اللغة، أما الثاني الذي يعني الكلمة أو العقل أو القانون، فيشير إلى مجموعة معقدة من الظواهر والمواقف التي توحد البشر أيضاً من خلال الحوار الذي يتغلَّب على زمن اللغة ويحرر الإنسان من آنيّتها، بحيث تكون اللغة هي الشكل الوحيد للثقافة الذي يُصبح بشكل حقيقي طبيعةً متجذرة في المادة الأنثروبولوجية نفسها التي تتعلق بدراسة الإنسان وأنساقه المعرفية.
أسطورة الحروف
ويشرح "صمت الكتابة" أسطورة "تحوت" مُخترع الحروف العبقري و"تاموس" ملك مصر، ذاك الاختراع الذي جعل الكتابة علاجاً للحفاظ على الحكمة، يصبح فيه زمن البشر أطول وأكثر استقراراً في زمن الكتابة، لكن في الوقت ذاته تكون الكلمات رغم حيويتها صامتة ومُربِكة، خاصةً إن أدَّت إلى إسكات الحوار المحتمل، وهو ما جعل ليدو يقول في تلك الحالة بأن "الكتابة هي النسيان، نسيان أصلها، والإيقاعات الملموسة في ذلك الوقت الذي وُلِدَت فيه، وقبل كل شيء، الكتابة هي سبب النسيان". لكن عندما تبدأ اللغة بتحرير نفسها من الارتباطات المباشرة واستخدامات الحياة اليومية، فإنها تصل إلى وجهات نظر جديدة، تنبثق من المشكلات التي تنشأ من الحاجة إلى فهم العالم واستيعابه، وهو ما يجعلها مادة خاصة للدراسة بعيداً عن آنيتها، وتصبح حينها نصاً خاضعاً للفلسفة وتعيش وفق طريقتها الخاصة بالوجود، ولا سيما أن التجربة الفلسفية كانت دائماً تجربة من خلال اللغة.
يقول ييدو: "إن تجربة اللغة هي تجربتنا الثقافية الأولى، والخطاب الأسطوري وُلِدَ على تلك الحدود حيث كانت اللغة ستخلق الثقافة، ليتم التغلب عليها، كي تصبح المستقبل، لتبدأ في التدفق على طول قناة زمنية حيث سيؤسس شكلاً آخر من اللغة، ولأن الخطاب الأسطوري لم يستجب، كانت المهمة التأويلية الأولى هي البحث عن رد على حالات الصمت هذه. ولا سيما أن القول هو القولُ المسبق، والتفكير هو البحث عن إجابة لم تُقل بعد، كما أن التجربة التاريخية لا تقتصر على تحليل ما يقوله النص فحسب، بل تتمثل أيضاً في اكتشاف ما يُخفيه النص، ومن هنا فإن التاريخ كله هو تاريخ معاصر، لأنه يحول الماضي إلى تجربة، وزمن الكلمات إلى زمن نبضات القلب، أي إلى زمن الحياة".
هنا يؤكد الفيلسوف الإسباني أهمية الذاكرة باعتبارها الإمكانية الوحيدة للاستمرارية، والكتابة هي الوسيلة الأقوى لاستحضارها، مع التأكيد أن الكتابة هي مساحة مظلمة للكلمات من دون الضوء الذي يمنحها إياه القارئ، وفي هذا السياق يأتي دور التفسير والفهم بغية الوصول إلى التشبع الكامل للمعنى، بوصفه سمة أساسية لعملية الثقافة نفسها.
الذكاء النَّصّي
ويتطرق ييدو إلى نظرية التلقي حيث تكتسب اللغة المكتوبة استقلالاً غريباً عن مؤلفها، إذ إن النص الذي يتحدث في حاضر كل قارئ يحتاج، بحكم بُعده عن مؤلفه وزمنه، إلى أن يعيش كلياً في ذهن الشخص الذي يشكل لغةً من أجله. وهو ما يعني أن القارئ بالضرورة هو المؤلِّف أيضاً. فالنص يكمن في القارئ، وتتكون عملية الاستيعاب من التوتر والقلق لجعل النص نصاً خاصاً بنا. وإن التحديد الذي يتضمن دمج لغة أخرى في لغتنا هو أساس الذكاء النصي. لأنه وإن كان النص المكتوب في الواقع حاضراً مادياً مثل ذلك المحاور الحي الذي يتحدث إلينا، فإن حضوره لم يكن سوى حضور غياب، وانعكاس لواقع، صدى صوتٍ ضائع عبر الحروف فحافظ على جزء من معناه وأنفاسه.
يقول ييدو: "الكتابة هي شكل غريب من الزمانية. وفي ظل نظرية رولان بارت عن "موت المؤلف" يبقى النص هو الإمكانية الوحيدة للتجربة، وتصبح الكتابة هي المادة الوحيدة التي يمكن من خلالها محاولة إعادة بناء المعنى، وذلك كما عبّر نورثروب: يُقال إن الكتب هي نوع من النزهة الذي يجلب إلى المؤلِّف الكلمات ويجلب إليها القارئ المعنى".
من هذه الزاوية يؤكد الفيلسوف الإسباني بأن القراءة هي ممارسة، وطريقة للإدراك والعيش، وطريقة للوجود، فمن خلال التجربة التي تفتحها الكتابة، يمكن سماع أصوات أخرى غير أصوات كل حاضر، رغم أن الكتابة التي تمكنت من توحيد الزمن تمثل صعوبة لا يمكن التغلب عليها. حيث إن "أمان الحرف هو أمان مخادع". فالذاكرة لا تتشكل في موضوعية الكتابة، بل في ذاتية الوعي، ومن خلال الحوار مع أنفسنا الذي هو بالنسبة لأفلاطون فكرٌ يُظهر شكلاً أكثر استقراراً من شكل الحرف، فالتفكير ليس قراءة الحروف، بل هو إثارة خطاب داخلي تنعكس فيه استمرارية الوعي كذاكرة، مع أن كل كتابة تحتاج لكي تكون ذاكرة إلى حوار سابق آخر يتشكل فيه القارئ. وهكذا يتحول وعي القارئ إلى مؤلِّف يكتب نفسه بتجربة الآخر.
المصير الغامض للكتابة
يوضح الكتاب أن هذا هو المصير الغامض للكتابة التي كما اكتشف أفلاطون بدقة، هي الصمت والصوت. الصمت لأنه لا يوجد خلفية للكلمات نفسها. إن علاماتها ليست شيئاً، بل مجرد احتمال لأنطولوجيا تكمن في جانب آخر، ولا يُعاد بناؤها إلا عندما يتمكن شخص ما، في زمانه الخاص، من قراءتها.
وبناءً على ذلك فإن ييدو يرى أن نظرية التفسير بأكملها تكمن، في صمت النص وعزلته، الذي ينتهي سياقه الحقيقي عندما ينتهي السطر الأخير الذي يؤلفه. وكل ما عدا ذلك هو الحوار الذي يقيمه القارئ مع النص نفسه، من منظور ذاكرة أخرى تختلف عن تلك التي تُقدَّم كتابياً. وهذا السبب في أن النص لا يُفكِّر. فتفكيره هو مظهر نقي، ومع ذلك فإن هذا المظهر ثابت بما يكفي ليلعب دور الصوت الناطق. في ذلك الحضور القاطع الذي يستطيع أن يحرك شفاه القارئ، ويحول ما هو مكتوب إلى صوت، يتم التغلب من خلاله على ذلك الصمت الأصلي الذي يحيط بكل كتابة. ومن دون حضور القارئ لن تخرج الكتابة من صمتها أبداً.