في عصر المنصات.. هل تفقد السينما المصرية عرشها؟

في ظل تنافس محموم على نسب المشاهدات، هل تقضي المنصات الرقمية على عصر الشاشات، ولماذا تتأثر صناعة السينما المصرية بهذه المنصات؟

على مدار قرن من الزمان، شكّلت مصر ركيزة أساسية في صناعة الترفيه العربي، حتى لقبت السينما المصرية بـ"هوليوود الشرق" لدورها الريادي في تشكيل الوجدان الجمعي العربي من خلال رسائلها المؤثرة وأعمالها المتنوعة. إلا أن هذه الصناعة العريقة تواجه اليوم تحديات غير مسبوقة، مع صعود منصات البث الرقمي مثل "نتفليكس"، و"شاهد"، و"واتش إت"، و"أمازون برايم"، و"ديزني+"، إلى جانب التحولات الجذرية التي تقودها السعودية ضمن ما يُعرف بصناعة الترفيه الجديدة.

في عام 2024، تم إنتاج نحو 43 فيلماً مصرياً متنوعاً، بفضل دعم السوق السعودي الذي أسهم في إنقاذ شركات إنتاج مصرية كانت تعاني من التعثّر، وأعاد إحياء أسماء عدد من النجوم والمخرجين، كما فتح المجال أمام شركات سينمائية مهمشة. 

غير أن النقاد يرون أن هذا الزخم الإنتاجي لا يعكس بالضرورة حالة ازدهار حقيقية في الصناعة، إذ لم يُعالج التحديات البنيوية القائمة، وعلى رأسها ضعف البنية التحتية وتراجع إقبال الجمهور المصري على دور العرض.

الصراع على المشاهدات

  • إياد نصار وريهام عبد الغفور في لقطة من مسلسل
    إياد نصار وريهام عبد الغفور في لقطة من مسلسل "وش وضهر" من إنتاج "شاهد"

بدأ التنافس بين دول الخليج العربي ومصر في صناعة السينما منذ ثمانينات القرن الماضي مع ظهور ما عُرف بـ"سينما المقاولات"، وبلغ هذا التنافس ذروته مع جائحة "كورونا" عام 2020، حيث أسهم ارتفاع أسعار النفط في دول الخليج، خصوصاً السعودية، في فتح المجال أمام استثمارات ضخمة في الدراما المصرية، تمثلت في شراء الأفلام والمسلسلات لعرضها على القنوات الخليجية.

ومع إطلاق السعودية لمنصة "شاهد"، وصل حجم تمويلها للفن المصري خلال عام 2023 إلى نحو 4 مليارات جنيه مصري (ما يعادل 500 مليون دولار)، بحسب بيانات رسمية. وسعت الرياض من خلال هذه الاستثمارات إلى استقطاب النجوم والمواهب والكوادر الإنتاجية المصرية الباحثة عن بيئة عمل أكثر استقراراً. في المقابل، ظل السوق السينمائي المصري يعاني من هيمنة الدولة، وتراجع البنية التحتية، وانهيار السوق المحلي.

هذا التحول أفسح المجال أمام المنصات الرقمية للتوغل في مساحات الإنتاج السينمائي والدرامي التقليدي، حيث باتت تنتج أعمالها الخاصة وتعيد تشكيل المشهد الفني. 

ومع ذلك، يشير الناقد الفني المصري، محمد عبد الرحمن، في حديثه لـ"الميادين الثقافية"، إلى أن جمهور السينما لا يزال متمسكاً بتجربة الحضور في قاعات العرض، مؤكداً أن المنصات الرقمية قد تكون مفيدة في توسيع نطاق التوزيع، من خلال عرض الأفلام للمشتركين خارج مصر بالتزامن مع عرضها المحلي، لكنها لا تشكل بديلاً كاملاً عن دور السينما.

ذلك أن أجواء العرض السينمائي، كما يرى عبد الرحمن، لا تزال تقليداً محبباً للجمهور، يصعب الاستغناء عنه لمصلحة المتابعة الفردية عبر الشاشات الصغيرة.

السينما والمنصات.. منافسة أم تكامل؟

  • "الطقس السينمائي" لا يمكن تعويضه لأن من اعتاد مشاهدة الأفلام داخل صالة العرض لن يستبدل تلك التجربة بالمتابعة المنزلية

في مشهد يختلف جذرياً عن العصر الذهبي للسينما المصرية في خمسينات وستينات القرن العشرين، تراجع عدد دور العرض من 359 داراً عام 1958 إلى 53 فقط بحلول عام 2020، نتيجة عوامل اقتصادية وسياسية. 

وخلال جائحة "كورونا"، استغلت المنصات الرقمية إغلاق هذه الدور، لتتحول إلى نافذة بديلة لعرض الأفلام، بل شكّلت فرصة لصنّاع السينما لإطلاق أعمالهم. وكان النجاح اللافت لفيلم "صاحب المقام" على منصة "شاهد"، وتجاوزه 20 مليون مشاهدة خلال 3 أيام، نقطة تحوّل في تصدّر المنصات الرقمية للمشهد السينمائي.

في السياق نفسه، عززت المنصات العالمية حضورها بقوة. فقد استثمرت "نتفليكس" نحو 17 مليار دولار في عام 2024، بينما أنفقت "ديزني+" قرابة 10 مليارات دولار، وفقاً لمجلة "فوربس". كما دخلت "أمازون برايم" مجال إنتاج الأفلام العربية، وحققت أعمال "HBO" رواجاً متزايداً، ما ضاعف التحديات أمام صُنّاع السينما المصرية وقلّص من احتكار شركة "إيجل كابيتال"، المملوكة للدولة المصرية، والتي كانت قد أنتجت نحو 100 مسلسل بين 2016 و2023، و20 فيلماً منذ عام 2018.

محلياً، أطلقت مصر منصة "واتش إت"، التي حققت أكثر من 1.2 مليار مشاهدة على "تيك توك" خلال شهر آذار/مارس الماضي بعد عرض دراما رمضان. ورغم هذا الحضور الرقمي القوي، سجلت السينما المصرية التقليدية تراجعاً ملحوظاً. إذ بلغت إيرادات شبّاك التذاكر في 2024 نحو 1.2 مليار جنيه (قرابة 25 مليون دولار)، مقارنة بـ1.8 مليار جنيه (30 مليون دولار) في عام 2022، بحسب تقرير "السينما اليوم". 

ويرى محللون أن السبب يعود إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج، الناتج عن انخفاض قيمة الجنيه المصري، إضافة إلى ميل الجمهور نحو المنصات الرقمية التي توفر محتوى متنوعاً بتكلفة أقل من تذكرة السينما، التي تراوح بين 100 و150 جنيهاً (نحو 3 دولارات).

ويعتقد الناقد السينمائي المصري، طارق الشناوي، في حديث مع "الميادين الثقافية"، أن المنصات الرقمية "أثبتت جدواها كوسيلة عرض وتوزيع"، مشبهاً إياها بما كانت عليه "أفلام الفيديو" في الثمانينات، والتي عُرفت حينها بــ "أفلام المقاولات". 

ومع ذلك، يشدّد الشناوي على أن "الطقس السينمائي" لا يمكن تعويضه؛ فمَن اعتاد على مشاهدة الأفلام داخل صالة العرض لن يستبدل تلك التجربة بالمتابعة المنزلية.

في هذا الإطار، كان لجوء المخرج محمد العدل إلى منصة "شاهد" لعرض فيلمه "صاحب المقام" خطوة غير مسبوقة في تاريخ السينما المصرية. 

ويرى العدل، في حديثه لـ"الميادين الثقافية"، أن المنصات الرقمية ستلعب دوراً حاسماً في دعم السينما المصرية والعربية من خلال تحفيز الإنتاج السنوي. لكنه يستدرك بالقول: "لو تُرجمت مشاهدات فيلم (صاحب المقام) البالغة 20 مليون إلى إيرادات سينمائية، لكانت رقماً تاريخياً على شباك التذاكر".

وهكذا، يتضح أن المنصات الرقمية، رغم أنها لا تشكل بديلاً كاملاً لدور العرض، باتت تلعب دوراً متنامياً في إعادة تشكيل الصناعة السينمائية، من خلال فتح أسواق جديدة ودعم الإنتاج في مواجهة التحديات الاقتصادية والتكنولوجية.

صراع المنصات يصل إلى الدراما

  • مع تراجع مكانة السينما لصالح المنصات الحديثة شهدت الدراما التلفزيونية المصرية أيضاً تراجعاً ملحوظاً
    مع تراجع مكانة السينما لمصلحة المنصات الحديثة شهدت الدراما التلفزيونية المصرية أيضاً تراجعاً ملحوظاً

بخلاف تراجع مكانة السينما لصالح المنصات ووسائط العرض الحديثة، شهدت الدراما التلفزيونية المصرية أيضاً تراجعاً ملحوظاً. ففي عام 2024 وموسم رمضان 2025، احتدمت المنافسة بين وسائط رئيسية على "كعكة" المشاهدات: التلفزيون التقليدي، والمنصات الرقمية مثل "واتش إت" المصرية، و"شاهد" السعودية، و"نتفليكس" العالمية. 

وقد بلغ إجمالي عدد المشاهدين لهذه المنصات مجتمعة نحو 41 مليون مشاهد، بينما تجاوز عدد مشتركي "نتفليكس" عالمياً 200 مليون مستخدم للمرة الأولى، ووصل عدد مستخدمي "شاهد" و"شاهد بلس" إلى نحو 27 مليون مشترك.

ومع صعود نجم المنصات الرقمية، وإطلاق المزيد منها مثل "فيو"، و"يانغو بلاي"، و"TOD"، بدأت الأعمال الدرامية المصرية والعربية تتجه نحو نمط جديد من الإنتاج يعتمد على المسلسلات القصيرة، التي تراوح بين 5 و10 حلقات، من دون التقيد بالمواسم التقليدية، ما أتاح مرونة أكبر في الطرح وجذب جمهور متنوع.

في هذا الإطار، يرى الناقد الفني المصري، محمد عبد الخالق، أن تعدد المنصات "يُعد ظاهرة إيجابية تسهم في كسر الاحتكار، وتفتح المجال أمام محتوى أكثر تنوعاً وجودة، فضلاً عن تحقيق انتشار أوسع للأعمال الدرامية على مستوى العالم العربي". 

في المقابل، تؤكد الناقدة المصرية، فايزة هنداوي، أن "تحوّل الجمهور إلى المنصات الرقمية كمصدر رئيسي للمشاهدة هو أمر طبيعي، ويتماشى مع الزيادة المستمرة في حجم الجمهور الرقمي".

تحولات الدراما تؤثر على السينما

  • باتت المسلسلات القصيرة بميزانياتها المحدودة خياراً أكثر جذباً للمنتجين
    باتت المسلسلات القصيرة بميزانياتها المحدودة خياراً أكثر جذباً للمنتجين

قد يشكّل انتقاد الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في آذار/مارس الماضي، لمحتوى الدراما المصرية - حين وصفها بأنها "كانت صناعة وأصبحت تجارة، ولا بد من مراجعة محتواها"- انعكاساً لتوجهات الرأي العام، ونقطة انطلاق للمنصات الرقمية لتعزيز إنتاج المسلسلات القصيرة، على غرار ما تقوم به منصات عالمية مثل "نتفليكس" و"أمازون" مؤخراً.

هذا التحول نحو الدراما القصيرة لا يقتصر تأثيره على القطاع التلفزيوني فحسب، بل يمتد أيضاً إلى الإنتاج السينمائي، وفق ما يوضحه الناقد الفني المصري، أحمد النجار. 

ويرى النجار أن المنتجين باتوا يفضّلون استثمارات أقل مخاطرة، ما يجعل المسلسلات القصيرة، بميزانياتها المحدودة، خياراً أكثر جذباً من الأفلام ذات الكلفة المرتفعة، مشيراً إلى أعمال مثل "أبناء الشمس" و"لام شمسية"، التي اقتصرت على 15 حلقة وحققت نسب مشاهدة مرتفعة، كمثال على نجاح هذا التوجّه.

ويضيف النجار، في حديثه لـ"الميادين الثقافية"، أن للمنصات الرقمية دوراً محورياً في تطور صناعة الدراما، قد يفوق أثرها في السينما، مشيراً إلى أن هذه المنصات بدأت، فور انتهاء موسم دراما رمضان، بطرح أعمال جديدة مثل مسلسل "آسر" من بطولة باسل خياط وريم خوري، ومسلسل "220 يوم" المرتقب عرضه خلال شهر حزيران/يونيو الجاري على منصة "شاهد"، بمشاركة كريم فهمي، صبا مبارك، ونخبة من النجوم.

اخترنا لك