فصول من تاريخ جبل حوران: ذاكرة البشر والحجر

كتاب "فصول من تاريخ جبل حوران" هو وثيقة مميّزة لمنطقة جغرافية صغيرة بمساحتها ضمن سوريا، لكنها كبيرة بتاريخها ورمزيّتها، وخصوصيّتها في العمارة والفنون والعيش المشترك والصمود.

  • فصول من تاريخ جبل حوران: ذاكرة البشر والحجر
    فصول من تاريخ جبل حوران: ذاكرة البشر والحجر

يمثّل جبل حوران واحداً من أبرز المعالم الجغرافية والتاريخية في جنوب سوريا، ليس لوعورته وامتداده المكاني فحسب، بل لأنه كان عبر العصور ملتقى طرق ومركز حضارات متعاقبة. وفي كتاب "فصول من تاريخ جبل حوران" الصادر عن مركز سميح للتنمية والثقافة والفنون ونشرته دار دلمون الجديدة نقترب من صورة الجبل كما يعرضها خمسة باحثين هم: د. فندي جدعان أبو فخر، د. نايف حسين شقير، أ. كمال الشوفاني، د. رحاب صافي، و د. نشأت كيوان، ليكون رحلة بين البحث الأكاديمي والروح السردية التي تمكّن القارئ من الغوص في طبقات الزمن، من عصور ما قبل التاريخ إلى العصور الإسلامية المتأخّرة فالزمن الحالي، علماً أنّ الكتاب لا يقدّم تأريخاً مجرّداً، بل يروي حكاية مكان تحوّل إلى ذاكرة حيّة تختزن قصص الإنسان والمجتمع والسلطة والدين، ليتحوّل الجبل إلى بنية عميقة تتجاوز كونها مجرّد تضاريس طبيعية، بل فضاء للتاريخ والهويات المتعدّدة.

خصوصية حضارية

د. رحاب صافي في دراستها التاريخية تؤكّد الخصوصية الحضارية لمنطقة جبل حوران ذات الموقع الجغرافي المميّز، الذي مكّنها من القيام بدور الجسر، وحلقة الوصل بين مختلف أرجاء بلاد الشام، إلى جانب الوجود البشري الغني والفاعل الذي جعل من تلك المنطقة من أهمّ المراكز الحضارية الباكرة التي تعود كما تشير المسوحات الأثرية إلى نحو 40 ألف سنة قبل الميلاد، وتميّزت عبر الزمن بزراعتها وتجارتها وفنونها الرائعة التي طوَّعت الحجر البازلتي الصلب، وهو ما تشهد له الأوابد الأثرية والمنحوتات وأشكال العمران وزخرفاته وعبقرية مهندسيه وأفكار مبدعيه التي تدلّ عليها النقوش والفسيفساء المنتشرة في عشرات المواقع على طول الجبل وعرضه، كما في سوادا (السويداء)، وكناثا (قنوات)، وسيا (سيع)، وفيليبوبوليس (شهبا)، وصرخد (صلخد)، واللجاة، وغيرها. 

سعت صافي إلى الإضاءة على ما تمّ تجاهله من تاريخ الجبل، فإلى جانب تحليلها للحقبة الرومانية والبيزنطية التي أُشْبِعَت دراسةً وتمحيصاً بفعل بروز الحضارة الأوروبية الغربية، ركَّزت الباحثة على الحقبة النبطية بمميزاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقضائية والإدارية، بحيث أعطت للدور الحضاري العربي مكانته الطبيعية في تكوين خصوصية الجبل الذي استطاع سكّانه ـــــ كما أوضحت صافي ـــــ أن يَعوا حركة الزمن وهو ما أدى تالياً إلى وعي المكان والبيئة المحيطة، وعمل على تكوين مجتمع حيوي متجدّد قائم على الانفتاح والتفاعل والتسامح، أوصل إلى تراكم المنجز الحضاري المديني عبر سنين مديدة. 

موروث ثقافي

الدكتور نشأت كيوان استفاض بدراسة العمارة والفنون والديانات في جبل حوران، مبيّناً أنه من أقدم المعابد الوثنية إلى الكنائس البيزنطية وصولاً إلى المساجد الإسلامية، ظلّ تجاور العقائد سمةً مميّزة، إضافة إلى أنّ تنوّع الأبنية الدينية في حوران لم يعكس فقط تبدّل الأديان، بل أيضاً مرونة المجتمع في التفاعل مع القيم الجديدة من دون أن يفقد جذوره. هذا البعد الروحي جعل من الجبل منطقة ذات خصوصية، إذ كان في أحيان كثيرة ملجأً للمضطهدين دينياً أو سياسياً، مما أكسبه سمعة الحرية والكرامة.

وفي بحث كيوان تفاصيل كثيرة تخصّ العمارة السكنية وتقنياتها في جبل حوران منذ أوائل الاستيطان فيه وحتى القرن العشرين، وما أضفته عمارة المعابد والمنحوتات وتمثيلات الآلهة منذ العصور الكلاسيكية التي ما زالت محتفظة بألقها في المتاحف من بُعدٍ فريد، إلى جانب فنون المنطقة من نحت وفسيفساء ومسكوكات وكتابات قديمة... قدَّمت بحسب الباحث صورة جيدة عن الموروث الحضاري والثقافي الذي صنعه وتركه أبناء المنطقة ومن ضمنه الجانب الديني والطقوس والعبادات التي انتشرت فيها. 

واستكمالاً لتلك الصورة يفنّد الدكتور نشأت أصحاب المهن في حوران خلال العصر الروماني الذي يتضمّن العصر النبطي، وتأثير الثقافات التي انتشرت حينها وأفرزت عدداً من طبقات المجتمع التي تكرّم الناس تبعاً لمِهَنِهِم، ومن تلك المهن: الكاهن وتعدّ ذات أصول شرقية متوارثة، ومهنة الكاتب التي كرَّمها الأنباط وكانوا يضعون بعض الكُتَّاب بمرتبة الربوبية، إضافة إلى مهنة خادم الأضاحي وصانع الفخّار وبذّار الحبوب وصانع الخرز...، وكلّها كانت جزءاً من النسيج الاجتماعي في حوران ومن ثقافة المنطقة، وقد كُرِّم أصحابها بإقامة تماثيل لهم وتقديم النذور لها. 

قهر وعذاب

من جهته يتحدّث الدكتور فندي أبو فخر عن مئتي عام من القهر والعذاب التي ذاقها سكان الجبل، مركّزاً على الناس البسطاء أصحاب الدور الفاعل الأساسي في تطوّر الأحداث التاريخية، ونضالهم المديد مرةً ضد البرجوازيين مالكي الأرض وكبار موظفي الحكم والحكّام الممسكين بزمام القرار الإداري والسياسي الذين تتعارض مصالحهم مع مصالح القاعدة الشعبية الواسعة المستغَلّة والمسحوقة، ومرةً خلال مواجهتهم الحملات العسكرية التي كانت تقتحم الجبل منذ عام 1837 وحتى عام 1910، ومرةً في مقاومة الخطر الوهّابي بدايات القرن التاسع عشر الذي أحرق محاصيل السكان الزراعية وحاول اقتحام البلدات الجنوبية والسيطرة عليها من دون أن يفلح، وأخرى في مواجهة سلاطين الدولة العثمانية وقراراتهم الجائرة من ضرائب باهظة وتدخّل إداري وتجنيد إلزامي وما إلى هنالك، في محاولة منهم لإخضاع سكان الجبل وإجبار المقهورين على ابتلاع قهرهم. لكن رغم كلّ ذلك احتفظ الجبل بدوره النضالي والوطني والاقتصادي، إذ بقي مسرحاً لحركات التمرّد ضدّ العثمانيين، ما يعكس روح الاستقلالية المتجذّرة في أهله، وهو ما أجبر السلاطين على اتباع سياسة اللين، وإصدار مراسيم العفو المتكرّرة، وتبديل الولاة في سوريا وقوّاد الجيش، في محاولة لتهدئة الأوضاع من دون أن يفلحوا في تخفيف حدّة المقاومة الشعبية. 

أنماط ثقافية 

الأستاذ كمال الشوفاني خصص دراسته لكتابات الرحّالة الغربيين عن جبل حوران في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، لما فيها من معرفة واسعة عن عادات شعب حوران وأنماط ثقافتهم ومعيشتهم، إضافة إلى اللغة الإنسانية المتغلغلة فيما كتبوه، والتي لا نستطيع تلمُّسها في الكتابات التاريخية التقليدية، فضلاً عن التنوّع الناجم عن اختلاف اهتمامات أولئك الرحّالة، ومنهم القسّ الإسكتلندي وليم إوينغ الذي رافق جيش بلده في الحروب، وزار جبل العرب أثناء خدمته في فلسطين ونشر كتابه "بدو ودروز في أوطانهم" عام 1907، وعالم الآثار الألماني ماكس فرايهر فون أوبنهايم الذي لفتته أحجار بنيت بها ثكنة عسكرية تركية ليكتشف أنها مأخوذة من أنقاض حصن أثري ويبدأ رحلة بحثه وتنقيبه، وهناك الرحّالة البريطاني ألجيرنون هيبر بيرسي المستكشف الذي زار الجبل برفقة أسرته، والمصوّر الألماني هيرمان بورشارت الذي وثّق زيارته بكاميرته وباتت صوره مادة دسمة استفاد منها كثير من الباحثين وعلماء الآثار في كتبهم وتقاريرهم، والرحّالة الإنكليزية غيرترود بل الشابة العاشقة للشرق والتي تحوّلت إلى دبلوماسية وسياسية تشارك في رسم خرائط المنطقة في ظلّ الاستعمار الجديد، حتى أنها اكتسبت صفة "سكرتيرة الشرق" بعدما أوكلت إليها وظيفة رسمية من قبل المفوّض البريطاني بيرسي كوكس، كما أنها شاركت عام 1921 في مؤتمر القاهرة الذي تمخّض عنه إنشاء مملكتين هاشميتين في كل من شرق الأردن والعراق، فسعى لورنس لإنشاء المملكة في شرق الأردن يكون على رأسها عبد الله بن الحسين، بينما كانت "بل" موكلة بتقديم الدعم لشقيقه فيصل لاعتلاء عرش العراق. 

أعلام التنوير

يختتم الدكتور نايف حسين شقير الكِتاب ببحث عن أعلام النهضة والتنوير من الذين حملوا همّ النهوض بالمجتمع وإصلاحه، واختار ست شخصيات رائدة كان لها الأثر البارز في الحياة السياسية والفكرية والثقافية والأدبية والاجتماعية في جبل العرب على امتداد القرن العشرين، هم شكيب أرسلان، الشيخ حسين صالح طربيه، عارف النكدي، سلامة عبيد، عيسى عصفور، سعيد أبو الحسن، وأكثر ما يجمعهم بحسب شقير هو محبتهم وإخلاصهم للجنوب السوري ومعاناة أهله، حتى أنّ بعضهم تحوّلوا إلى رموز وملهمين للثورة على المستعمر الأجنبي والاستبداد السياسي والاجتماعي. 

وبنظرة ختامية على كتاب "فصول من تاريخ جبل حوران" نستطيع القول إنه وثيقة مميّزة لمنطقة جغرافية صغيرة بمساحتها ضمن سوريا، لكنها كبيرة بتاريخها ورمزيّتها، وخصوصيّتها في العمارة والفنون والعيش المشترك والصمود، ما يجعلها نصّاً مفتوحاً تتجسّد في أَسْطُرِه فكرة أنّ المكان ليس بُعداً مادياً فحسب بل هو ذاكرة وهوية في آن.

اخترنا لك