غرب همجيّ بستار ديمقراطيّ.. كيف ناصر رسّامو الكاريكاتور السوفيات فلسطين؟

كيف وجّه رسامو الكاريكاتور السوفيات ريشتهم إلى الشعب الفلسطيني ضدّ "إسرائيل"؟

أعطت الأحداث الثورية في العقود الأولى من القرن العشرين دفعة قوية لتطوير فن الكاريكاتور السياسي في روسيا، وكانت مجلة "كروكوديل" (التمساح) أهم مطبوعة ساخرة نُشرت فيها الرسوم الكاريكاتورية. وترأّس تحرير هذه المجلة، عند إطلاقها عام 1922، القائد الثوري قنسطنطين ستيبانوفيتش يريمييف (1874-1931)، الذي كان في الوقت عينه نائباً لرئيس مؤسسة النشر الحكومية في جمهورية روسيا السوفياتية. 

بطبيعة الحال، أخذت هذه المطبوعة مسلكاً دعائياً موجهاً داعماً للثورة البلشفية في البداية، ثم تطورت وواكبت جميع المراحل التي مرّ فيها الاتحاد السوفياتي حتى انهياره عام 1991، واستمرت في الصدور على الرغم من تغير الزمن واختفاء الأيديولوجيا، متماشية مع سياسة السوق. 

منتصف القرن الماضي، وبعد مرحلة النهوض من الحرب العالمية الثانية، التي عانتها الشعوب السوفياتية أكثر من غيرها، كان الاتحاد من أوائل الدول التي اعترفت بالكيان الصهيوني، وظهرت تبريرات كثيرة لاعتراف السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفياتي يوسف ستالين بهذا الكيان، وأقيمت العلاقات الدبلوماسية في أيار/مايو عام 1948، أي في شهر النكبة، فور إعلان الصهاينة كيانهم في أرض فلسطين.

إلا أن السوفيات قطعوا العلاقات عام 1953، وأعادوها عام 1956، ثم قطعوها في حزيران/يونيو عام 1967 "بسبب رفض إسرائيل وقف إطلاق النار في الحرب". ولم تُستأنف الاتصالات على المستوى القنصلي إلا في زمن البيريسترويكا، سنة 1987، فتدفقت موجات الهجرة اليهودية من بلدان الاتحاد السوفياتي إلى فلسطين المحتلة. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي استعيدت العلاقات بروسيا الحديثة. 

خلال مرحلة الحرب الباردة، بدءاً من الستينيات، وجّه رسامو الكاريكاتور السوفيات ريشتهم إلى مناصرة الشعوب المقهورة التي كانت لا تزال ترزح تحت نير الاستعمار الغربي، وواجهوا أداة الاستعمار الغربي في المنطقة العربية، أي الصهيونية، كما احتلّ حق الشعب الفلسطيني بوطن مستقل حيزاً من اهتمامهم. 

شكّل كيان الاحتلال نموذجاً فاقعاً لهمجية الغرب المغلفة بستار الديمقراطية والحريات. ومن الشخصيات الكاريكاتورية البارزة آنذاك مجرم الحرب، الذي قاد العصابات الصهيونية وارتكب المجازر بحق المدنيين، ثم بات وزيراً للحرب، موشيه ديان. كانت شخصية ديان مرادفة للتوسع الصهيوني ونهب الأراضي العربية، كما ظهر رسم للفنان الشهير مارك أبراموف (كروكوديل، العدد 21، 1973). 

استمر قضم الأراضي العربية، بعد أن كانت غزة تحت سيطرة المصريين والضفة الغربية تحت سيطرة الأردنيين، فظهر رسم آخر لمارك أبراموف (العدد 28، 1977)، يتناول مسألة التوسع الاستيطاني، ترافقه عبارة توضيحية: "تستولي إسرائيل بشكل غير قانوني على أراضي الشعب العربي". يُذكَر أن تعبيرَي "الأراضي العربية" و"أراضي الشعب العربي" كانا مستخدمين مدة طويلة في الأدبيات السوفياتية للتعبير عن فلسطين المحتلة وجميع الأراضي التي احتلها الصهاينة في البلدان العربية المجاورة لها. 

  • مارك أبراموف (العدد 21، 1973)
    مارك أبراموف (العدد 21، 1973)
  • مارك أبراموف (العدد 28، 1977)
    مارك أبراموف (العدد 28، 1977)

لكن الجيوش العربية هُزمت في حرب الأيام الستة سنة 1967، فتمدد الصهاينة خارج فلسطين واحتلوا مرتفعات الجولان السورية وضمّوها إلى كيانهم بعد نحو ربع قرن على احتلالها، فظهر مناحيم بيغين في كاريكاتور يوري تشيريبانوف (العدد 3، 1982)، وتحته عبارة "لقد ارتكبت حكومة مناحيم بيغن، بضمها مرتفعات الجولان، عملاً عدوانياً جديداً ضد الدول العربية".

  • يوري تشيريبانوف (العدد 3، 1982)
    يوري تشيريبانوف (العدد 3، 1982)

احتل الصهاينة القدس، وأرادوا منذ البداية أن يعترف العالم بالمدينة المقدسة عاصمة لهم، وهو ما سلط عليه الضوء الفنان يفغيني شوكايف (العدد 25، 1967)، مع حوار توضيحي:

"السائح في القدس: أين حائط المبكى؟

- الآن كل جدار هنا هو جدار للبكاء...". 

  • يفغيني شوكايف (العدد 25، 1967)
    يفغيني شوكايف (العدد 25، 1967)

ومن نتائج هزيمة 1967 كذلك احتلال الصهاينة شبه جزيرة سيناء المصرية وضفة قناة السويس، وهو ما أظهره يوري فيدوروف في رسم له (العدد 18، 1967)، وأرفقه بعبارة "العقرب الإسرائيلي في صحراء سيناء". 

كما أن الكيان الصهيوني، بعد اجتياحي 1978 و1982 للبنان ثم بيروت، أقام الشريط الحدودي المحتل في الجنوب اللبناني وسلّمه إلى عملائه، فتناول الفنان أومياروف (العدد 19، 1985) واقع الأراضي اللبنانية المحتلة، مع عبارة "لقد بنيت لهم عشاً مريحاً، لكنهم ما زالوا غير سعداء...".

من الواضح أن رسامي الكاريكاتور أفادوا من انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد السوفياتي والكيان الصهيوني، ومن الحرب الباردة والتوجه السوفياتي العام إلى مناصرة القضايا المحقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. تسنت، في تلك المرحلة، للكتاب والشعراء والفنانين ورسامي الكاريكاتور فرصة لتوضيح الأمور للرأي العام وتبيان حقيقة الصهيونية وبشاعتها وإجرامها طويل الأمد، المدعوم بصورة دائمة من الغرب. 

  • يوري فيدوروف (العدد 18، 1967)
    يوري فيدوروف (العدد 18، 1967)

وبرز من هؤلاء الرسامين مارك أبراموف (1913-1994)، الحائز لقب فنان جمهورية روسيا الاشتراكية السوفياتية (1964)، وفنان الشعب السوفياتي. تخصص بالكاريكاتور السياسي منذ عام 1932، فنشر رسومه في مجلتي "كروكوديل" (التمساح)، و"أوغونيوك" (الشعلة)، وصحيفة "إزفستيا" (الأخبار)، و"ليتيراتورنايا غازيتا" (الجريدة الأدبية)، وغيرها من المطبوعات. كما أنتج ألبومات مصورة خاصة، منها: "إنهم بلا قناع"، "هجاء"، "فضح أعداء العالم"، "أيها المستعمرون اخرجوا"، "كن متأهباً" وغيرها. 

  • أومياروف (العدد 19، 1985)
    أومياروف (العدد 19، 1985)
  • مارك أبراموف (العدد 25، 1979)
    مارك أبراموف (العدد 25، 1979)

فضح أبراموف، عبر الكاريكاتور السياسي، مزاعم "الأرض في مقابل السلام"، بحيث أوضح (العدد 25، 1979) كيف تنوي "إسرائيل إقامة السلام في الأراضي العربية المحتلة"، فرفع شعار "السلام" ما هو سوى لذر الرماد في العيون والاستمرار في المجازر ضد المدنيين والتوسع وقضم ما تبقى من فلسطين. 

  • مارك أبراموف (العدد 20، 1970)
    مارك أبراموف (العدد 20، 1970)
  • مارك أبراموف (محفوظات
    مارك أبراموف (محفوظات "ترامواي الفنون")

كما تسنت لأبراموف الإضاءة على حلم الصهاينة بإقامة "إسرائيل الكبرى" في الأراضي العربية (العدد 20، 1970)، بدعم ومؤازرة من أميركا وفرنسا وبريطانيا وسائر الدول الغربية التي شكلت الاستعمار السابق في الشرق الأوسط. وذيّل الرسم بعبارة "الرهان الخاسر".

من خارج مجلة "كروكوديل"، من الرسوم الأصلية التي يحتفظ بها معرض "ترامواي الفنون" لأبراموف، رسم يُظهر الساحر الأميركي البشع يطير فوق البلاد العربية محمَّلاً بشوال الدولارات المزين بنجمة داود وشعار الدولار، وكُتبت عليه عبارة "الصهيونية العالمية"، ومعه تصير شخصيتان تمثلان "لجنة حماية اليهود" ومشروع "إسرائيل الكبرى". 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.