غازي وزني يروي تجربته"الانهيار المالي في لبنان تجربة –ووقائع"

تعثّر القطاع المالي (مصرف لبنان والقطاع المصرفي) بفعل سوء التوظيفات وسوء الإدارة ما أدى إلى تسجيل القطاع خسائر تفوق 69 مليار دولار كما في آذار/ مارس 2020.

غازي وزني يروي تجربته
غازي وزني يروي تجربته"الانهيار المالي في لبنان تجربة –ووقائع"

انفجرت الأزمة المالية في لبنان في الفصل الأخير من العام 2019، في إثر تعثّر القطاع المصرفي وانفلات سعر صرف الليرة، ومراكمة العجز المالي في لبنان خلال ثلاثة عقود من الزمن أثّرت في المالية العامة والحساب الجاري، ومديونية وصلت إلى مستويات قياسية، فضلاً عن أزمات ركود اقتصادية، وبطالة وهجرة، وصولاً إلى انهيار كامل لشبكة الأمان الاجتماعية. وأمام ذلك، وقفت القوى السياسية عاجزة مرتبكة في مواجهة التطورات المالية والنقدية، وقلقة من الاضطرابات والاحتجاجات في الشارع، وشعرت، وربما للمرة الأولى بالخطر السياسي والأمني والاجتماعي. 

تدوين التجربة 

بعد عشرين شهراً من ممارسة مهامي وزيراً للمال في حكومة الرئيس الدكتور حسان دياب قرّرت تدوين تجربتي كوزير للمالية والإجابة عن أسئلة كثيرة لدى الجمهور والمتخصصين وفي الوقت نفسه مخاطبة الجيل الجديد، وتقديم التجربة في كتاب يتناول الأزمات والحلول،الإنجازات والإخفاقات، التحديات والمعوقات، الإيجابيات والسلبيات، ولماذا هذا الكتاب؟ “الانهيار المالي في لبنان تجربة ووقائع” ما جدواه؟ وما الأهداف المرجوّة منه؟ لماذا الآن؟ ومن هو الجمهور الذي أتوجّه إليه؟ أسئلة كثيرة أحاول الإجابة عنها. 

كانت حكومة الرئيس حسان دياب استثنائية لإيجاد الحلول للأزمة الاقتصادية والمالية والنقدية المتعددة والمتشابكة، التي عدّها البنك الدولي واحدة من أسوأ ثلاث أزمات مالية عالمياً منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، بحسب ما أعلن البنك الدولي. وهي المرة الأولى حيت اتخذ لبنان قرار تعليق دفع ديونه، وللمرة الأولى في تاريخه دخل لبنان في مفاوضات مع برنامج صندوق النقد الدولي، وللمرة الأولى قدّم لبنان خطة تعافٍ اقتصادي ومالي شاملة، سمّيت "خطة لازرد"، وللمرة الأولى وقّع لبنان عقد تدقيق جنائي في حسابات مصرف لبنان. 

من هنا تبرز أهمية سرد تجربتي من خلال موقعي في هذه المرحلة كوزير للمالية، عشرون شهراً كانت حافلة بالأحداث والتطوارت والوقائع ونموذجاً للدراسة يمكن أن تستفيد منها المؤسسات المالية العربية والدولية عبر المقاربات التي طُرحت ومعوّقاتها. لهذه الأسباب وغيرها، كان كتاب "الانهيار المالي في لبنان: تجربة ووقائع". 

تشكيل حكومة دياب البداية

في إثر صدور مراسيم تشكيل الحكومة كان الرفض المطلق لاعتماد مشروع الموازنة الموروث من حكومة سعد الحريري لجملة أسباب أهمها أنها موازنة حسابية رقمية، لا بنود إصلاحية فيها، وغير قادرة على مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والمالية، ونتيجة العجز في الميزان التجاري، ودفع مستحقّات على الدولة بالعملات الأجنبية، بلغت احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية السائلة في شباط/ فبراير 2020، أي عند استلام حكومة د . حسان دياب مهامها، نحو 29.6 مليار دولار ثم انخفض إلى 22 مليار دولار في نهاية شباط/ فبراير 2020 بعد منح مصرف لبنان للقطاع المصرفي في الأشهر الأولى من السنة قروضاً بقيمة 7.5 مليارات دولار لتغطية التزاماتها. 

في هذا الإطار، يمكن التأكيد أن القطاع المصرفي تعرّض في العام 2019 وفق بعض الدراسات الاقتصادية والمالية لثلاثة أنواع من المخاطر الائتمانية الرئيسية: مخاطر البنك المركزي والمخاطر الحكومية ومخاطر القطاع الخاص، فازدادت توظيفات المصارف لدى المصرف المركزي لتصل إلى 80 مليار دولار بالعملة الأجنبية و39 مليار دولار بالليرة اللبنانية، وبلغ حجم القروض للقطاع الخاص 50 مليار دولار. 

"سيدر" الفرصة الأخيرة

منذ بداية العام 2018، (قبل الانهيار) بدأت القوى السياسية تحضّر لمؤتمر دولي لدعم لبنان بعد أن شعرت بخطورة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والتدهور السريع للمالية العامة ولاحتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. فانعقد مؤتمر "سيدر" (CEDRE) في 6 نيسان/ أبريل 2018 في باريس بمبادرة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وبمشاركة أكثر من أربعين دولة وعشر منظّمات دولية لدعم الاستقرار السياسي والاقتصادي في لبنان ومساعدته على استضافة 1.5 مليون نازح سوري، وتعزيز الاستثمارات في البنية التحتية المتردّية، واستحداث فرص عمل لآلاف الأشخاص وإطلاق مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص. 

اشترط المجتمع الدولي لدعم لبنان أن ينفّذ إصلاحات بنيوية تهدف إلى خفض العجز في المالية العامة إلى 5% من الناتج المحلي، وذلك من خلال زيادة الإيرادات العامّة بتحسين الجباية وإعادة فرض رسوم على المحروقات وزيادة الإيرادات الضريبية، وإصلاح القطاع العام ونظام التقاعد ونهاية الخدمة. كما اشترط عليه القيام بإصلاحات قطاعية للكهرباء والمياه والنقل والنفايات، ومكافحة الفساد وتطبيق الشفافية في إدارة المناقصات وتطبيق الحوكمة الرشيدة. 

وفي 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، قدّم رئيس الحكومة سعد الحريري بشكل مفاجئ استقالته، ودخلت البلاد في أزمة سياسية بالإضافة إلى أزمتها الاقتصادية. وأعتقد أنّ الرئيس سعد الحريري أراد الانسحاب من السلطة بعدما رأى فعلاً أنّ الانهيار واقع لا محالة، وأن الاستحقاقات الآتية كبيرة جداً وقد تؤدي إلى اتخاذ  قرارات مؤلمة وغير شعبية. ولا شكّ في أنّ مستشاريه نصحوه بما يشي بذلك أيضاً. زد على ذلك توصّله إلى قناعة باستحالة المضي في خيار الحكومة السياسية في ضوء تجربة ثلاث سنوات لم تكن مشجّعة للجميع،وصعوبة تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسته لن يقبل بها الرئيس عون وباسيل والثنائي. 

فقدان الثقة بالمصارف 

إن الأزمة المصرفية والنقدية التي واجهناها في تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر 2019، تجلّت بظهور تدهور في سعر صرف الليرة مقابل الدولار. وأصبح مصرف لبنان غير قادر على حماية العملة الوطنية، بالإضافة إلى فقدان المودعين الثقة بالمصارف فتهافتوا لسحب أموالهم أو تحويلها إلى الخارج، لكن الأمور تغيّرت لاحقاً، تحت وطأة الرأي العام وتطوّر الأحداث وضغوط بعض القوى السياسية، وتحوّل رأي رئيس الحكومة د. حسان دياب من معارض إلى مؤيّد لتعليق دفع "اليوروبوند" (أي التخلّف عن السداد)، وجاء هذا التحوّل تحت تأثير سلسلة لقاءات عقدها مع مستشاريه الاقتصاديين والقانونيين، والذين شرحوا له مخاطر الأوضاع الاقتصادية والمالية وصعوبتها، وقدّموا له بياناً عن الاستحقاقات المالية التي ستواجه لبنان في الأشهر المقبلة. وهكذا وجد رئيس الحكومة نفسه أمام ثلاثة خيارات: 

الأول، الدفع الذي سيؤدي إلى تبديد مبالغ من احتياط مصرف لبنان بالعملات الأجنبية.

الثاني، عدم الدفع ما يعني التخلّف عن السداد. والثالث، تعليق الدفع وإعادة هيكلة الدين. فاختار رئيس الحكومة تعليق الدفع لأسباب سياسية ومالية ليست ببعيدة عن ضغط السياسيين، وجماعة الانتفاضة والتحرّكات في الشارع، والتظاهرات الشعبية، وخبراء، ونواب واقتصاديين، ووسائل إعلام... ومعظم هؤلاء طالبوا الحكومة بعدم الدفع. 

بعد طرح رئيس الحكومة خيار تعليق دفع سندات "اليوروبوند"، بدأت الحكومة اتصالاتها السياسية والنقابية والاجتماعية، وعقدت عشرات الاجتماعات مع الجهات المالية والاقتصادية لشرح خيارها وتأمين الدعم له، ولا سيما أنه خيار تاريخي يحدّد مصير البلاد اقتصادياً ومالياً في السنوات المقبلة، ويحتاج إلى توافق وطني واسع. 

وفي هذا الإطار المحموم والمشحون، عُقد في 13 شباط/ فبراير 2020 أول اجتماع مالي في بعبدا برئاسة الرئيس ميشال عون، وحضور الرئيسين نبيه بري ود. حسان دياب، وحضور وزير المال، بالإضافة إلى كلّ من وزير الاقتصاد، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ورئيس جمعية المصارف سليم صفير، وخُصص هذا الاجتماع للبحث في الأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية. ومن ضمن الموضوعات التي بُحثَتْ: استحقاق "اليوروبوند"والخيار الذي يمكن اللجوء إليه، فضلاً عن دراسة خيار طلب مساعدة صندوق النقد الدولي. 

وفي هذا الإطار، يجدر لفت الانتباه إلى أنه في خلال مفاوضات الحكومة مع الدائنين ربط بعضهم المفاوضات بخطة التعافي المالي، والدخول في برنامج مع صندوق النقد الدولي، وربط بعضهم الآخر المفاوضات بدفع الدولة استحقاق "اليوروبوند" للعام 2020. 

أزمة القطاع المصرفي وأموال المودعين 

- فقد القطاع المصرفي ثقة المودعين والمستثمرين بفعل القرارات العشوائية التي مارسها منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، ولا سيما عندما قرّر تحديد السحوبات ووقف التحويلات إلى الخارج باستنسابية وإلغاء البطاقات الائتمانية وتجميد العمليات التجارية. وتفاقمت اللاثقة بعد أن خفضت وكالات التصنيف الدولية التصنيف الائتماني لعدد من المصارف اللبنانية الكبيرة؛ بيبلوس، بلوم عودة إلى C. إضافة إلى تدهور سعر صرف الليرة وخروجه عن السيطرة ابتداءً من أيلول/ سبتمبر 2019 بفعل تراجع قدرات مصرف لبنان على الاستمرار في حماية الاستقرار النقدي، فعاد بقوة ظهور سوق صرف موازية للدولار. وبين أيلول/ سبتمبر 2019 وشباط/ فبراير 2020 تراجع سعر صرف الليرة مقابل الدولار أكثر من 73%، من 1507 ليرة إلى 2600 ليرة.

- تعثّر القطاع المالي (مصرف لبنان والقطاع المصرفي) بفعل سوء التوظيفات وسوء الإدارة ما أدى إلى تسجيل القطاع خسائر تفوق 69 مليار دولار كما في آذار/ مارس 2020، وبدا جلياً أنّ الأزمة التي تطال القطاع المالي هي أزمة ملاءة  وسيولة معاً.

 - بات الدين العام غير مستدام، إذ بلغ 91 مليار دولار في نهاية العام 2019 . 
- كذلك أجهضت بعض القوى السياسية ومصرف لبنان والمصارف خطة الحكومة للتعافي المالي. فتوقّف عملياً التفاوض مع الدائنين، وتعذّر تطبيق إعادة هيكلة الدين المنظّمة. ويكشف المؤلف الوزير غازي وزني أنه سوف يأتي في هذا الكتاب على ذكر تفاصيل تلك الجهود المعادية للحكومة وخططها بالتفصيل تحت عناوين وفصول مختلفة.

 في 30 نيسان/ أبريل 2020، أقرّت الحكومة خطة التعافي المالي الشاملة لمدة خمس سنوات (2020 – 2024)، لمواجهة أزمات متعددة اقتصادية ومالية ونقدية واجتماعية غير مسبوقة. واعتبر المؤلف أن الخطة تعطي مخرجاً للأزمة القائمة، وأردناها إصلاحية ذات صدقيّة وتقدّم للمرة الأولى أرقاماً واضحة عن الخسائر المتراكمة في القطاع المالي مع تحديد دقيق لمسبّباتها ومصادرها، وتأخذ في الاعتبار الملاحظات التي تقدّم بها ممثّلون عن هيئات المجتمع المدني. 

وهدفت الخطة إلى استعادة الثقة، ورفع معدلات النموّ الاقتصادي، وتعزيز النظام المالي الصحي، وتحقيق استدامة المالية العامة والدين العام، وتنفيذ إصلاحات بنيوية؟. 

وشملت الخطة عدة ركائز: 

-1- سياسة سعر الصرف وسياسة نقدية تقومان على فك ربط الليرة بالدولار لتخفيف الضغوط على ميزان المدفوعات وتحسين القدرة التنافسية وتعزيز النمو الاقتصادي مع العزم على الانتقال إلى سعر صرف مرن في المستقبل المنظور. تقليل العجز في الميزان التجاري وتحسين القدرة التنافسية في المقابل، وتحسين المناخ الاقتصادي والمالي والحصول على الدعم الدولي من صندوق النقد الدولي والدول المانحة. أما بالنسبة إلى السياسة النقدية في الخطة، فكانت تسعى للسيطرة على التضخّم وخفضه تدريجاً إلى ما دون 10 على المدى المتوسط.

 
-2- وضع استراتيجية شاملة لإعادة هيكلة الدين العام، عملت الحكومة في الخطة على وضع الدين في مسار تراجعي ليصل إلى أقل من 85% من الناتج المحلي في العام 2027.

أصرّ صندوق النقد الدولي على إعادة هيكلة الدين العام المحلي والخارجي معاً وأن تنخفض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي. 

-3- إصلاح المالية العامة بإجراءات قوية وطموحة على مراحل تمتد خمس سنوات، خفض عجز الموازنة في الخطة على صعيد النفقات العامة على مرحلتين: في المرحلة الأولى، إصلاح قطاع الكهرباء وترشيد الإنفاق ووقف الهدر. وفي المرحلة الثانية، إصلاح نظام التقاعد وتقليص حجم القطاع العام. 
أما الإيرادات العامة، فقررت الخطة تعزيزها بنسبة 3.3% من الناتج المحلي بحلول العام 2024 على مرحلتين أيضاً. الأولى توسيع القاعدة الضريبية، وتحسين الامتثال والجباية، ومحاربة الهدر ومكافحة التهرّب الضريبي. والثانية: زيادة معدلات الضرائب.

وهدفت الخطة إلى إعادة المالية العامة إلى المسار الصحيح مع الحرص على حماية الشرائح الأكثر فقراً من آثار الأزمة الأليمة. 

4- إعادة هيكلة شاملة للقطاع المالي وبطريقة عادلة، وهذا يشمل المصرف المركزي والقطاع المصرفي التجاري. قدّرنا في الخطة الخسائر الإجمالية التي تكبّدها القطاع المالي بنحو 241 تريليون ليرة (ما يعادل 68.9 مليار دولار). 

استمرت هذه التباينات الجوهرية طويلاً في الأشهر والسنوات اللاحقة وحتى اليوم، وكان واضحاً أن المصارف تتمتع بدعم قوي من جملة أطراف ولا سيما مصرف لبنان، وهيئات اقتصادية وتجارية، وجهات سياسية نافذة. 

دور المصارف في عرقلة خطة التعافي 

كان للمصارف دور مركزيّ ونجحت في عرقلة خطة الحكومة وإفشال الإصلاحات المطلوبة وفي مقاومة الحلول المطروحة لئلا تتحمّل خسارة في رساميلها، ولا تضطر إلى تنازلات توصل في نهاية مطافها إلى فقدان كبار المساهمين لملكيّاتهم المصرفية لمصلحة كبار المودعين عبر تطبيق خيار تحويل الودائع إلى أسهم (Bail-In). وهناك من قاوم أيضاً لكي لا يصل الأمر إلى المساس بثروات المصرفيين أنفسهم وفق متطلّبات تدفع باتجاه تطبيق القانون 67/2 الذي يحمّل المسؤولية لأصحاب المصارف وكبار المديرين فيها فضلاً عن مدقّقي حساباتها في حالات التوقّف عن الدفع و/أو التعثّر والإفلاس. 

ويكشف الدكتور وزني في كتابه "الانهيار المالي في لبنان"، أن الخطّة البديلة لخطّة الحكومة للتعافي والتي قدّمها الوزير نقولا نحاس، تعتمد على مقاربات أو فرضيّات مختلفة تماماً عن تلك المعتمدة ضمن خطّة الحكومة في احتساب الخسائر. وكانت تلك الخطة تهدف بشكل واضح في نهاية المطاف إلى إجهاض خطة الحكومة للتعافي المالي، ودحض أرقامها وطرق توزيعها للخسائر، لا بل نسف كلّ الأسس التي بنيت عليها!  

استندت الخطة البديلة التي قدّمها الوزير نحاس إلى خمس مقاربات مختلفة لاحتساب خسائر توظيفات المصارف بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان، واحتساب خسائر القروض المتعثّرة لدى القطاع الخاص، واحتساب الخسائر عند إعادة هيكلة الدين العام المحرّر بالليرة وبالعملات الأجنبية واحتساب الخسائر المتراكمة لدى مصرف لبنان، وأخيراً تقدير حجم الناتج المحلي في العام 2020. 

قدّرت الخطة البديلة، وبشكل غير علمي كما اتضح لاحقاً، إجمالي خسائر مصرف لبنان والمصارف بـ 81ألف مليار ليرة، موزّعة بين مصرف لبنان 50 ألف مليار ليرة، والمصارف 31 ألف مليار ليرة مقابل 241 ألف مليار ليرة في خطة التعافي المالي، ما يعني أنها خفضت إجمالي الخسائر بشكل هائل إلى نحو 160 ألف مليار ليرة عن طريق اعتماد المقاربات الآتية: 

- في المقاربة الأولى، خفضت الخطة البديلة قيمة خسائر القروض المتعّثرة، كان المجتمع الدولي حاسماً بربط أي مساعدة حقيقية إنقاذية للبنان ببرنامج يوقّع مع صندوق النقد. فعلى الرغم من البيانات المؤيّدة للدخول في برنامج مع الصندوق والمواقف السياسية التي أعطت الضوء الأخضر للحكومة للمضي قدماً في طلب مساعدة صندوق النقد، إلا أن ذلك لم يترجم فعلياً لاحقاً كما يجب، مثل تخلّي بعض الأطراف عن دعم الحكومة في مفاوضاتها مع الصندوق، وعدم إقرار مجلس النواب المشاريع الإصلاحية التي أرسلت إليه، وعرقلة خطة الحكومة الإنقاذية. 

وفي سياق نقاش كلّ ذلك مع معظم الأطراف المعنية، والتعامل مع صندوق النقد الدولي يحمل إيجابيات وسلبيات. وتبرز الإيجابيات من خلال الأموال التي يمنحها الصندوق والتي تساعد على إطلاق العجلة الاقتصادية، ومعالجة مشكلة ميزان المدفوعات والعجز في المالية العامة. 

أما بالنسبة إلى السلبيات، فتظهر في الإجراءات القاسية التي يجب على لبنان اتخاذها في إصلاح المالية العامة ولا سيما على صعيد زيادة الضرائب، خفض حجم القطاع العام، تقليص الخدمات والرواتب والتقديمات الاجتماعية. فتلك الإجراءات تضعف القدرة الشرائية للأفراد وتفرض على الحكومة تنفيذ إصلاحات هيكلية على صعيد المؤسسات العامة. 

انفجار المرفأ واستقالة الحكومة 

انقطعت مفاوضات حكومة الرئيس د. حسان دياب مع صندوق النقد الدولي في آب/أغسطس 2020، غداة انفجار مرفأ بيروت واستقالة الحكومة وباتت حكومة تصريف أعمال، ولكن الجدل بقي في لبنان قائماً حول حجم الخسائر، ومن يتحمّل الجزء الأكبر منها، أو بالأحرى كيف تتوزّع تلك الخسائر. 

وقّعت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي اتفاقاً مبدئياً، يتبنّى أرقام الخسائر في تقديرات حكومية تصل إلى 72 مليار دولار. وهي قريبة جداً من أرقام خسائر قدّرتها حكومة الرئيس دياب بنحو 69 مليار دولار، إضافة إلى أن الاتفاق يعتمد المقاربة نفسها في توزيع الخسائر. هذه المعطيات الجديدة دفعت مصرف لبنان إلى إعادة النظر في تقديرات خسائره وإلى الاقتراب من تقديرات الحكومة، لكن الخلاف بقي مستمراً حول كيفية توزيع تلك الخسائر وطرق معالجتها، ولا سيما كيفيّة ردّ الودائع لأصحابها. 

مع صدور كتاب الانهيار المالي في لبنان،، يكون قد مرّ على نقاش صندوق النقد الدولي أكثر من أربع سنوات، وبقي لبنان عالقاً تقريباً عند العناوين الخلافية الأساسية نفسها. 

أما على صعيد مصرف لبنان وخسارته الهائلة، فيعتقد المؤلف، أنّ الأمر تطوّر من الإنكار إلى الاعتراف الضمني من دون الأخذ بوجهة نظر الصندوق. وبقي مصرف لبنان مترجحاً بين أنه لم يخطئ في سياساته وبين معالجة الخسائر. بينما طلب الصندوق تصفيتها ولكن على حساب من؟ وبالتالي يحتدم النقاش حول مسؤولية ما للدولة عن الخسائر، لأن جزءاً معتبراً من خسائر مصرف لبنان يعود إلى سياسة تثبيت النقد،وإلى تمويل قدّمه إلى الدولة مع أسئلة كثيرة حول قانونية ذلك التمويل، كما يحتدم النقاش حول تحميل المودعين الخسائر عن طريق شطب التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية لديه. ويلاحظ الدكتور وزني أنّ مقاربة النواب للخسائر كانت حذرة جداً عندما يتعلق الأمر (بالمصارف) التي يجب إعادة هيكلتها بالتي هي أحسن لأنها حاجة للاقتصاد، مقابل رأي حاد لممثّل الصندوق الدولي، وأن حماية المساهمين في المصارف كما كبار المودعين ستكون بكلفة عالية على المجتمع والاقتصاد والدولة، والنقاش نفسه مستمر منذ سنوات من دون حسم كيفية إعادة هيكلة القطاع المصرفي وبأي كلفة، ومن سيتحمّل تلك الكلفة الباهظة. والنواب كانوا يعتمدون على أرقام مصرف لبنان؟. 

قدّرت حكومة نجيب ميقاتي الخسائر بنحو 72 مليار دولار مقابل نحو 69 مليار دولار قدّرتها حكومة د. حسان دياب، وبقي الخلاف مستعراً حول كيفية توزيع الخسائر وطرق معالجتها، ولا سيما كيفية ردّ الودائع إلى أصحابها. حاول مصرف لبنان منذ البداية التقليل من حجم الخسائر مدفوعاً ضمنياً برفضه تحمّل المسؤولية الأولى، وكذلك فعلت المصارف. في الوقائع، فإن المسؤولية تقع في الدرجة الأولى على الحكومات المتعاقبة بفعل سياساتها الاقتصادية والمالية المستندة إلى سياسة تثبيت سعر الصرف وكلفتها الباهظة على سياسة المالية العامة، وعلى سياسة الاستدانة المفرطة، وعلى سياسة الاستيراد والعجز الدائم والكبير في الحساب الجاري. 

كتاب الانهيار المالي في لبنان تجربة ووقائع، وضع لبنان على مفترق طرق مصيري وخطير، إذ أضحى يحتاج إلى تغييرات وإصلاحات جوهرية في المجالين السياسي والاقتصادي في حال أراد البقاء وتجنّب الانزلاق نحو الانهيار الشامل، والذهاب إلى مؤتمر تأسيسي جديد. فالنظام الاقتصادي القائم خسر كثيراً من مقوّماته وميزاته التفاضلية كما يعتقد المؤلف الدكتور غازي وزني.