عُمان: وداعةُ الترحاب
التسامح هو أبرز ميزات المجتمع العُماني، والاعتدال الذي يفاخر به معظم العُمانيين، يفسّر مقدرتهم على صياغة دورٍ في الإقليم فعّال ومؤثّر بعيداً من الصخب والاستعراض.
تسنّى لي زيارة عُمان أكثر من مرّة، وفي كلّ مرّة أتأكّد من المؤكّد: طيبة أبناء البلاد وسكينتهم الباعثة على السلام والطمأنينة، وحرصهم الحميم على استقبال ضيوفهم بالمودة والترحاب.
في كلّ زيارة إلى مسقط أوّل ما يطالعنا في مطارها هو الحديث الشريف عن أهل عُمان وحُسن وفادتهم. فيتضاعف شعور الزائر بالطمأنينة، وبأنه بين أهله وناسه. ففي عُمان يندر أن تسمع حديثاً فتنوياً جهوياً أو طائفياً. ولا يمكنك تمييز الناس بناء على انتمائهم المناطقي أو الطائفي أو المذهبي. إنهم عُمانيون وكفى. حتى في عزّ المذابح والتشظيّات الطائفية والمذهبية التي ضربت بعضاً من مجتمعاتنا العربية ظلّت عُمان في منأى عن هذا الجنون، وظلّ الخطاب السياسي والإعلامي فيها على مسافة كبيرة من التحريض الفتنوي الذي ساهم في تفكيك النسيج الوطني لمجتمعات كثيرة بفعل انحياز شرائح واسعة ونخب عديدة إلى الهويات القاتلة والانتماءات الضيّقة.
التسامح هو أبرز ميزات المجتمع العُماني، والاعتدال الذي يفاخر به معظم العُمانيين، يفسّر مقدرتهم على صياغة دورٍ في الإقليم فعّال ومؤثّر بعيداً من الصخب والاستعراض. فضلاً عن انحياز العُمانيّين بمختلف شرائحهم إلى فلسطين وقضيتها العادلة، ورفضهم لجريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحقّ أبناء غزة على مرأى العالم ومسمعه.
أعرف أنها انطباعات زائر، وأنّ لكلّ مجتمع شؤونه وشجونه، إذ لا يخلو بلد أو مجتمع في عالمنا المعاصر من مشكلات وأزمات، لكن يظلّ أهل مكة أدرى بشعابها، ويظلّ لنا أن نحتفي بكلّ مجتمع عربي قادر على تجاوز آفة الآفات، ونعني بها جرثومة الطائفية والمناطقية القاتلة التي أجادت قوى الهيمنة والاستعمار استخدامها لتفتيت مجتمعاتنا وضرب كياناتها الوطنية.
المناخ العام في عُمان هو ما أسلفناه، ولعل الخفر العُماني إذا جاز التعبير ظالم في وجه من وجوهه لمبدعي البلد ومثقّفيه. بفعل الوداعة العُمانية واعتماد "سياسة الظل" يتوارى الدور الإعلامي والثقافي الفاعل والمؤثّر، وتنتفي عملية صناعة النجومية والتسويق أو ما يسمّى "الماركتينغ" بلغة اليوم، علماً أنّ عُمان زاخرة بالمبدعين والمثقّفين والكتّاب من شعراء وروائيين، وبرهاننا على ذلك فوز مجموعة من المبدعين العُمانيين في السنوات المنصرمة بجوائز أدبية في أكثر من محفل ومناسبة.
ومنها فوز الروائية جوخة الحارثي بجائزة الرواية العالمية (البوكر) عن روايتها "سيدات القمر"، والروائي زهران القاسمي بجائزة الرواية العربية (البوكر) عن روايته "تغريبة القافر"، والروائية بشرى خلفان بجائزة "كتارا" عن روايتها "دلشاد"، والشاعرة عائشة السيفي بلقب أميرة الشعراء. وسبق ذلك فوز الشاعر سيف الرحبي بجائزة السلطان قابوس، والشاعر زاهر الغافري بجائزة "كيكا للشعر".
كلّ هذا وسواه يؤكّد جدارة المبدع العُماني ومقدرته على الإنتاج والابتكار مهما كانت المصاعب والمعوّقات، مثلما يؤكّد حيوية المشهد الثقافي العُماني، وتفاعله مع مجتمعه ومحيطه، لكنه للأسف مشهد لا يحظى بما يستحقّه من اهتمام نقدي وإعلامي. ولعل الخفر والتواضع اللذين تتسم بهما الشخصية العُمانية يفعلان فعلهما في بقاء مبدعي السلطنة، إلى حدٍ ما، بعيدين عن الأضواء، وعن الاهتمام الإعلامي الواجب تجاه مجتمع عربي زاخر بالثقافة والمثقّفين.
أتاح لي عملي الثقافي والإعلامي محاورة نخبة من مثقّفي سلطنة عُمان من أدباء وفنانين وإعلاميين، مثلما أتاحت لي زياراتي العُمانية لقاء مثقّفين آخرين، وبناء صداقات جميلة ونبيلة لا همَّ لها ولا غاية سوى توسيع مروحة الثقافة العربية قدر الإمكان، أكاد أجزم أنهم جميعاً يتسمون بتلك الصفات حتى تكاد الدماثة والطيبة والوداعة والخفر والتواضع والترحاب والحفاوة تغدو سمات عُمانية يتمّ توارثها جينياً من جيل إلى آخر.
هنا، أستميح القارئ عذراً في استعادة أوّل نصٍ لي نشرته عن عُمان وكان بعنوان:
هنا مسقط: صخرٌ يُراوده الموج
وكأنّ الجبل الصخري الهائل يبسط كفّيه لترتاح مسقط وتسترخي بين شعابه ووهاده، وكأنّ بحر عُمان يمدّ ذراعيه لمعانقة يابسة تغدو ليّنة هيّنة إذ تنصت لوقع أقدام مَن مرّوا هنا على مدار تاريخ ترك ندوبه وتغضّناته في جغرافيا قاسية ما كانت لتلين لولا أن طوّعها أولئك الذين قدّوا الصخر وروّضوا الأنواء وركبوا البحر وأمواجه ومزاجه الغادر، ويمّموا وجوههم شطر المقلب الآخر من شبه الجزيرة العربية، وشدّوا الرحال والأشرعة نحو الهند وأفريقيا. فكانت رحلات صيدهم بحثاً عن لؤلؤ المحار والبحار ميدان تعارف وتفاعل بين شعوب وثقافات وتقاليد وأعراف وطقوس دين ودنيا، لا تزال ملامحها وآثارها ماثلةً في وجوه الناس وقسماتهم التي تكتب الأيام على صفحاتها حكايات لا ترويها عادةً كُتب التاريخ.
هنا مسقط، هنا يتقاطع التاريخ مع الجغرافيا، فلولا ذاك الموقع الفاتن على فوّهة المضيق امتداداً نحو بحر العرب وصولاً (في ما مضى) إلى شواطئ زنجبار لما كنّا سمعنا ربما بتلك السلطنة التي امتدت ذات حلم لتغدو إمبراطورية تبسط سلطتها وسلطانها على مساحات يتعانق فيها البر والبحر في لحظة أبدية لا يجيد اغتنامها سوى دهاة سياسةٍ لا تزال تجد مطرحاً لها هنا بعيداً من ضوضاء الإعلام وصخبه وفوضاه، وإذ نقول السياسة نعني تلك الحياكة السرية والقطب المخفية التي لا يفقهها إلّا الراسخون في الحنكة وفي كواليس الدبلوماسية وأسرارها وصناديقها السوداء.
لذا لا تستغرب وأنت في خضمّ رحلة ممتعة على متن مياه بحر عُمان حين يشير صحبك العُمانيون إلى ذاك الفندق النائي المتخفّي بين جبل أشبه بحارس أسطوري شديد البأس وبحر لا يشرّع مداه إلا لمن حظي بنعمة مخر عبابه وعباب "محيطات" المشاركة في صناعة مستقبل الإقليم. الفندق المسمّى قصر البستان يلتقي في قاعاته وأروقته بعيداً من أعين الفضوليين صنّاع جولات تفاوض بين أعداء وخصوم وما ينجم عنها من خرائط سطوة ونفوذ، كلّ ذلك يجري تحت أعين ومسمع ساسة البلد المُضيف الذي يجيد دبلوماسية صامتة تؤتي أُكلها ولو بعد حين، فضلاً عن نزلاء آخرين لهم ما لهم من باع وطول أناة في رسم قواعد الاشتباك أو العناق بين المتحاربين في أكثر من جرح عربي.
العودة إلى مسقط تشبه عودةً إلى البيت، ثمة ألفة تنشأ بينك وبين المكان وتعقد أواصر صداقة من النظرة الأولى، خصوصاً إذا كنت تملك مزاجاً شاعرياً يستعذب هدوءاً وسكينة وانضباطَ الأيام في رتابات مثمرة. هكذا هي مسقط فيها شيء من وداعة أهلها وطيبتهم وحفاوتهم وحُسن استقبالهم. الدور التصالحي الذي تؤدّيه بلدهم على مستوى الإقليم لا يعود مستغرباً حين تستقبلك وجوه مبتسمة مرحّبة باذلة أقصى جهدها وأكثر من وسعها لكي تشعرك أنك في بيتك وبين أهلك، ولعلك تتساءل في سرّك كيف لأبناء جبال صخرية قاسية تلك الوداعة المتمثّلة في كلّ مَن تلتقيه مبتسماً أليفاً عفوياً بلا تكلّف أو تصنّع، أهو البحر وانفتاحه ورحابته رشَّ ملح المودّة على موائد العُمانيين؟
لكن مهلاً، لا تغرّنك الرّقة، حين دعت الحاجة خرج من بين تلك الوهاد الصخرية محاربون أشداء وسّعوا سلطتهم وسلطانهم براً وبحراً.
البيوت البيضاء الأنيقة المسترخية كسربِ حمامٍ يرتاح بعد طول تحليق تغريك بالسؤال عن قاطنيها وحالهم وأحوالهم ومأكلهم ومشربهم وطقوس عيشهم، لتتأكّد ممّا تعرفه أن الناس على هذه الأرض (العربية) يتشابهون ويتماثلون مهما باعدت بينهم مسافات وفصول، ولعل فصلاً أكيداً لم يعد أحد يشتهيه من المحيط إلى الخليج وهو "الربيع الدموي" الذي أطلّ مبشّراً واعداً قبل أن يسرقه تجار الهيكل ومصاصو دماء الشعوب والأمم، آملين بـ "ربيع عربي" حقيقي مسبوق بنهوض فكري وثقافي تنويري ضروري لتتفتّح براعمه وأزهاره ويحقّق نقلة مرجوّة نحو دول حديثة تتجلّى فيها الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وتضع العرب على طاولة الأمم، لا كوجبة دسمة كما هو حالهم الراهن، بل كشريك في صناعة العالم.
هنا مسقط، هنا جامعة السلطان قابوس المترامية الأمداء والأحلام وكأنها بنيت بأخيلة طلّابها وتطلّعاتهم إلى أيام أكثر بياضاً ورحابة، لقاء الطلّاب الشباب يبثّ فيك شحنات أمل ويجدّد فيك الرهان على جيل ليس له أن يضرس حتى لو أكل آباؤه الحصرم. تعرف أنّ لكلّ بلد وشعب ومجتمع شؤونه وشجونه، لكنك مجرّد زائر يبحث في عيون الشباب طلّاباً وطالبات عن حلم غير مستحيل، بعد أن بات العالم كله في متناول أيديهم، ولعل لا أفق لأمة العرب ولا ملاذ، إلّا أولئك الشباب وأحلامهم الممتدة من بحر عُمان إلى ضفاف الأطلسي.