عشرة أيام في عمّان

لا شيء يعوّض اللقاء الإنساني المباشر، مهما تطوّرت التكنولوجيا، ومهما تعدّدت الأدوات، لا شيء يغني عن مصافحة، عناق، احتضان، نظرة عينين، تبادل كلمات، رنّة صوت حيّ.

  • محمد الطيطي في مسرحية
    محمد الطيطي في مسرحية "بيدرو والنقيب"

زيارة العاصمة الأردنية عمّان فرصة للقاء أصدقاء يحيطون ضيفهم بالحبّ والترحاب، وبكرَم المودة وحفاوة الاستقبال. فكيف الحال إذا كانت الزيارة بدعوة من مهرجان المسرح الحرّ الدولي الذي بلغ هذا العام سنته التاسعة عشرة، قدّم خلالها عشرات العروض المسرحية من مختلف البلدان العربية، وشكّل محطة سنوية يتلاقى عندها أهل المسرح العربي من بلدان وأجيال ومشارب مسرحية متنوّعة ومختلفة.

المسرح يظلّ المكان الأمثل للقاء الإنساني المباشر، ليس فقط بين أهل المسرح أنفسهم، بل أيضاً بينهم وبين المتفرّجين، وبين المتفرّجين أنفسهم، حيث اللحظات التي تسبق فتح الأبواب ورفع الستارة فرصة للتعارف والتحادث وتبادل الأفكار والخبرات كما تبادل اللواعج والشجون.

وما أكثر الشجون في بلادنا المنذورة للنوائب والمحن منذ زُرِع في قلبها الكيان السرطاني الخبيث المسمّى "دولة إسرائيل"، متسبّباً بالنكبة الفلسطينية، ومساهماً في الكثير من النكبات التي توالت على أمّة تفرّقت أيادي سبأ. 

والمسرح بطبيعة الحال لا يمكن له بتاتاً الانفصال عن الواقع، والتحليق بعيداً من هموم الناس وشؤونهم وشجونهم، بل لعله المكان الأمثل لمناقشة تلك الشؤون والشجون على بساط البحث، وطرح الأسئلة المحرِّضة على التفكير ومحاولة البحث عن منافذ خلاص.

صحيح أن المسرح مكان للفرجة وللمتعة، لكنه أيضاً مكان للتفكير والتنوير، لأنه متى تخلّى عن هذا الأمر وقع في المجانية والتهريج. والمسرح الحرّ استقطب عروضاً بعيدة عن المجانية والتهريج، وإن تفاوتت مستوياتها وجودتها، إلا أنها جميعاً مهمومة ومهجوسة بالإنسان وصراعه الوجودي لأجل العدالة والحرية والعيش الكريم.

المسرح الحرّ عنوانٌ جميل. فالمسرح والحرية صنوان، إذ لا يمكن للمسرح أن يستحقّ وصفه بأبي الفنون ما لم يتوفّر له شرط الحرية كي يقول ما ينبغي أن يقال، ويُناقِش ما يجب أن يُناقَش. ليس فقط المسرح، الفنّ كلّه لا يصير فنّاً ما لم يولد من رحم الحرية. حرية التفكير والطرح والمعالجة والنقاش. 

لئن كان المسرح، إلى جانب مضامينه الإبداعية العميقة، مكاناً للقاء الإنساني المباشر. فلا يستخفَّنّ أحد بهذا الأمر، ولا سيما الآن، في زمن وسائل "التفاصل" الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي، حيث تمرّ العلاقات الإنسانية في منعطف مصيري تنتقل عبره البشرية من عصر إلى سواه، وحيث يُحشر الكائن البشري في ذلك الممرّ الضيّق الفاصل بين عصرين.

لا شيء يعوّض اللقاء الإنساني المباشر، مهما تطوّرت التكنولوجيا، ومهما تعدّدت الأدوات، لا شيء يغني عن مصافحة، عناق، احتضان، نظرة عينين، تبادل كلمات، رنّة صوت حيّ. وكل هذا يتيحه المسرح، سواء أكان الأمر يحدث في الأروقة بين المتفرّجين أنفسهم، أو بين الممثّلين على الخشبة والمتفرّجين في الصالة. 

نعم، ثمة حوار يحصل بين الممثّلين والمتفرّجين، حوار بلا كلمات. العيون الشاخصة، الآذان المنصتة، الأنفاس المحبوسة، التصفيق الحار، الوقوف احتفاءً بالعرض وتكريماً "للمشخصاتية"، وفوق هذا كلّه الأفكار التي يتركها العرض في الذهن بعد الفرجة. كلّ هذا هو نوع من الحوار الصامت ظاهرياً، الصاخب داخلياً، ولا سيما متى كان العرض عميقاً في مقاربته للموضوع الذي يتناوله تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً.

مهرجان المسرح الحرّ فرصة لمشاهدة العروض المسرحية، مثلما هو فرصة للقاء والحوار خارج صالة العرض أيضاً، حيث تجتمع تحت سماء عمّان نخبة من أهل المسرح العربي، تدور بينهم حوارات وأحاديث حول شؤون المسرح وشجونه، وعلاقته بالقضايا العامة التي تعيشها البلاد والعباد في مرحلة تاريخية حرجة ومفصلية، وبطبيعة الحال لا تغيب غزة، ولا تغيب فلسطين التي عادت قضية أممية تشغل بال كل إنسان وكلّ فنان حقيقي، وتستحقّ أن تكون حاضرة على خشبة المسرح كما هي على أرض الواقع، ولعلها مفارقة لافتة أن يفوز العرض الفلسطيني "بيدرو والنقيب" (تمثيل رائد الشيوخي ومحمد الطيطي، إخراج إيهاب زاهدة) بذهبية أفضل عمل مسرحي، كأنّ فلسطين لا تزال تؤكد لنا أنها ولّادة مهما جار الزمان ودار.

من المسرح إلى المقهى، وعمّان عامرة بالساعين إلى قوت يومهم وتحقيق أحلامهم إذا ما استطاعوا إليها سبيلاً، مثلما هي عامرة بأمكنة المواعدة واللقاء، من وسط البلد والمقاهي الشعبية المكتظة بالحوارات والسجالات إلى مقاهي الأحياء في جبل عمّان وسواه. فالمقهى في المدينة ليس امتداداً للمسرح فحسب. المقهى مسرح. هنا، أي في المقهى، يدور عرضٌ من نوع آخر. إنه عرض الحياة نفسها بأشكالها وألوانها كافة. وهو (المقهى) أولاً فسحة للقاء أصدقاء يمنحون المكان روحه، ويجعلون للأمكنة معنى آخر ومختلفاً. فالأمكنة موحشة بلا أصدقاء مهما بلغت من فخامة وإتقان. 

عمّان مدينة صديقة، ليس فقط وقت المهرجان. صديقة دائمة، حتى وهي موجوعة على غزة أو مشغولة بانتخابات على الأبواب، أو مهمومة بألف مسألة ومسألة. صديقة أولاً بناسها الذين لا يكفّون عن المودّة والترحاب، ومن ثم بمبانيها التي تتشارك اللون نفسه رملياً مائلاً إلى البياض، إلا من بضعة أبراج حديثة طارئة على الهوية العمرانية لمدينة تتيح لزائرها رؤية السماء من كل الجهات، وتمنحه شعوراً بالألفة والانتماء خصوصاً متى كان لبنانياً يفرحه صوت فيروز يتناهى إليه من أمكنة كثيرة مُضاعِفاً شعوره بأنه ليس على سفر وإنما بين أهله وناسه الذين لا تتسع لمودتهم عشرة أيام… ولا سنوات.

***

عمّان سرب حمام حطَّ على التلال(*)

وصمتُ الجمال في حرم الجمال.

قداسةُ التمنِّي في ليلِ الرجاء

وصلاةُ الأرض شوقاً لِغيثِ السماء.

في حواريها ينبتُ العطرُ

من راحات بنيها يتدفّقُ الماء.

سلام لها، سلام إليها، عليها السلام

كلّما ذكرتُها طارَ من صوتي اليمام.

آتيها عاشقاً أتوه في شوارعها ممتلئاً ببيروتَ، وبياقوتِ الكلام.

أقطف وردةً من هنا ونجمةً من هناك

أغنّي: "موطني، موطني 

هل أراك في علاك، تبلغُ السِّماك"

…بل أراك.

****

(*) قصيدة عمّان من كتاب الشاعر "ليلُ يديها".