ضحايا حرب لا كوارث طبيعية.. غزة في مواجهة سياسات الشفقة الغربية
لماذا تتعامل منظّمات الإغاثة العالمية مع ضحايا غزة بمنطق التعاطي مع الكوارث الطبيعية؟ وما السرّ وراء تجريد الحرب على الفلسطينيين من مضمونها السياسي؟
تعيش غزة اليوم على وقع حرب مدمّرة تستخدم فيها "إسرائيل" كل إمكانياتها العسكرية المتاحة من أجل الوصول إلى هدفها المعلن والمتمثّل في القضاء على حركة "حماس" وإنهاء فكرة المقاومة في القطاع، من أجل تغيير الواقع على الأرض، وهو هدف ليس أقلّه احتلال القطاع وتهجير سكانه وصناعة "نكبة جديدة".
ظفرت "إسرائيل"، كما العادة، بدعم غربي غير مشروط، وذلك لكون "إسرائيل"، كما هو معلوم، امتداداً للتاريخ الكولونيالي وكتعبير عن سردياته الكبرى التي أنتجتها "أزمنة الحداثة". هي المحكومة بفكرة تفوّق ''الحضارة الغربية'' عن بقية الشعوب الأخرى التي تمثّلتها (ولا تزال) المركزية الأوروبية بوصفها مجتمعات بلا تاريخ وبلا حضارة، وهي تتسم في الغالب بالبربرية والتوحّش التي تناقض أخلاقيات "العرق الأبيض".
تجد هذه السردية النبوئية جذورها في مقولات فلسفة الأنوار ذاتها، وفي بعض فلسفات التاريخ (الماركسية مثالاً) التي طبعت القرن الثامن والتاسع عشر وحتى القرن العشرين، الذي ميّزت نصفه الأول هيمنة النزعات الشمولية في صيغها الفاشية والنازية، (الشيوعية هي نزعة فاشية أيضاً)، وهي نزعات حكمتها لا مبالاة أخلاقية، وفقاً لمبررات العقل الأداتي الغربي.
كانت "محرقة اليهود" من بين نتائج هذا العقل، وهي "المحرقة" ذاتها التي يواجهها سكان غزة بالآليات على قاعدة المقولات التطهيرية والطهورية ذاتها التي استبطنتها الحركة الصهيونية منذ القرن العشرين. إلا أن غزة وكل الفلسطينيين، لا يواجهون اليوم سياسات الإبادة والعقل الأداتي الذي يهيكل ذهنية الغرب فحسب، بل أيضاً أداتية ما يمكن تسميته بــ "العقل الإغاثي" المحكوم بـــ "سياسات الشفقة" التي تحكم البنى الذهنية للمنظمات الأممية والجمعيات الإغاثية غير الحكومية.
وهذه المنظّمات، بقدر ما تعمل على إدارة "مآسي الحرب" ومعاناة المدنيين ضمن الشروط التي يحدّدها القانون الدولي والإنساني، إلا أنها في واقع حال الحرب على غزة، لا يمكن فصلها عن علاقات السلطة والهيمنة التي تحكم النظام العالمي. إذ تصبح الإغاثة جزءاً من مسار وسردية إغاثية تعمل على تحويل القضية الفلسطينية إلى مجرد ''وضع إنساني"، ونزع التسييس عنها.
حيث يتم التعامل مع منطق الحرب بالمنطق ذاته الذي يتم فيه التعاطي مع الكوارث الطبيعية، في حين أن الحرب ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة ليست حالة محكومة بقوانين الطبيعة، بل هي في الأساس واقعة سياسية واجتماعية وثقافية تجد جذورها في المنطق الاستعماري الذي يحكم "إسرائيل" ومن خلفها النظام الاستعماري العالمي، الذي يجعلنا ننظر إلى معاناة الفلسطينيين من زاوية ''سياسات الشفقة'' التي يراد ترسيخها وترويجها كفعل سياسي دولي يعمل على اختزال معاناة الفلسطينيين في حالات إنسانية مفرغة من أي معنى ودلالة سياسية.
سياسات الشفقة: العقل الإنسانوي
تحاول السردية التي تعمل وسائل الإعلام الغربية والقادة الغربيون على إنتاجها منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، من أجل توجيه الرأي العام والتلاعب به على إنتاج بنية عاطفية وأشكال سيميائية تحيل إلى المعاناة والألم والخلاص، وهي بنى شعورية متجذّرة في التقليد المسيحي الغربي الذي يعلي من مشاعر الشفقة والمحبة والتضامن إلخ.
وقد استعادت الحداثة هذه البنى في شكل نظام أخلاقي متعالٍ غير قابل للنقد والمساس به، وهو مثال تجسّده منظومات حقوق الإنسان التي تستدعى داخل السردية الغربية من حيث كونها قيماً كونية ومتخيّلاً جماعياً قوياً، وهو المتخيّل الذي يحرّك "العقل الإنسانوي" الغربي ويهيكل "سياسات الشفقة"، ويحدد كذلك جملة الممارسات التي تتوخاها الدول والمنظمات غير الحكومية في تعاطيها مع العديد من القضايا.
الأمر الذي أصبح فيه هذا النظام الأخلاقي، الذي تدّعي الحداثة الغربية احتكاره، معمّماً في الحياة السياسية وبات يحيل إلى نزعة إنسانوية ترتبط بشعور التعاطف مع كل هؤلاء الذين يعانون مما يفترض المساواة التامة بين جميع الحيوات الإنسانية.
تحوّل هذا "العقل الإنسانوي'' إلى سياسة لإدارة الحياة والمعاناة، وهو تحوّل مندرج ضمن انزياح براديغمي عرفته المجتمعات الغربية في خصوص مسألة الالتزام النضالي الرومانسي. حيث انتقل هذا الالتزام من نموذج الانخراط الإرادي في حركات التحرّر، إلى نموذج الإنسانويين الذين يعملون على إنقاذ حيوات في مناطق الحروب والنزاع.
وباتت تلك الآلام في السياق المعاصر ممسرحة وقابلة للعرض والفرجة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، التي عززت شعور الشفقة الذي سيقوّي بدوره الإدارة الإنسانوية الحديثة للمعاناة، وهي الوريث المعلمن للتصوّر المسيحي للألم والخلاص والشفقة. الأمر الذي جعل الإدارة الإنسانوية للمعاناة بمثابة الحيّز الديني للنظام الديمقراطي المعاصر.
العدوان على غزة: حيوات بشرية غير متساوية
أمام طغيان السردية الإنسانوية التي يريد النظام العالمي النيوليبرالي الترويج لها، عبر سياسة الحياة وسياسة إدارة الألم، يرسخ العقل الإنسانوي الليبرالي بديهيات أيديولوجيا المساواة. إلا أن هذه الأيديولوجيا سرعان ما انكشف زيفها بقوة منذ عملية "طوفان الأقصى"، حيث تداعت مشاعر "الشفقة الغربية" في اتجاه أوحد، وهو التعاطف مع الكيان المحتل، مستعيدة كل الإرث المسيحي والمقولات الاستعمارية المتعلّقة بتفوّق "الرجل الأبيض" النبيل و "المتحضّر".
هنا تحديداً، يكمن سرّ توصيف الخطاب الإعلامي الغربي لفعل المقاومة بكونه فعلاً إرهابياً، عبر العمل على إقامة تماثل بين حركة "حماس" وبين تنظيم "داعش" الإرهابي، وتشبيه "طوفان الأقصى" بالهجومات الإرهابية التي عرفتها فرنسا عام 2015 من قبل عناصر "داعش".
هذا التماثل أراد أصحابه منه التغطية على المسألة الاستعمارية واختزاله في بعد ثقافي (وهو بُعد تتبنّاه بعض النخب العربية أيضاً)، يرى في "طوفان الأقصى" هجوماً ضد قيم الغرب ونمط عيشه الذي تمثّل "إسرائيل"، بالنسبة للكثير من النخب الغربية، امتداداً له وتعبيراً عن قيمه.
استغلّ الكيان الصهيوني هذا الأمر، لكن في اتجاه أكثر جذرية، حيث عمل على الاستفادة من سياسات الشفقة ومن العقل الإنسانوي الغربي عبر استعادة المتخيّل السياسي - الذي صاغته الحركة الصهيونية كجماعة متخيّلة وعاطفية - والمتعلق بــ "الهولوكوست" و"معاداة السامية"، إلى حدّ دفع بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى التعاطف مع "ضحايا" هجوم "حماس" بوصفه يهودياً، وهو أمر يساعد، في كل مرة، على ترسيخ سردية الضحية التي يعمل الاحتلال على استدامتها في محيط عربي يصوّره بأنه معادٍ ويريد إبادة اليهود.
في المقابل، تتغاضى النخب الإعلامية والسياسية الغربية على حقيقة تاريخية مفادها أن المحرقة اليهودية وعذابات اليهود في أوروبا هي نتاج حداثي، وتمّت بأدوات الحداثة نفسها ووفق منطقها، مثلما بيّن ذلك زيغمونت باومان في كتابه "الهولوكوست والحداثة".
ففكرة الإبادة فكرة حديثة ومنتج من منتجات العقل الأداتي الغربي، وهو العقل نفسه الذي يعمل على إبادة الفلسطينيين في غزة من خلال تمثّلهم كحيوات غير نافعة اجتماعياً، بل كـــ "حيوانات بشرية"، على حد تعبير وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت.
هنا تكمن تناقضات العقل الإنسانوي الغربي، حيث يعمل على بناء تقسيم عالمي غير متساوٍ للعواطف والقيم على نحو يقيم فيه حدوداً فاصلة بين "نحن" و"هم". أي نحن "اللإنسية" و"هم" فاقدو القيم والإنسانية. هذا الأمر يجعل من الحرب التي يشنها الاحتلال على غزة لا تتم فقط على قاعدة إرادة التوسّع الاستعماري، بل أيضاً على قاعدة مانوية تقوم على ثنائية الخير ضد الشر، وهي ثنائية مستبطنة داخل النظام الرمزي اليهودي والمسيحي، وبالطريقة نفسها لدى اليمين الصهيوني الذي لا يتوانى عن توظيف مشاعر الخوف والاشمئزاز من أجل ترسيخ سلطته.
وهو أمر لا يمكن تفسيره أيضاً خارج الخلل والانحرافات التي تعرفها الديمقراطيات الحديثة. إذ تتراجع السردية الديمقراطية لصالح صعود الشعبوية في السياق الغربي، بما يعنيه ذلك من تنامٍ لنزعات العنصرية والشوفينية والقومية، وهو حال الكيان الصهيوني الذي يعرف منذ سبعينيات القرن الماضي تنامياً للتيارات اليمينية الدينية بسبب التشظي والانقسامات داخل المجتمع الصهيوني، والتطبيق المفرط للسياسات النيوليبرالية. فالحرب ضد غزة هي حرب تتحالف فيها النيوليبرالية الاقتصادية مع الشعبوية القومية والدينية، علاوة على النزعة التوسعية الاستعمارية التي لا يتوانى الخطاب الغربي (في صيغته النيوليبرالية) عن إخفائها، عبر آلية سياسات الشفقة التي تحكم العقل الإنسانوي الذي تبيّن أنه يشتغل وفق منطق تقسيم عالمي غير عادل للعواطف.
غزة: أوقفوا التدمير مؤقتاً كي نوزّع المساعدات
يتعاطى العقل الإنسانوي الغربي مع الأزمات والحروب على قاعدة أنطولوجية غير متساوية، تميّز بين الشعوب الغنية والشعوب الفقيرة. ففي حال الشعوب الغنية (الشعوب الغربية في هذه الحال)، يتم التعاطي مع الضحايا بوصفهم ذواتاً إنسانية لها قصص ومسارات حياة وهو ما تبيّن على أثر عملية "طوفان الأقصى".
فقد تعاطى الغرب الإعلامي والسياسي مع من سماهم ضحايا الهجوم بوصفهم مواطنين وأفراداً لهم هويات ووجوه مكشوفة تستحق أن تذرف من أجلها الدموع، في حين يذهب العقل الإنسانوي، حين يتعلق الأمر بالشعوب الفقيرة، إلى التعاطي مع آلامها على قاعدة الجموع والحشود، وهذا ما يجري اليوم في غزة، حيث يبدو الضحايا كجموع بلا أسماء، ولا ذاكرة، ولا قصص ولا آمال.
هذا هو الاتجاه ذاته الذي تسير به منظمات الإغاثة الأممية وغير الحكومية التي تتعاطى مع الحرب على غزة من منطلق "العقل الإنسانوي"، لكن في اتجاه عكسي يعمل على مراعاة الحياة البيولوجية للضحايا بدلاً من الاهتمام بحياتهم البيوغرافية التي يمنح عبرها ضحايا الحرب معنى لوجودهم، وأنه بشر يمكنهم القول والكلام.
هذا ما تتجاهله منظمات الإغاثة في تعاطيها مع ضحايا الحروب في العالم الثالث، مما يعني أن "سياسات الشفقة" التي تتبناها هذه المنظمات تضع الوضع الاستعماري خارج حساباتها، وتتموقع خارج أي نطاق سياسي بادّعاء أن نشاطها يتم داخل نظام إيتيقي (أخلاقي) غير مسيس، وهو ادّعاء مخادع، على اعتبار أن الفعل الإغاثي يعيد إنتاج علاقات الهمينة بين المانحين الغربيين وضحايا الحرب التي تريد منظمات الإغاثة أن تضعهم خارج الوضع الاستعماري.
كما أنها تنزع عن الضحايا أي مرئية اجتماعية (وهي مرئية سياسية) يظهرون فيها بلا وجه. إذا أردنا أن نتحدث بلغة الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس، حيث يعني الوجه الحق في الكلام وفي المقاومة وأن ليس لأحد القدرة على امتلاكه، فإن ما تقوم به المنظمات الإغاثية في غزة هو جعل الفلسطينيين مجرد حالة إنسانية لا تستحق الاعتراف بل الشفقة التي تنزع عنهم الحق في الكلام والحق في المقاومة.
على هذا النحو يغدو العقل الإغاثي، بما هو جزء من السردية الإنسانوية، أداة سياسية تستخدمها القوى الغربية لإثبات تفوّق "أخلاقي" و"قيمي". وهو ما يفسر الدعوات إلى هدنة مؤقتة لإدخال المساعدات من بعض الدول الغربية الداعمة لحرب الكيان الصهيوني. ذلك أن النظام الأخلاقي الغربي يشكّل مجالاً حيوياً واستراتيجياً يجب المحافظة على تفوّقه.
وعليه، لا يمكن فصل المنظمات الإغاثية والأممية عن النظام الأخلاقي الغربي الذي يظهر كأداة فعّالة للهيمنة ونزع التسييس عن حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني. إلا أنه يستخدم كطريقة سياسية لإدارة المعاناة والألم (الذي تصنعه المنظومة العالمية النيوليبرالية)، ضمن سوق معولمة للقيم الإغاثية تستفيد منها الكثير من الشركات والمانحين الدوليين.
النظام العربي الرسمي: التواطؤ مع العقل الإغاثي
إذا كان العقل الإغاثي الغربي يعمل جاهداً، وعبر سياسات الشفقة، على نزع التسييس عن القضية الفلسطينية عموماً، والتعاطي معها كحالة إنسانية منزوعة الدلالات السياسية، فإن "النظام العربي الرسمي" يدفع باتجاه الإبقاء عليها كحالة عاطفية يتم الاستثمار فيها في اتجاهات متعددة سياسية واقتصادية وأيديولوجية.
وهنا يتقاطع النظام العربي الرسمي مع منطق العقل الإغاثي، حيث دفعت الحرب في غزة معظم الأنظمة العربية إلى السماح بمربّع حركة للمنظمات الإغاثية المحلية التي أُذِن لها بجمع تبرّعات من أجل إرسالها إلى غزة.
وهو ما يرسّخ حالة "تضامن أخلاقي" لا تزعج السلطات القائمة. ذلك أن "النظام العربي الرسمي" يدرك أن عجزه السياسي المتوارث بخصوص القضية الفلسطينية، لا يمكن مواجهته إلا عبر تعويضه بادعاءات أخلاقية تحيل إلى بنى عاطفية تكتفي بالإدانة والتضامن، والدعوة إلى إيقاف إطلاق النار والسماح بإدخال المساعدات.