"شكلك كدا من إياهم".. فلسطين كمعادل للشرف عند بهاء طاهر
أخرج القضية الفلسطينية إلى فضاء المبادئ الإنسانية. كيف أصبحت فلسطين معادلاً للشرف العربي عند بهاء طاهر؟
لم يكن حصول بهاء طاهر على درع "غسان كنفاني للرواية العربية"، والممنوحة من جانب وزارة الثقافة الفلسطينية عام 2021، من قبيل المصادفة، وإنما كانت الجائزة انعكاساً طبيعياً وتتويجاً لانشغال منتجه الإبداعي بالقضية الفلسطينية وحضورها ضمن نسيج الحياة اليومية والعادية لأبطاله، وخصوصاً في روايتيه "الحب في المنفى" و"شرق النخيل".
لقد أخرج بهاء طاهر القضية الفلسطينية إلى فضاء المبادئ الإنسانية الذي يتسع لإظهار أبعادها بدرجة كافية ليتفاعل معها كل صاحب عقل سوي، ويتمكن من التفاعل مع مكوناتها الإنسانية بكل ما تحمله من تضحيات وتفاصيل يومية ومصائر. ولعل ما ساعد طاهر على ذلك كان عدم الاستسلام لأي لغة خطابية قد تغري الكاتب وهو يتناول قضاياه الكبرى، وإنما كان تناوله رهيفاً من خلال شخوص حية من ألفاظ ولحم ودم.
"شكلك كدا من إياهم".. فلسطين كمعادل للشرف
من خلال شخصية "سوزي"، فتاة الليل في "شرق النخيل"، وصحافي ناصري حالم ومحبط في "الحب في المنفى"، استطاع بهاء طاهر أن يرسم الصورة الأبرز لحضور فلسطين كمعادل للشرف العربي، وكمقياس يمكن الاستعانة به في التعرف إلى درجة إنسانية الإنسان عموماً.
فعلى لسان "سوزي" نتعرف إلى افتخارها بأنها للمرة الأولى متهمة بحب فلسطين وبالانتماء إلى القضية العربية، كأنها على هذه الحال ستدركها كل فرص التطهر.
تمثل سوزي ذروة تأثير القضية الفلسطينية في كل شخوص الرواية، ابتداءً من عدم معرفتها بأي شيء ومداعبة سمير لعقلها "يكلمني أنا الجاهلة عن السياسة واليهود وفلسطين، وأحياناً يبكي، سمير. سمير الذي لم يكن يعرف غير الضحك والفرح بعض ساعات يبكي وأنا.. أنا خائفة عليه"، وصولاً إلى حالة الفخر بأنها لأول مرة متهمة بحب الأرض، كتهمة تحيل على كل ما هو شريف، فكانت للمرة الأولى تسمع من الضابط كلمة "من إياهم"، أي أن مظهرها ووجودها في منطقة المظاهرات بالقرب من الطلاب والمناضلين قد يوحيان في أنها تنتمي إلى القضية؛ لا من فتيات الليل كما اعتادت أن توجَّه إليها الاتهامات، وبالتعبير ذاته "من إياهم".
"عصام الفلاني".. عن فلسطين والشبهات المؤلمة
لم يفت بهاء طاهر، وهو يضمّن روايته محتوى معرفياً عن القضية الفلسطينية، أن يفند الشبهات الساذجة التي يتناولها الجاهلون ويتوارثونها. ففي "شرق النخيل"، على سبيل المثال، ومن خلال شخصية "عصام"، الشاب الفلسطيني الطالب في كلية الهندسة في القاهرة، يناقش كذبة بيع الفلسطينيين أراضيهم.
هكذا يشتبك التاريخ الشخصي للبطل الشاب المصري وصديقه الفلسطيني، بالتاريخ النضالي في مصر وفلسطين، ابتداءً من تعارفهما: "في تلك الأيام كان يشاركني غرفتي في شقتنا المزدحمة طالب هندسة فلسطيني خجول اسمه عصام يدمن القراءة وينصحني أنا أيضاً بأن اقرأ فأسخر منه"، وصولاً إلى نهاية الحكاية مع استشهاد عصام الفلاني، بكل ما تحمله إشارة "الفلاني" من دلالات عامة مفتوحة على إنسان فلسطيني.
ورويداً رويداً يمزج بهاء طاهر بين الرأي العام المصري عن هزيمة 67 وبين نكبة 48، عن طريق إبراز مكونات آراء الشخصية الروائية، من خلال ما تتلقفه وتسمعه من أحاديث الناس، فتكون الهزيمة نكسة، والنكسة صدفة، والفلسطينيون باعوا أرضهم لليهود. والعرب يخونون مصر ويتخلون عنها في كل حرب، ثم يعلق "سمعت آخرين يرددون ذلك بكل ثقة ففعلت مثلهم من دون أن أشغل نفسي بالقراءة أو مجرد التفكير فيه".
عن طريق مزاح متداول بين كثير من السطحيين، يقول بهاء طاهر، على لسان بطله: "أنتم بعتم أرضكم لليهود فلا داعي للتظاهر بالحزن ولا بعبارات الوطن السليب وعائدين وأجراس العودة وما أشبه. ولكن لا تهتم يا عصام فنحن سنحرر لكم الوطن السليب ونعيدكم إليه رغم أنوفكم، سنحرمكم من الثروات الفاحشة التي تجمعونها وأنتم تتظاهرون أنكم لاجئون مساكين...".
يفند طاهر في موضع آخر كل الترهات على لسان عصام، الذي تحدث إلى سمير كأنه يعطيه درساً عن كيف باع جده وأبوه أرض فلسطين، "...أخذ عصام يكلمني بصوت مرتفع ببطء وهو يشوح بيديه كأنه يعلم درساً لطفل. قال لي أنا من قرية اسمها حلحول في فلسطين يا سمير. كان الإنكليز يحتلون فلسطين ووعدوا بها اليهود يا سمير. بدأوا يهجرون اليهود لفلسطين ويعطونهم الأرض والسلاح فثار الناس وحملوا السلاح ليدافعوا عن أرضهم يا سمير. بهذه الطريقة بدأ عصام يحكي لي عن أسرته في حلحول...".
تخلق الرواية لعصام المساحة الفنية الملائمة ليروي الحكاية الأصلية عن جده ثم أبيه اللذين ماتا من دون العودة إلى أرض حلحلول، على نحو يشكل نموذجاً مصغراً عن الأزمة الفلسطينية، يعمل الأدب على توظيفه معرفياً وتوعوياً، بحيث يقول: "قال لي إنه عندما حدثت ثورة في فلسطين على هجرة اليهود، أراد الإنكليز أن يؤدبوا الفلسطينيين ليعرفوا أن الوعد بمنح بلادهم لليهود ليس كذبة. وكانت حلحول بين القرى التي أدبوها. ذات يوم جاء جنود الاحتلال للقرية الصغيرة...". ومن خلال الحكاية تظهر الأرض بطلاً وحيداً للحكاية الفلسطينية، على عكس الرواية التي أرادها العدو أن تنتشر بين العرب عموماً، والمصريين خصوصاً.
ثم تأتي نهاية حكاية عصام عن أبيه وجده مفتاحاً لإيقاظ وعي سمير ودفعه إلى الاشتباك مع التاريخ خصوصاً، والمعرفة بوجه عام: "وكان جدي ضمن من ماتوا هناك يا سمير وهكذا باع جدي أرض فلسطين"، ثم عن أبيه في حرب عام 1948، "وبدأ الناس يهاجرون ورفض أبو عصام. قال لمن معه إن كان علينا أن نموت فلنمت ونحن ندافع عن أرضنا ولا داعي لأن نموت ضحايا كما مات آباؤنا. كان واحداً ممن حملوا بنادقهم وأجسامهم أمام دبابات اليهود وسقطوا هناك من دون أن يذكر أسماءهمم أحد".
ثم يأتي استشهاد عصام نفسه ليكون الترجمة العملية لكل ما فعله والده وجده، فيقرأ سمير نعيه في الصحيفة ويكتب كلمة صغيرة في انفعال حزنه، تحول مسار حياته بالكامل.
وكي يكتب سمير، الضائع المستهتر سابقاً، لم يكن أمامه من حلول سوى قراءة ولو شيء يسير عن فلسطين وعن حلحول، حتى يتحول بالكامل إلى شخص آخر يرى حلحول في مصر ومصر في فلسطين ويرى آلافاً من أجداده ماتوا مثل جد عصام، وآلافاً من آبائنا ماتوا كأبيه، وأن المصيبة واحدة والهم واحد.
جمال عبد الناصر وجذور أسئلة القضية العربية
في الثلث الأول من رواية "الحب في المنفى" يقدم بهاء طاهر مقترحاً لإعادة قراءة فترة الستينينات مرة أخرى، مع النظر في المشاهد التي كوّنت الحلم العربي وكبرت معه حتى صارت أيديولوجيا مستقلة لخّصها الكثيرون في صورة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وتأثير هذه المقدمات فيما عاشته الأمة العربية من الثمانينيات حتى الآن.
يختزل بهاء طاهر، من خلال مراحل حياة بطله، كل مراحل الحلم، فلم يكن يستطيع التعبير طوال الوقت: "جربت القلم الرصاص الذي أكتب به ثم بريت أقلاماً أخرى ووضعتها إلى جانب دفتر الكتابة"، فحين أراد التعبير عن القضية لم يكن وحده فيقول "نظرت إلى صورة خالد وهنادي، ثم رفعت نظري إلى عبد الناصر المبتسم وسألته ماذا أكتب؟".
وصولاً إلى تحطيمه صورة عبد الناصر، والذي يمثل هنا تحطيمه للأمل العربي اليوتوبي في أمة عربية متوحدة يحمل مغربيوها هموم مشرقها، مروراً بانتحار الشاعر خليل حاوي في الصبيحة نفسها لاجتياح الجيش الإسرائيلي لبنان.
يتحول الصحافي المناضل من إنسان ينتمي إلى المشروع الناصري ويؤمن به، إلى إنسان يفقد الإيمان بكل شيء ويلوم نفسه على اتخاذ بعض المواقف الحاسمة مع السادات. كان التمهيد لهذا التحول الذي ستظهر نتائجه في بداية الحديث عن الحرب في لبنان وأزمة فلسطين وتدويلها، باعتبارها قضية إسلامية فقط لا غير، وهو ما يفنده بهاء طاهر من خلال أكثر من معادل، مثل ابنه الذي صار يحرّم لعب "الشطرنج"، أو تاريخ الشخصية مع الإسلاميين داخل الحرم الجامعي في السبعينيات، بحيث كان يعتدي أصحاب الجلابيب عليه وعلى أصدقائه بقبضات حديدية تحت أعين الحرس الجامعي.
القضية الفلسطينية كمعادل لقضية العدل الإنساني
أمّا في روايته "الحب في المنفى"، فمهّد الكاتب المصري للقضية الفلسطيينية باعتنائه بتسليط الضوء على أزمات الأفريقيين في أوروبا عموماً، وفي النمسا في مصانع الكاكاو والشوكولاته على وجه التحديد، فأتى على كفاح بور سعيد ضد الإنكليز، وغزو روسيا للمجر والحرب الإسبانية، وكل ما حدث من تشريد للناس وتقتيلهم.
جاء أول ذكر للقضية الفلسطينية في الصفحة الـ45: "هذه حالات عن بعض الفلسطينيين واللبنانيين الذين تخطفهم دوريات إسرائيل من جنوب لبنان بمساعدة جيش سعد حداد..."، وكأن هذا الحضور هو على سبيل التمهيد قبل أن تتوالى الإشارات إلى الحروب والنزاعات التي تتجاوز بفلسطين حيزها الضيق، عروبياً ودينياً، إلى رحابة التناول الإنساني للقضية، فيشير من خلال نقاشات إبراهيم، الصحافي العروبي الناصري المنفصل عن زوجته إلى الحرب في إسبانيا "بما كانت تمثله كحلم بعالم جديد.. عالم متحد ضد الديكتاتورية وضد الظلم.. الحلم الذي انهار وإن بقيت لنا منه الرموز....".
ربما دعمت الرواية قضية فلسطين عبر الاهتمام بغيرها، كالإشارة إلى حروب تشيكوسلوفاكيا، ومأساة ستاد شيلي، وأنهار إندونيسيا التي صارت حمراء، وأم صابر التي قتلها الإنكليز هي وأولادها، وغزو المجر حين كذب القادة الروس على جنودهم وأخبروهم بأنهم يحاربون الإنكليز في بور سعيد في مصر، ولم يخبروهم بأنهم الآن يسيطرون على بودابست!
من خلال ذلك كله نجحت "الحب في المنفى" في ربط القضية الفلسطينية بعنقود القضايا الإنسانية التي لا تستسلم للنسيان؛ عبر المزج بينها وبين الهَمّ الشخصي للبطل وهو الخارج من تجربتين ناصرية وساداتية، كانتا عنيفتين في تحولاتهما ومكوناتهما.
حاول بهاء طاهر أن يقف في كل الزوايا ليلتقط الحكاية من خلال كل منظور ممكن، فمن خلال بريجيت، في "الحب في المنفى"، نرى النموذج اللامبالي، والذي يصرح "لا أقرأ صحفاً وليس في بيتي راديو ولا تلفزيون. أنا لا أريد أن أعرف شيئاً عن هذا العالم المجنون الذي لا أفهمه. ألم تكن أنت الذي قلت لي في أول لقاء بيننا إن هذه الحياة كذبة؟".