سردية مغايرة.. الصدر: سحر ما فوق الغياب (2 - 2)

ظهر انفتاح السيد الصدر وحركته الميدانية في سلسلة المحاضرات التي قدّمها في الجامعة الأميركية في بيروت. وكان يعلم أنه يخاطب شريحة مشكّكة في الفكر الديني ككلّ.

  • الامام الصدر
    كتاب "الصدر سحر ما فوق الغياب"

ربما يكشف كتاب "الصدر سحر ما فوق الغياب"، الجوانب المخفية من شخصية الإمام وثورته على الحرمان ببعدها الإنمائي والإنساني، وحسناً  العودة إلى مبادئ وقيم الإمام موسى الصدر. 

إن الجهود التي بذلها الصدر على مدار سنوات خلال وجوده في لبنان، والتجربة الغنية له في السياسة والاجتماع والتوجيه والإصلاح الديني، والعلاقات الدولية، جعلته محط أنظار الجميع، بفعل علاقاته الواسعة، خصوصاً في الأوساط العربية. وهذا ما كان يعوّل عليه الإمام الخميني لمواكبة حالة الاستنهاض في المنطقة بأسرها. إلا أنّ القدر شاء إخفاءه مع دخول الثورة منعطفاً حاسماً في صراعها مع الشاه. 

ثقافتان وهمّ واحد

تكشف الأديبة سیمین دانشور أن الإمام موسى الصدر الذي جمع في شخصيته اللبنانية والإيرانية الثقافتين العربية والفارسية، وتمكّن من تشكيل تيار سياسي حاز شعبية استمرت أكثر بعد اختفائه في ليبيا، في آب/أغسطس 1978. إلا أن الباحثين العرب لم يسلّطوا الضوء على الجانب الفارسي من شخصية الإمام الصدر لأسباب سياسية. لكنّ الرجل الذي ولد وتعلّم في إيران، وأتقن لغتها، حمل هواجسها السياسية والأدبية والاجتماعية وربما يكون اهتمامه بنقل رواية "سيمين دانشور" إلى العربية يأتي ضمن رؤيته الفكرية الخاصة عن المرأة والحريات.

رحلة مع المعاناة في لبنان

في لبنان، أعطى الإمام الصدر المرأة دوراً أساسياً في العمل الاجتماعي والتنموي، فاستحدث للسيدات دورات في محو الأمية، وفي تعليم الخياطة والتمريض. ونجح لسنوات في القضاء على ظاهرة التسوّل في مدينة صور وضواحيها، من خلال مشروع دعم يتضمّن برامج صحية - اجتماعية، وإنشاء صندوق الصدقة. وفي هذه المرحلة وطّد الإمام علاقاته واتصالاته مع مغتربين شيعة ورجال أعمال في لبنان لدعم المشاريع التنموية اجتماعياً وتربوياً واقتصادياً.

في شهر كانون الأول/ديسمبر من العام 1962 وضع الإمام الحجر الأساس لمهنية جبل عامل، لينطلق التدريس فيها في العام الدراسي 1969-1970 مع عدد من الأساتذة، منهم الشهيد الدكتور مصطفى شمران الذي كان في مهمة ثانية هي نصرة فلسطين فقال له الصدر: هل تريد نصرة فلسطين؟ اذهب إلى المؤسسة". ليبقى فيها حتى مغادرته إلى إيران. كان للمؤسسة الدور الأساسي في تأطير الطاقات الشابة في مجالات كانت الأرياف بأشد الحاجة إليها، وبالطبع كانت من الروافد الرئيسية لخط المحرومين، ومن ثم حركة أمل...

إقرأ أيضاً: الإمام موسى الصدر وتأسيس مجتمع المقاومة

وكذلك كان الأمر مع جمعية "البرّ والإحسان" التي كانت خير معين لخطط "الإمام"، بعد أن جدد نظامها وأهدافها، واستحدث فيها طرقاً جديدة في العمل. يذكر أن السيد عبد الحسين شرف الدين هو من أسسها.

عرف عن الصدر انفتاحه الديني، كما عرف عنه اجتهاده في بعض المسائل. مؤكداً ضرورة تسهيل إصدار قانون نقل الأعضاء. وسعى إلى إقرار هذا المشروع، بعد إجراء أول عملية زرع كلية في لبنان، بعد أن اكتشف أن لا قوانين في لبنان ترعى عملية نقل الأعضاء.

في الثامن من حزيران/يونيو من العام 1963، شارك في قدّاس أقيم في مدينة صور عن روح قداسة البابا يوحنا الثالث والعشرين. فأدهش الحضور بشرحه رسالة البابا الراحل، "السلام على الأرض"، وعن علاقة الإنسان بالدين. ثم دعي، بعد شهر لحضور مراسم تتويج قداسة البابا بولس السادس، وكان رجل الدين المسلم الوحيد الحاضر في هذه المناسبة. بالطبع لم يكن الأمر ليمرّ مرور الكرام في الحوزات العلمية في قم وفي النجف، حيث راح بعض رجال الدين يطعنون بـ"الإمام"، ويشكّك بعضهم في علمه وفي مكانته، كما أوصلوا الشكوى إلى المرجع السيد الحكيم الذي قال لمراجعيه بأنه يثق بـ"الصدر"، وأنه يثق كذلك بأن هذا الرجل لن يقدم على شيء مخالف للإسلام، أما عن زيارة الإمام إلى روسيا للقاء بطريرك الأرثوذوكس، فيروي مصطفى شمران أن البطريك تحرّك لاستقبال الصدر بما يتخطّى البروتوكول المعتمد، وقد ودّعه أيضاً بطريقة خارقة للبروتوكول، وهذا لقوة شخصية الإمام وقدراته النافذة، وسحر حضوره. 

حصل الإمام الصدر، بعد انتظار على الجنسية اللبنانية بمرسوم من الرئيس فؤاد شهاب، في الحادي والثلاثين من شهر تموز/يوليو 1965.

في العام 1966، وتحديداً في 15 آب/أغسطس، عقد مؤتمراً بيّن فيه الأسباب الموجبة لتنظيم الطائفة الشيعية، وذلك بعد دراسات واستشارات وتحرّكات مكثّفة. الأمر الذي دفع مجلس النواب اللبناني إلى إقرار قانون إنشاء "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى" في العام 1967. وكانت هذه الخطوة مقدّمة لحركة مطلبية إنمائية لبنانية عامة. في بداية ولايته عمل الإمام الصدر على تأمين مقر لـ"المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى" في الحازمية في ضاحية بيروت الشرقية الجنوبية. 

ملك "السيد" أوقاف الطائفة وعقاراً ثانياً في ضاحية بيروت الغربية الجنوبية في خلدة، مساحته 7904 أمتار مربّعة. وهو بناء مؤلف من سبعة طوابق أطلق عليه اسم "مدينة الزهراء الثقافية والمهنية".

وأمّن لمشاريع المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الانتفاع من قطعة أرض مساحتها 15034 متراً مربّعاً، من مشاعات منطقة "الغبيري الجناح"، في ضاحية بيروت الغربية الجنوبية، وأنشأ عليها "مستشفى الزهراء" التابع للمجلس.

واشترى مئة وتسعين ألف متر مربّع من الأراضي في "الوردانية"، طريق "صيدا - بيروت"، لتشييد مؤسسات اجتماعية وثقافية، ومهنية وسجّل ملكية هذه الأراضي باسم أوقاف الطائفة.

إقرأ أيضاً: الإمام موسى الصدر وتجربته في لبنان

كما اشترى تسعمئة ألف متر مربّع في "اللبوة - بعلبك" لصالح جمعية البر والإحسان" ذات المنفعة العامة، كذلك في صور شيّد مدرسة فنية زراعية  وأنشأ مشاريع أخرى لاحقاً.

وعمل على توسيع منشآت وتجهيزات جميعة "البر والإحسان" في صور، وأنشأ المدرسة الفنية العالية للتمريض.

أقام مبرة الإمام الخوئي لرعاية أبناء الشهداء في منطقة برج البراجنة، من ضاحية بيروت الجنوبية، وفي بعلبك والهرمل، كما أقام مراكز صحية في برج البراجنة، وحي السلم وفي صور، كما بنى مدرسة للتعليم الديني سماها معهد الدراسات الإسلامية، وهي حوزة علمية.

قدّرت قيمة هذه العقارات والمنشآت والتجهيزات، آنذاك، بأكثر من مئة مليون ليرة لبنانية.

وتمظهر انفتاح السيد الصدر وحركته الميدانية سلسلة في المحاضرات التي قدّمها في الجامعة الأميركية في بيروت. وكان يعلم أنه يخاطب شريحة مشكّكة في الفكر الديني ككلّ.

لذلك كان وقع كلماته صادماً لما فيها من أبعاد علمية وأمثلة معاصرة، واستشهادات بكبار العلماء والمفكّرين والمخترعين، فقد أراد أن يغيّر الصورة النمطية لرجل الدين وكان خير أنموذج في قدراته، وفي استنباطاته.

في 22 أيار/مايو 1969 ، انتخب رئيساً للمرة الأولى لـ"المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى"، وأعلن برنامج العمل لهذا المجلس.

توحيد الموقف الإسلامي

وفي الأول من تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، وجّه رسالة إلى مفتي الجمهورية اللبنانية الراحل سماحة الشيخ حسن خالد، دعاه فيها إلى جمع الكلمة لتوحيد الطاقات ولتنمية الكفاءات، واقترح عليه أن يوحّدا الشعائر العبادية الإسلامية تمهيداً للهدف الأسمى ألا وهو الوحدة في الفقه والمساعي المشتركة، والموقف الموحّد في قضايا المسلمين عامة ولبنان خاصةً. ولقد تضمّنت رسالته هذه اقتراحاً واضحاً في الاعتماد على الطرق العلمية الحديثة لاكتشاف وجود الهلال في الأفق في زاوية محدّدة، وصولاً إلى رؤية الهلال وتحديد يوم العيد بصورة دقيقة، وتواصلت جهود العالمان المرجعان إلى حل كثير من المشكلات وإلى تقريب وجهات النظر والوصول إلى صيغة موحّدة للأذان على الإذاعة اللبنانية، لكن لم تأخذ طريقها إلى التنفيذ.

وفي 7 آذار/مارس 1970 انتخب عضواً دائماً في المجلس الدائم لمؤتمر "مجمع البحوث العلمية الإسلامية". وفي الـ 11 من شهر آذار/مارس من ذلك العام، حلّ الإمام الصدر ضيفاً في بيت الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وامتدت الجلسة بينهما إلى ما يفوق الساعات الثلاث تمحور الكلام فيها حول قضايا الأمة العربية والإسلامية الراهنة لجهة تمتين الوحدة الإسلامية والعربية في سبيل توحيد الجهود في مواجهة العدوانية الصهيونية، وتحرير فلسطين، وتمتين الوحدة اللبنانية والحرص على تأكيد تنظيم العلاقات بين لبنان والمقاومة الفلسطينية.

في الـ30 من حزيران/يونيو 1973 ، دعا إلى اعتماد النظام المدني المؤمن كبديل عن النظامين الطائفي والعلماني. وكان هذا الطرح خير معين للباحث الإيراني "مهدي شاكري" الذي قدّم رسالة الدكتوراه في فرنسا تحت عنوان "عن العلمانية، مبادؤها الدينية، مقارنة بين الكاثوليك والشيعة". طرح لم يجد له الباحث من مراجع سوى في أقوال وأفعال موسى الصدر.

في 9 تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، دعا إلى الجهاد عند اندلاع حرب رمضان وقاد حملة تبرعات لنصرة المجاهدين.

وفي العام نفسه،1973، حصل العلويون في سوريا على فتوى من الإمام موسى الصدر تؤكّد "أن العلويين اثني عشريين"، بعد أحاديث كثيرة كانت تقسو عليهم، كونهم يحملون بعداً باطنياً في كثير من الرموز والدلالات الخاصة التي تسمح للآخر بحبك الأساطير حول معتقدهم.

في 17 آذار/مارس عام  1974، أقسم مئة ألف شخص معه في مهرجان "بعلبك" على عدم الهدوء، حتى لا يبقى محروم أو منطقة محرومة في لبنان، فكانت النتيجة ولادة "حركة المحرومين".

 نجح الصدر بشخصيته "البراغماتية" التي تسعى إلى الهدف من دون التورّط في الخلافات والتجاذبات. فكان صديقاً لكلّ الطبقة السياسية اللبنانية، واستطاع أن يبني علاقات ممتازة مع سوريا والجزائر، ومصر، وجيدة مع السعودية، والكويت. ولم يجد الصدر مانعاً من فتح قنوات اتصال وتواصل مع سفراء ووزراء من دول الشرق والغرب، فهو بالأساس ليس مشروعاً يسارياً، وبالطبع، ليس يمينياً أو انعزالياً كأنه قد اعتنق "أيديولوجية" الفعل الخدماتي التنموي الذي لا يحتاج إلى إسقاطات فلسفية، بقدر حاجته إلى الدعم المادي، والخبرات التي يتم توظيفها بشكل جيد مع حيّز للتجريب. فمجال تحرّكه كان في الساحات التقليدية التي لم تختبر الزراعات المختلفة، ولا الصناعات الجديدة ولذلك من يرصد مسار السيد الصدر أنه طرح في بعض الأماكن مشاريع جديدة مثل إمكانية زراعة الشاي في لبنان، أو تعليم النساء حياكة السجاد. ليتم لاحقاً تجاوز هذه الأفكار نحو تعزيز الدراسات المهنية، كون الجنوب والبقاع بحاجة إلى خبرات ميكانيكية وهندسية، وخبرات مهنية، كتصليح الأجهزة وتركيبها. بالإضافة إلى تعليم المرأة، أو على الأقل. محو أميتها.

 لقد رسم صورة رجل الدين، بما يتجاوز تلك الصورة التقليدية المنصرفة للشعائر والطقوس من دون ترجمة ميدانية تعبوية نهضوية. 

أما عن استراتيجية  الإمام الصدر فتؤكد شقيقته السيدة رباب الصدر أن عملية التنمية ضمن الفئات المحرومة كانت أولوية، وأنّ الإمام كان يردّد : لدينا صلاتان صلاة العبادات وصلاة الخدمات.

فكلّ تلك المخططات لم يكتب لها النجاح أو تحقيق ما حقّقته، لولا محبّة الناس للإمام الصدر"، ورغبة الأكثرية في التعاون معه. كان يعرف كيف يترك أثراً من خلال "الكاريزما" التي يتمتع بها، ومن خلال التواضع بالإضافة إلى ذاك السرّ في جرأته على الانفتاح، من دون أن يشعر أنه مطالب بتقديم تبريرات لأيّ مرجعية.

كان الصدر يمتلك مشروعاً بدأه في إيران، واستكمله في لبنان. وسنلاحظ ذلك الالتقاء مع مسار الدكتور علي شريعتي الذي أخذ حيّزاً واسعاً من اهتمام الناس في بناء أهداف ذات أبعاد اجتماعية وثقافية نهضوية.