رواية ليالي إشبيلية: كيف حرر صلاح الدين القدس؟
ما تهدف إليه هذه الرواية؛ هو توظيف الحادثة التاريخية لخدمة الحدث، سواء من خلال استجلاء الوقائع السالفة ودراستها وتحليلها، أو في محاولة فهم الواقع واستقراء المستقبل.
يبدو التاريخ مادةً غنيةً للروائيين، إذ تتحددُ به مضمون حكاياتهم . ويمثل الرجوع من خلاله إلى حقب زمنيةٍ بعيدةٍ خدمةً للفن، واستلهاماً لغاية إعادة تركيب الواقع، وفهم أحداثه، ذلك بأن الروائي يستقي منه ما يحتاج إليه، ويعيد صياغة معطياته ليجسد رؤيته وقراءته، وبالتالي إسقاط الحدث على الإطار المعاصر للحدث نفسه. ويبدو رجوع الكاتبة والروائية الفلسطينية نردين أبو نبعة (1973) إلى التاريخ بمنزلة نكوص ذهني لفهم الواقع. ففي روايتها الأخيرة، "ليالي إشبيلية"، الصادرة في طبعتها الحديثة عن دار كتوبيا (2024) تستلهم من التاريخ تفاصيل الحياة التي عاشها العرب والمسلمون في أثناء تفكك مدن الأندلس. وتنقل أهوال الفقر، ووحشية المحتل الصليبي المترافقة مع خيانة القادة وتآمرهم مع زعماء الفرنجة. وترصد كل الصور المشينة، والتي من شأنها أن تحمل على تعريف المحتل، وتشكيل صورته ونبذها، وتحرض على الثورة عليه.
"ها أنا أنتهي من كتابة قصتي، وأنا أستنشق هواءً مفعماً بالعزة، أسند رأسي على حائط البراق، الحائط الذي ربط رسول الله دابته به وعرج إلى السموات". تبدأ الكاتبة من تاريخ لا يُنسى؛ هو العاشر من حزيران/ يونيو عام 1967، ومن حارة المغاربة المحاذية للمسجد الأقصى، حيث جرت مجزرة صهيونية رُحِّل على إثرها أكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني، في ظروف مأسَوية بعد أن سوى الاحتلالُ بيوتهم أرضاً، وذوّب معالم الحي، وأحرق ما فيه. هكذا طُرد سكان حي المغاربة من بيوتهم نحو الفراغ، لتتحول تلك الحارة برمزيتها التاريخية إلى فضاء للقهر والنسيان. وحيّ المغاربة أحد الأحياء الأثرية في القدس القديمة، وهو ملاصق لحائط البراق، وأوقفه الملك نور الدين بن صلاح الدين الأيوبي عام 1193م على المغاربة الذين شاركوا في دحر الصليبيين، وكذلك للوافدين منهم إلى القدس من طلاب علم أو حجاج.
تتخذ الكاتبة من التخييل أداة في تلك المرحلة المفصلية من تاريخ القدس، وتجعله داعماً لنصها، إذ تُوقع بين يدي طفل من أطفال الحي النازحين مخطوطة نص قديم. وهي لكاتبها يونس الإشبيلي، ومن غير أن يُعرَف مصدره. وعلى اعتبار أن النص كان من محتويات حي المغاربة، فتلك دلالة على توظيف القصة التاريخية في المرحلة الحالية منها، إذ يقع القارئ في احتمال أن تكون المخطوطة متوارثة من عقود، وهي عقود تعود إلى أولئك المقاتلين المغاربة، ورجال الدين والعلم الذين لحقوا بحملة صلاح الدين الأيوبي تمهيداً لتحرير القدس. وبقوا فيها ليقوموا بتدوين الأحداث، وعاشت من بينها المخطوطة التي تتكئ عليها مفاصل الرواية بصورة كبيرة.
ويونس الإشبيلي، بحسب ما تشير الرواية، هو تجسيدٌ لشخصية الفقيه والمتصوف الملقب بشيخ المعلمين (أبي مدين الغوث التلمساني). وتتقصى الحكاية سيرة حياته، وظروف ولادته في إشبيلية حتى سفره إلى مدينة فاس في المغرب العربي، إذ تتلمذ فيها على أيدي مشايخها وعلمائها، وصولاً إلى سفره إلى بغداد ولقائه الشيخ المعروف عبد القادر الجيلاني. والإسقاطُ الذي تنشدهُ الكاتبة من تتبع تلك السيرة الذاتية الطويلة والمحفوفة بالأخطار والفقد، إنما غرضها البحث عن مجدٍ أضاعهُ المسلمون، وفي الحقيقة هو بحثٌ في صميمه عن الكرامة المهدورة، ذلك بأنها، من خلال عرض حياة الشيخ المعروف، تسلط الضوء على الظروف المحيطة به، ومنها مجازر الصليبين وهجوم الفرنجة على المسلمين الباقين في الأندلس. ومن بعدها تلك المجازر التي قام بها الصليبيون في ساحل بلاد الشام حتى القدس نفسها، بحيث كانت أخبار سقوط المدن في تلك المنطقة تصل إلى مسامع أهل المغرب. ومن أجل ذلك كان تجمع العلماء والفقهاء، وأُسست المدارس ودُعمت نشاطاتها. وشارك المجتمع الأهلي في الدعم، مادياً ومعنوياً، إلى جانب انتساب المقاتلين من أجل غاية واحدة، هي استعادة الأراضي المحتلة.
تظهر في الرواية عدوى التحدي والتمرد على الأوضاع السائدة، بدءاً بفاس، وصولاً إلى بغداد. وتتخلل ذلك مسحةٌ من القهر، وأجواءٌ تسلطَ عليها الوجوم، ذلك بأن الخسارات لجمت أفواه الجميع. في وقت أدى العلماء دورهم في عقد الآمال بشأن معركة الحق والباطل. وبشأن ذلك النسق يدور سؤال الرواية. فالحق الذي سلبه العدو في الأمس، نجده اليوم ضائعاً في أرض فلسطين، وهو الحق ذاته، عندما بقيت القدس تحت رحمة السفاحين ثمانيةً وثمانين عاماً، وفيها سُفكت دماء العرب، وسط صمت زعماء المسلمين وولاتهم وقادتهم. وكانت، أيضاً، ظروف الخيانة شبيهة بظروف التواطؤ والصمت إزاء عدوان اليوم. هذا ما تهدف إليه الرواية؛ وهو توظيف الحادثة التاريخية لخدمة الحدث، سواء من خلال استجلاء الوقائع السالفة ودراستها وتحليلها، أو في محاولة فهم الواقع واستقراء المستقبل. والحكاية، التي انتهت بفتح القدس بعد عقود من الظلم والقهر، تنتصر لمقولة، مفادها أن للباطل جولات وللحق جولة واحدة، إذ مهما ساد العدوان وتفشى، فإن للحق شمساً لا تغيب. وهنا لا يُخفي أيضاً الهدف الآخر من هذا النوع من الكتابة، وهو السعي لتنمية الوعي العربي اليوم. فزمن النيران باقٍ ما بقي الظلم، والثورة عليه، ومواجهته، هما بمنزلة نضج ونمو فكريين، وليسا مجرد صراع عسكري. لذا، فإن المقاومة يمكن أن تبني نسقها الفكري دوناً عن السياسة والحرب. هكذا يمسي التاريخ معلماً، ورافداً قوياً، وعنصراً أساسياً في دعم الواقع، وفي دعم الكتابة الروائية نفسها. إلى جانب منحها صبغة استشرافية ثاقبة. فالمجتمع العربي، اليوم، يشهد أزمات اقتصادية وصراعات سياسية تفتح الأبواب على فترة عصيبة، لكنها كما في الرواية ليست جديدة، وحدثت من قبل. وذاك الالتفاف على التاريخ والكتابة معاً، هو محاولة لسد الثُّغَر في الواقع، وإيصال رسالة، مفادها أن الحق لا يُحاز في يوم وليلة. وكما أن السقوط مدوٍّ وسريع، فإن عودة النهوض ثقيلة الخطى، لكنها آتية لا محالة. "أيعقلُ هذا الشبه بين جدي الذي قُطعت يدهُ ويونس الإشبيلي الذي قُطعت يده أيضاً؟ أي رابط بين ابطال الرواية في المخطوط وأبطال حي المغاربة؟ هل يجب أن نخطو الخطوات نفسها التي خطاها أجدادنا لنعود إلى القدس؟".