رحلة إلى «جحيم غزة» على ZETEO… الإبادة هي الوجه الحقيقي لـ"إسرائيل"

يضيء الشريط الوثائقي، ببلاغة وأمانة، على «المجتمع اليهودي الإسرائيلي» الذي بات أكثر وضوحاً وانسجاماً مع عقيدته وقناعاته، بعد 7 أكتوبر.  وإذا بالعقيدة المؤسسة للكيان الصهيوني، تتجلّى بوضوح خلف خطاب الانتقام والكراهية.

لا شك في أنكم شاهدتم وتشاهدون، بمزيج من اللوعة والغضب والقرف، بعض تلك المنشورات والصور والفيديوهات التي ينشرها جنود من جيش الغزاة، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، لتوثيق «مآثرهم». والمقصود بمآثرهم الجرائم والفظائع التي ارتكبوها في قطاع غزة على امتداد اشهر من التدمير والابادة، والاساءة المباشرة والممنهجة إلى أبسط القوانين والمعاهدات الدولية. هي جرائم يجاهرون بها ويفاخرون، ويتحدثون عنها بنشوة «الانتصار». 

إنتصار كاذب ووهمي طبعاً، ذلك أن جيش الغزاة الذي تقول الخرافة إنه «لا يهزم»، هُزم مرتين في غزة. هُزِمَ أمنياً وعسكرياً طبعاً منذ 7 أكتوبر، رغم تفوقه التكنولوجي والعسكري، وآلة التدمير والقتل الفظيعة التي يستقوي بها. وهُزِمَ أخلاقيّاً على مرأى من الكوكب أجمع، الذي كان حتى الأمس القريب، يصدق أن "الجيش الاسرائيلي" هو "الجيش الأكثر أخلاقية" في العالم.

تلك الهزيمة الأخلاقية يحاول أن يقاربها فيلم «التطرف الحقيقي في إسرائيل» (39 دقيقة و 41 ثانية). إنه أول وثائقي من انتاج منصّة Zeteo الاعلامية المستقلّة التي أطلقها، قبل 4 أشهر، الصحافي والكاتب السياسي البريطاني الشجاع، مهدي حسن، بعدما ضاقت به سبل الإعلام المهيمن (متمثلاً بمحطة MSNBC الأميركيّة)، لأنه شهد للحق في حرب الإبادة على غزّة، ومن خلال نقد الهيمنة الغربية بشكل عام.

يجسّ الفيلم (إنتاج Basement Films) نبض الكيان الغاصب والمجتمع "الاسرائيلي" بعد أشهر عديدة من حرب الابادة على غزة. يشتغل على كميّة من المنشورات التي شوهدت على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الإجتماعي، وتنقل بأمانة ودقة وقلّة حياء وصفاقة، وقائع المجزرة والتدمير ودوس القيم الإنسانيّة والكرامة البشريّة. ثم يحاول أن يفهم، بهدوء وحياد ظاهري، من هم هؤلاء "البشر" المفترضين، الذين راكموا هذا الكم من الفظائع، بارتكابها أولاً، ثم بالتلذذ في نقلها إلى العالم؟

الفريق الذي حقق الفيلم، وجل أعضائه حائز على جوائز مرموقة (حوار إينيغو جيلمور، إشراف فنّي، أو "ادارة المونتاج" كايت هاردي - باكلاي، مع آدم ساوندرز وإيلينا كارمن، تصوير كريم شاه)، قصد "إسرائيل" ليلتقي هؤلاء الجنود «الأشاوس»، أبطال هذه «النازية اليومية»، ونجوم استعراض «الابادة العادية». يتضمّن الشريط مقابلات حصرية مع مجموعة من الجنود الذين تفننوا في تصوير جرائمهم، ثم استمروا في المجاهرة بها، والدفاع عن «شرعيتها» من دون أي عقدة أو حَرج. 

هذه الوقاحة الاجرامية المتجذرة في بنية الوعي الصهيوني، تذكرنا بفيلم مهم آخر بعنوان «الطنطورة»، للمخرج الاسرائيلي ألون شوارتز (2022).  الطنطورة اسم قرية بحرية مجاورة لحيفا، شطبت عن الخريطة في العام 1948، وشهدت مجازر وحشية فظيعة (كتبت عنها الأديبة المصرية الراحلة رضوى عاشور رواية شهيرة بعنوان «الطنطوريّة»، «دار الشروق»، القاهرة، 2010).

تلك الجرائم عادت إلى الضوء بعد إكتشاف المقابر الجماعية تحت أنقاض البلدة التي باتت منتجعاً بحرياً «إسرائيلياً». والفيلم المستند إلى أبحاث المؤرخ تيدي كاتس - والأخير تحلّى بشجاعة تُشهد له في مواجهة كيان الاستيطان الاستعماري، وسحبت منه شهادته، وطُرد من جامعة حيفا في تسعينيات القرن الماضي، إذ لا اعتراف بـ «النكبة» في الرواية الرسمية الاسرائيلي - يتضمّن شهادات لمجندين في عصابات الهاغانا وسواها، هم اليوم متقاعدون تسعينيّون سعداء، يروون بالتفاصيل وبمنتهى الطبيعية، من دون أدنى ندم، فيما هم يضحكون ويتندرون، كيف ذبحوا الرجال والنساء، وكيف تفننوا في الاغتصاب والتعذيب والابادة.

بعد 76 عاماً على النكبة، لم يتغيّر شيء في الكيان الغاصب. الجيل الثالث من المستوطنين، يواصل «التطهير العرقي التدريجي» - بتعبير المؤرخ الاسرائيلي المتنكّر للكيان الصهيوني، إيلان بابيه، الذي دافع عن علميّة أبحاث تيدي كاتس - ويستأنف «التقاليد الصهيونية العريقة» نفسها في غزة. لكن لا حاجة هذه المرّة إلى باحثين ومؤرخين يأتون بعد نصف قرن آخر (أصلاً هل سيكون هناك شيء اسمه «إسرائيل» بعد نصف قرن؟) لإعادة تمثيل الجريمة. فجنود جيش الابادة يتولّون بأنفسهم توثيق جرائمهم وسردها، ويدافعون عنها بثقة واعتزاز وعن قناعة، وكل ذلك يظهره بمهارة فيلم «التطرف الحقيقي في إسرائيل». 

منشورات هؤلاء الجنود التي قادت صنّاع الفيلم إليهم، وقد شوهد بعضها ملايين المرات، تصوّر جنوداً يقتلون ويدنسون، يهينون الفلسطينيين المقيدين، وينهبون منازلهم ويستبيحون حرماتها ويدمرون محتوياتها بلا سبب، ويتندرون فيما هم يفجرون مدارس ومنازل وأحياء بأكملها، ويضحكون وهم يطلقون قذائف شديدة الانفجار على أحياء سكنية مكتظة. 

إلى جانب المقابلات مع الجنود الذين دافعوا بفخر عن أنفسهم وعن الصور ومقاطع الفيديو الخاصة بهم، وأكد بعضهم أن الفلسطيني إبادته أمر طبيعي ومقبول، يتضمن الفيلم مقابلات إضافية مع الجماعات المتطرفة الإسرائيلية، ومع سياسيين واعلاميين.

هكذا يضيء الشريط الوثائقي، ببلاغة وأمانة، على «المجتمع اليهودي الإسرائيلي» الذي بات أكثر وضوحاً وانسجاماً مع عقيدته وقناعاته، بعد 7 أكتوبر.  وإذا بالعقيدة المؤسسة للكيان الصهيوني، تتجلّى بوضوح خلف خطاب الانتقام والكراهية، وتطرح، حسب جيلمور، دليلنا في هذه الرحلة إلى جحيم الوعي الاسرائيلي، «علامات استفهام جدية حول أي إمكانية لتحقيق السلام والعدالة». نحن في هذا المقلب من العالم، نعرف من زمن بعيد، وتيقنّا بعد درس «أوسلو» وأخواته، أن خطاب «السلام» خديعة كبرى لحماية «إسرائيل» من قبل الغرب الجماعي الذي يشارك منذ 10 أشهر بالابادة في غزة! 

«لكن لماذا سمحت قيادة "الجيش" بنشر هذه الصور التي تجرّد الفلسطينيين من إنسانيتهم؟»، يسأل الصحافي جيلمور الذي يمسك بزمام الفيلم محاوراً ومعلّقاً. ببساطة، لأن الكيان الاسرائيلي كشف عن وجهه الحقيقي برأينا، ولم يعد لديه ما يخفيه، وتلك من علامات هزيمته وانهياره! 

المفكرة والمناضلة الكندية، نعومي كلاين، حيّت العمل «الذي يطرح أسئلة ملحة» بتعبيرها. أما جدعون ليفي، الصحافي في «هآرتس» الذي يتمايز خطابه نسبياً عن الايديولوجيا الصهيونية المهيمنة، ويشهد للحق في معظم الأحيان، وإن من موقعه المنتمي إلى الكيان، فقد كتب: «شاهد هذا الفيلم الوثائقي وسترى إسرائيل». ليفي على حق: هذا الفيلم الذي يُعرض حصرياً على موقع Zeteo (منصّة مهدي حسن اسمها مستعار من اللغة اليونانية، ويعني البحث أو السعي الحثيث)، كان يمكن أن يكون عنوانه: «الإبادة، أو الوجه الحقيقي لـ"إسرائيل"».

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.