ما هو دور "جيش الطلبة" في تحرير وَهْرَان من الاحتلال الإسباني؟

طال زمن احتلال وهران منذ سقوطها بيد الإسبان سنة 1509م، وزادت تداعيات احتلالها الاقتصادية والاجتماعية على البلاد سوءاً.

  • لعب
    لعب "جيش الطلبة" دوراً مهماً في تحرير وهران.

وبقربنا وَهْرَانُ ضرسٌ مؤلمٌ          سهلُ اقتلاعٍ في اعتناءِ يسيرِ

فانهض بعزمك نحوها مستنصرا        بالله في جد وفي تشميرِ

محمد بن أڨوجيل -عالم وشاعر جزائري من القرن 17م.

لم يكن سقوط غرناطة سنة 1492م إعلاناً لنهاية وجودٍ إسلاميٍّ طويل في الأندلس فحسب، وإنما شكَّل فعلياً بدايةً لمرحلةٍ جديدة في الغرب الإسلامي، عنوانها انتقال الحرب بين القوى المسيحية والمسلمين، من الأندلس إلى بلاد المغرب، أضحى مضيق جبل طارق على الحدود الجنوبية شبه الجزيرة الإيبيرية، والحد الفاصل بين ضفتي المتوسط الايبيرية المسيحية والمغربية الإسلامية (1). 

فلم يكد يبدأ القرن السادس عشر ميلادي حتى تحوَّل غرب المتوسط إلى ساحة صراعٍ عنيف لم يهدأ لثلاثة قرون، بين مشروع هيمنة طموح، وقوى حملت لواء مقاومته ومنعه من تحقيق أهدافه، كان من تداعيات هذا الصراع سقوط الثغور الساحلية لبلاد المغرب الواحدة تلو الأخرى بيد الإسبان والبرتغاليين، من خلال الغزو المباشر أو الإذعان لاتفاقيات هيمنة مُذِّلة، من أقصى نقطةٍ في المحيط الأطلسي إلى السواحل المتوسطية في المغرب الأقصى مَلِيلْيَة وجزيرة باديس، (بالإضافة إلى سَبْتَة التي سقطت مبكراً) التي لا تزال محتلة إلى الآن، إلى مُسْتَغَانِم وتِنْس وشَرْشَال والجزائر الصخرية قبالة ميناء الجزائر، وبِجَايَة وجِيجَل في السواحل الجزائرية وصولاً إلى مدينتي تونس وطرابلس. 

وكانت وَهْرَان، ومدينة المرسى الكبير المحاذية لها، واحدة من هذه الثغور التي وقعت بيد الإسبان، وآخر ثغر كَسر المقاومون قيود الاحتلال عنه في الجزائر، بعد احتلالٍ طويل ناهز ثلاثة قرون، على رأسهم مجموعة من طلبة المدارس القرآنية عُرفوا بـ"جيش الطلبة" فمن هم؟، وما هو سياق تشكُّل تنظيمهم؟ ومن كان أبرز قادتهم؟ وكيف كانت مساهمتهم في التحرير؟، هذا ما سنحاول الإجابة عنه من خلال هذه الورقة.    

  • مدينة وهران الجزائرية.
    مدينة وهران الجزائرية.

الجزائر وغرب المتوسط من سقوط المُوحِّدين إلى القرن 16م 

"رام المشروع الإمبراطوري الإسباني، من خلال الهيمنة على مدن بلاد المغرب إحكام السيطرة على موارد هذه التجارة وسلعتيها الرئيسيتين الذهب والعبيد اللتين أضحتا فيما بعد من الموارد المهمة للخزينة الإسبانية".

في سنة 1121م تمكَّنت الثورة المُوحِّدية بقيادة عبد المؤمن بن علي من بناء صرح إمبراطورية ممتدة الأطراف على الإيديولوجية المهدوية لإبن تومرت، وحَّدت بلاد المغرب كلّه والأندلس، وامتلكت مُقدَّرات عسكرية وحضارية كبرى، وأحدثت تحوُّلات فكرية وثقافية وديموغرافية عميقة في المجتمع المغربي والأندلسي، لكن الإمبراطورية المُوحِّدية بدأت في الضعف بعد مسارٍ تراكمي امتد لعقود، وكانت الهزيمة العسكرية التي مُنيت بها جيوشها أمام تحالف جيوش الممالك الإيبيرية سنة 1212م في معركة "حصن العُقاب" (Las Navas de Tolosa، لاس نافاس دي تولوسا، كما تُسمِّيها المصادر الإسبانية)، الضربة القاصمة التي عجَّلت بالانهيار والتفكُّك، فتقاسمت "الإرث المُوحِّدي" سلالات بربرية استقلَّت كل واحدة منها بجزءٍ من المغارب الثلاثة التي شكَّلت تاريخياً بلاد المغرب، واستمر حكمها إلى القرن السادس عشر ميلادي وهي: الحفصيون المصامدة في المغرب الأدنى (تونس وأجزاء من ليبيا وشرق الجزائر حالياً) واتخذوا من تونس عاصمةً لهم، وبنو عبد الواد الزناتيون في الجزائر الحالية وكانت تلمسان عاصمة لدولتهم، فيما حكم المرينيون وهم فرعٌ آخر من البربر الزناتيين المغرب الأقصى (ثم خلفهم أبناء عمومتهم الوطَّاسيون) جعلوا من فاس عاصمة لهم.

في القرون 13 و14 و15 ميلادية خاضت هذه الدول حروباً طاحنة فيما بينها من أجل الظفر بالحدود السابقة للإمبراطورية المٌوحِّدية، لكنَّ التطور العمراني النسبي الذي حقَّقته هذه الدول في هذه الفترة، لم يكن ليُخفي حقيقة أنَّ الدول الثلاث فشلت في استعادة المجد الإمبراطوري والحضاري المُوحِّدي من جهة، وفي مجاراة التحوُّلات الاقتصادية والديموغرافية والثقافية الكبرى التي كانت تحدث في الضفة الشمالية من المتوسط من جهةٍ أخرى، تلك التحوُّلات التي وصلت أَوْجَها في القرن الخامس عشر ميلادي، وشكَّلت إرهاصات لما أصبح يُعرف بعصر النهضة وبداية ظهور الرأسمالية في أوروبا.

صعود إسبانيا والبرتغال

 ساهم هذا السياق التاريخي في تصاعدٍ تدريجي لنمو إسبانيا والبرتغال كقوتين صاعدتين استكملتا بناء كَيَانِيَتَيْهِمَا، واستفادتا من الاكتشافات الجغرافية في قارة أميركا و"رأس الرجاء الصالح" للتحوُّل إلى تنفيذ مشاريع إمبراطورية توسُّعية هدفت إلى السيطرة على الموانئ في بلاد المغرب لتأمين وإصلاح السُّفن المتَّجهة نحو الهند، والتخطيط لجعلها محطّات أوّلية للتوغّل في العمق الإفريقي. وعبر فتحهم لطرقٍ بحريةٍ في المحيط الأطلسي أصبح بمقدور البرتغاليين الوصول مباشرة إلى سواحل إفريقيا الغربية والاستفادة مباشرة من تجارة الذهب، ممَّا قلَّل من أهمية الطرق التجارية الصحراوية التي كانت تربط بين بلاد المغرب وأوروبا.

رام المشروع الإمبراطوري الإسباني، من خلال الهيمنة على مدن بلاد المغرب التي تعتبر الكثير منها محطات لقوافل التجارة الصحراوية القادمة من السودان الغربي، من طرابلس وتونس شرقاً إلى سبتة ومَلِيلِيَة غرباً مروراً ببِجَايَة والجزائر ووهران وتِلِمْسَان، إحكام السيطرة على موارد هذه التجارة وسلعتيها الرئيسيتين، الذهب والعبيد، اللتين أضحتا فيما بعد من الموارد المهمة للخزينة الإسبانية(2). كما أن السيطرة على ضفتيّ المتوسّط ستمنح الإمبراطورية الإسبانية، التي كانت تضم إيطاليا الحالية، القدرة على مراقبة واحتكار التجارة البحرية بين غرب المتوسّط وشرقه، والتحكم خصوصاً في موارد التجارة في نابولي والقمح في صقلية.

مغرب ما بعد دولة الموحّدين

أدَّت هذه الظروف إلى دخول مغرب ما بعد المُوحِّدين بدوله الثلاث، وفي القلب منه المغرب الأوسط أو الجزائر الحالية، في أزمةٍ اقتصادية كبرى، ميَّزها الركود الاقتصادي، وانخفاض موارد التجارة وتدهور الحرف في عاصمتيه التاريخيتين الوسيطتين بِجَايَة وتِلِمْسَان، بسبب فقدانه لوظيفة الوسيط التجاري الذي من خلاله تتم المبادلات التجارية بين أوروبا وإفريقيا لمختلف السلع وبصفةٍ أخص الذهب، فدخلت البلاد في حالة من التفتُّت السياسي وضعف مركزية الدولة ونظامها بسبب أنَّ هذا الاحتكار الإيبيري للتجارة في المتوسط أثَّر على المداخيل من جباية الضرائب، وعلى دور فئة التجار المرتبطة بالدولة، وذات التأثير الكبير على استقرارها واستمراريتها في المغرب الأوسط طيلة العصر الوسيط.

أصبحت لدول المغرب الثلاث قابليةً أكبر للسقوط كثمرةٍ ناضجة، عند أول غزوٍ قادمٍ من الضفة الشمالية للمتوسط، فلم يكد ينقضي العقد الأول من القرن السادس عشر، حتى دخل المشروع الإمبراطوري الإسباني حيِّز التنفيذ، فسقطت السواحل المغربية تحت الهيمنة الإسبانية؛ مَلِيلْيَة سنة 1497م وجزيرة باديس في 1508م لحقتا مصير سَبْتَة في شمال المغرب الأقصى ولا تزال محتلّةً إلى حدِّ الساعة، مدن المرسى الكبير في 1505م ووَهْرَان التي مثَّلت، فعلياً، أهم منفذٍ بحري مرتبط مباشرة بتِلِمْسَان عاصمة الجزائر آنذاك سنة 1509م، وبِجَايَة في شرق الجزائر وطرابلس الليبية سنة 1510م، فيما اختارت مدنٌ ساحلية أخرى كالجزائر وتونس وغيرها الخضوع للسيادة الإسبانية من خلال اتفاقيات مُذِلَّة. 

"كان التعصّب الديني والرغبة في تنصير المغاربة، المُحَفِّز الرئيس للحملات الإسبانية على السواحل المغربية"

كان التعصّب الديني والرغبة في تنصير المغاربة، المُحَفِّز الرئيس للحملات الإسبانية على السواحل المغربية (3)، فقد مٌنحت بركة البابا الإسكندر السادس منذ 1494م للملكين فرناندو وإيزابيلا لإطلاق حربٍ صليبيةٍ مقدَّسة على دول الساحل البربري، كما تُسمِّيه المصادر الغربية.

لاحقاً سوف يشهد غرب المتوسط تنصيب الملك الإسباني شارلكان زعيما أوحدَ للمسيحية، باعتباره إمبراطوراً للإمبراطورية الرومانية المقدَّسة، الذراع الضاربة للكنيسة الكاثوليكية. 

صعود الإمبراطورية العثمانية

في هذه الأثناء كانت إمبراطورية أخرى في طور الصعود في شرق المتوسط، اعتبرت نفسها حاميةً لبيضة الإسلام وأرضه ووريثاً شرعياً للخلافة الإسلامية، هي الإمبراطورية العثمانية، فبعد أن سيطرت على القسطنطينية، آخر معقل شرقي للإمبراطورية المسيحية البيزنطية سنة 1453م، لم تكن لتغفل عن التطورات في غرب المتوسط من انهيار الوجود الإسلامي في الأندلس، إلى السيطرة على السواحل المغربية وبناء حصون وقلاع عسكرية  (Presidio)  على طولها، واحتكار الملاحة البحرية وتهديد طرق التجارة والحجيج من المغرب إلى المشرق عبر طريق جزيرة رودس والإسكندرية، الذي مثَّل الممر الرئيسي للتوابل والحرير والسكر والخشب والقمح وغيرها من السلع الأساسية. فقد أصبح ضرورياً دخول العثمانيين إلى المنطقة، والذي كان بمثابة إعلانٍ لصراع عنيف بين الإمبراطوريتين الصاعدتين الإسلامية العثمانية والمسيحية الإسبانية طبعت أحداثه القرن السادس عشر.

"أصبح ضرورياً دخول العثمانيين إلى المنطقة، والذي كان بمثابة إعلانٍ لصراع عنيف بين الإمبراطوريتين الصاعدتين الإسلامية العثمانية والمسيحية الإسبانية طبعت أحداثه القرن 16م."

تشكُّل الكيانية الجزائرية الحديثة

"أسَّس الإخوة بربروس الجزائر الحديثة على المجال التاريخي للمغرب الأوسط، بنظامٍ سياسي مركزي عماده الشرعية الدينية للمتصوفة، والجهاد البحري"

شهدت سنة 1487م أول اتصالٍ مباشر بين العثمانيين والجزائر في ذروة الحرب بين إمارة غرناطة الإسلامية والممالك المسيحية، عندما كلَّف السلطان بايزيد الثاني القائد البحري الرَّايس كمال بمساعدة المقاومين الغرناطيين المسلمين، فاتّخذ من عَنَّابة وبِجَايَة في شرق الجزائر قاعدةً لعملياته (4).

 لكنَّه رجع في الأخير إلى مركز الإمبراطورية بعد شن هجمات ضد المصالح الإسبانية وساعد في توصيل المسلمين المُهَجَّرين نحو السواحل الجزائرية، تاركاً المجال لبحَّارةٍ مغامرين آخرين، كانوا يعملون في البداية لحسابهم الخاص، لعبوا دوراً حاسماً في تاريخ غرب المتوسط من خلال تأسيس كيانٍ مركزي مُوحَّد على أنقاض حالة التفتُّت السياسي للمغرب الأوسط. وصل عروج بربروس وأخواه خير الدين وإسحاق إلى بِجَايَة سنة 1512م بعد أن استنجد بهم أهلها لتحريرها من الاحتلال الإسباني، فشل في تحرير المدينة لكنَّه تعرَّف على قبائل المنطقة الكُتَامِية البربرية ولمس إرادتها القتالية برغم عدم تمكًّنها من فنون القتال، وحاز شرعيةً دينية من أقطاب التصوف وزوايا المنطقة، قرَّر على إثرها، تأسيس نظامٍ سياسيٍ مركزي يعمل على تعبئة القبائل الجزائرية والأندلسيين المُرحَّلين إلى البلاد للجهاد من أجل تحرير الثغور والتصدّي للمشروع التوسّعي الإمبراطوري الإسباني. توالت انتصارات عروج ضد الإسبان حتى سقوطه في ساحات المعارك مع أخيه إسحاق سنة 1518م، ليخلفه شقيقه خير الدين الذي حاز شرعية سياسية من التفاف الناس حوله، ودينية وجهادية من كبار الصلحاء المتصوفة الذين كان أبرزهم أحد أقطاب التصوّف الأدارسة "سيدي أحمد بن يوسف المَلْيَاني". لكنَّه عرف أن مهمة تحرير الثغور ومواجهة قوة إسبانية صاعدة وطموحة لا بدّ لها من دعمٍ وتغطية من الإمبراطورية العثمانية، فطلب حماية السلطان العثماني ودعمه بعد المبايعة سنة 1519م، وبذلك أسَّس الإخوة بربروس الجزائر الحديثة على المجال التاريخي للمغرب الأوسط، بنظامٍ سياسي مركزي عماده الشرعية الدينية للمتصوفة، والجهاد البحري أو القرصنة التي تحوَّلت لمؤسسة، (كما يرى المؤرخ الأميركي وليام سبنسر في كتابه "الجزائر ورياس البحر")، مثَّلت المصدر الأول للخزينة وهدفت لكسر الاحتكار الأوروبي للتجارة في غرب المتوسط. 

تحوَّلت الجزائر فعلياً إلى قاعدة صلبة في مواجهة مشاريع الهيمنة الأوروبية لمدة ثلاثة قرون. 

طيلة القرن السادس عشر اُسترجعت أغلب الثغور المحتلة في السواحل الجزائرية ولم يتبقَّ منها سوى وهران، التي أضحى تحريرها هدفاً سامياً لحكام الجزائر المتعاقبين.

  • صورة من الأرشيف الإسباني تؤرخ لمعركة وهران.
    صورة من الأرشيف الإسباني تؤرخ لمعركة وهران.

تحرير وهران: سواعد طلبة الزوايا القرآنية تكسر قيود الاحتلال 

"بعد طول الأمد عمَّ اليأس بين الناس وبدا لهم أنَّ التحرير ليس متاحاً، إلا على يدٍ قوة ترعاها العناية الإلهية، فسادت القناعة أنَّ مهمَّة فتح الثغر الوهراني لن يقدر عليها أحد من غير الإمام المهدي"

طال زمن احتلال وهران منذ سقوطها سنة 1509م على يد الكاردينال الإسباني الكبير فرانثيسكو خيمينيث دي ثيسنيروس Francisco Jiménez de Cisneros، وقائده العسكري بيدرو نافارو               Pedro Navarro، وزادت تداعيات احتلالها الاقتصادية والاجتماعية على البلاد سوءاً(5)، وتعدَّدت المحاولات لاختراق تحصيناتها القوية وتحريرها في مختلف المراحل التاريخية التي أعقبت توحيد البلاد، كان أهمّها في القرن السادس عشر، حملة القائد حسن قورصو سنة 1556م، وحملة حسن بن خير الدين باشا سنة 1563م، وحملات القرن السابع عشر بين سنوات 1604م و1607م خلال حكم خضر باشا ومحمد قوصة باشا، وبين سنوات 1639 و1643م خلال حكم الباشاوات حسن وأبو جمال يوسف ومحمد بورصالي، وفي سنة 1675م مع الداي حجِّي محمد، وحملات الباي شعبان بين سنوات 1679 و1686م والتي دفع حياته ثمناً لها. وبدأت محاولات التحرير في القرن الثامن عشر مع الداي حسن خوجة الشريف بين سنوات 1705 و1707م، وفي سنة 1708م نجح الداي محمد بكداش، وهو من أبرز حكام الجزائر في القرن الثامن عشر، في تحرير وهران فيما يُسمَّى في المصادر التاريخية لهذه الفترة بالفتح الأول، مستغلاً الحرب على خلافة العرش في إسبانيا، لكنَّ الإسبان عادوا لاحتلالها بعد 24 سنة من هذا التاريخ في عهد الملك فيليب الخامس، بقيادة خوزي كاريلو دي ألبورنوز  José Carrillo de Albornoz. كان تحريض وتعبئة الصلحاء المتصوفة وشيوخ الزوايا للقبائل الجزائرية العربية والبربرية بتغطيةٍ من قوات النخبة الإنكشارية، هو السِّمة البارزة والمشتركة لكل محاولات تحرير وَهْرَان، وإن باءت كلها بالفشل، إلا أنَّها أكَّدت على أنَّ الإصرار على التحرير والمقاومة لم يخفت للحظة عند الجزائريين، وأسباب هذا الفشل كثيرة ومختلفة بحسب كل فترةٍ تاريخية، لا يتَّسع المجال هنا لتفصيلها. بعد طول الأمد عمَّ اليأس بين الناس وبدا لهم أنَّ التحرير ليس متاحاً، إلا على يدٍ قوة ترعاها العناية الإلهية، فسادت القناعة أنَّ مهمَّة فتح الثغر الوهراني لن يقدر عليها أحد غير الإمام المهدي(6)، فبدا أنَّ الظاهرة المهدوية، التي عرفها المغرب الأوسط في فترات مختلفة من تاريخه، عادت من جديد للتمكُّن من الوعي الجمعي للجزائريين. 

"شكَّلت العلاقة التخادمية الوطيدة بين النخبة الحاكمة وأقطاب التصوف، ركناً أساسياً، إلى جانب مؤسسة القرصنة في النظام السياسي المركزي الجزائري منذ تأسيسه على يد الإخوة بربروس سنة 1516م."

إلى أن جاء التحرير النهائي للمدينة سنة 1792م في عهد حاكم الجزائر الداي حسن باشا، لكنَّ بطله كان بلا أدنى شك وَالِيه على الغرب الجزائري الباي محمد بن عثمان، الذي واصل نهج من سبقوه في الاعتماد على أقطاب الطرق الصوفية ذات القدرة الكبيرة على تعبئة القبائل الجزائرية من أجل الجهاد. شكَّلت العلاقة التخادمية الوطيدة بين النخبة الحاكمة وأقطاب التصوف، ركناً أساسياً، إلى جانب مؤسسة القرصنة في النظام السياسي المركزي الجزائري منذ تأسيسه على يد الإخوة بربروس سنة 1516م، وجسَّدته آنذاك الصلة القوية بين القطب الصوفي الإدريسي سيدي محمد بن يوسف المَلْيَاني وخير الدين بربروس، لكنَّ الباي محمد بن عثمان قد أعطى لهذا الركن مضموناً أكثر عمقاً من خلال إعادة بعثه لتقليد الرِبَاطَات (وهي معسكرات عرفتها ثغور بلاد المغرب في فترات مختلفة)، وتأسيسه لجيشٍ عقائدي من طلبة الزوايا القرآنية أوكل إليه مهمة المُرَابَطَة على الثغر الوَهْرَاني. وكان غرضه من ذلك استثمار العامل الديني الذي زاد من صلابته تحريض المتصوفة الذين لم يكتفوا هذه المرة بدورهم التعبوي التقليدي فحسب، بل انضمَّ بعضهم إلى رِبَاطَات جيش الطلبة، وحوَّل محمد بن عثمان هذه القوة، التي فاقت الألفين(7) إلى قوةٍ نخبوية مدربة وجيدة التسليح ذات إرادة قتالية عقائدية صلبة بايعته على الموت، إرادة فاقت إرادة القبائل العربية والبربرية التي اعتاد القادة الجزائريون تجنيدها في كل المحاولات السابقة للتحرير. كان ذلك ضمن مشروعٍ مقاومٍ منظم هدف لشن حرب استنزاف طويلة ضد الجيش الإسباني، بين سنوات 1780 و1787م. تصاعدت الهجمات الفدائية التي استهدفت تخريب القنوات التي تزوّد المدينة المحتلة بالمياه، والمهاجمة الدورية للتحصينات والأبراج، ثم انتهت هذه المرحلة بتوقيع هدنة، عاود الجزائريون بعدها القتال، من خلال حصار ضربوه على وَهْرَان بين سنوات 1787 و1790م، لعب جيش الطلبة دوراً حاسماً في هذه المرحلة أيضاً من خلال نصب الكمائن وشن هجمات برية وبحرية ضد الجيش الإسباني، وحفر المتاريس والأنفاق تحت الأبراج والأسوار وزرعها بالألغام والقنابل. وقد نجح جيش الطلبة في إسقاط أبراج وتحصينات عديدة أبرزها الحصن القائم في جبل مرجاجو المُطل على المدينة المعروف بـ"سانتا كروز" Santa-Cruz، لكنهم مع ذلك فشلوا في تحريرها، الذي لم يحدث في سوى المرحلة الأخيرة من المقاومة والتحرير بين سنوات 1790 و1792م، التي تزامنت مع زلزال ضرب المدينة، واصلت مجموعات "جيش الطلبة" في شنِّ هجماتها التي استهدفت الحصون والأبراج في الضاحية الغربية المحصَّنة للمدينة وعلى البحر، مُلحقةً خسائر كبيرة بالإسبان وتحصيناتهم، وفي الضاحية الشرقية حيث كثَّفوا هجماتهم ليتركوا المجال لاحقاً للمدفعية التي دكَّتها. ومع سنة 1791م بدأ الجيش الجزائري المُكوَّن من مختلف القبائل العربية والبربرية، خلف "جيش الطلبة"، تقدُّمه نحو المدينة، وأمام ازدياد الخسائر الإسبانية، راسل ملك إسبانيا كارلوس الرابع في نهاية السنة نفسها حاكم الجزائر الداي حسن باشا وأبلغه نيَّته في الانسحاب من وَهْرَان والمرسى الكبير وتوقيع اتفاقية هدنة. وفي 27 شباط / فبراير من سنة 1792م دخل الباي محمد بن عثمان وجنده الطلبة، مُعلناً تحرير وهران بعد ما يقارب ثلاثة قرون من الاحتلال.   

"حوَّل محمد بن عثمان جيش الطلبة إلى قوةٍ نخبوية مدربة وجيدة التسليح ذات إرادة قتالية عقائدية صلبة بايعته على الموت"

محمد المصطفى الدحاوي...طيف بني حمود الأدارسة القادم من عمق التاريخ   

من جملة العلماء المتصوفة الذين تعدَّى دورهم في تحرير الثغر الوهراني التعبئة والتحريض وانضموا إلى "جيش الطلبة"، كان هناك متصوف إدريسي قرَّبه الباي محمد بن عثمان إليه، فكان مفتياً وكاتباً له، انخرط في صفوف "جيش الطلبة" الذي كان من المحرضين على تشكيله من أجل تحرير وهران. وقد وثَّق أحداث التحرير وبطولات "جيش الطلبة" من خلال مُؤَلَّفه "الرحلة القمرية في السيرة المحمدية"، وهو حفيد القطب الصوفي عبد الرحمان بن علي الراشدي المعروف بسيدي دحو بن زرفة (توفي سنة 1654م)، والذي ورَّث أحفاده مكانة كبيرة لدى النظام المركزي في الجزائر عمادها النسب الشريف والشرعية الدينية والجهادية لتحرير الثغور. وتنتمي هذه العائلة لفرع بني حمود الأدارسة الذين حكموا أطرافاً في الأندلس وأعلنوا فيها الخلافة بين 1016 و1057م، بمساعدة من قبائل بربرية، ثم تفرَّق من بقي منهم في المغرب والمشرق. وقد حدثت تحولات كبرى، لا مجال لذكرها، انتهت باختفاء الزيدية، مذهبهم الأصلي، واعتناقهم للإسلام الصوفي الذي كان انتساب أقطابه وشيوخ طرقه للبيت النبوي أحد أهم دعائمه. 

إنَّ أهم ما يمكن لنا أن نستخلصه من المسار التاريخي الطويل لاحتلال وَهْرَان وتحريرها هو أنَّ للمقاومة جدوى لا تخطئها العين، وأنّه لولاها لكانت وَهْرَان في عداد "المدن الإسبانية" في بلادنا، كشقيقتيها سَبْتَة ومَلِيلْيَة، وأنَّ طول أمد الاحتلال لا يعني الرضوخ له، سواء كان 283 سنة في وَهْرَان، أو 75 سنة في فلسطين. 

الهوامش

(1)  FERNAND BRAUDEL, Les Espagnols et la Berbérie de 1492 à 1577, Belles-Lettres, Algérie, 2013.

(2) في العام 1511م جنت صقلية وحدها، التي كانت تابعة للإمبراطورية الإسبانية، خُمس موارد تجارة العبيد القادمة من أفريقيا، انظر:

FERNAND BRAUDEL, La Méditerranée et le monde méditerranéen à l’époque de Philippe II, Armand Colin, Paris, 1966, Tome 2, p93.

 (3) FERNAND BRAUDEL, Les Espagnols et la Berbérie De 1492 à 1577, Belles-Lettres, Algérie, 2013. 

(4) ALAN G. JAMIESON, Lords of the Sea, a History of the Barbary corsairs, Reaktion books, London, 2012, p29.

(5) انظر كتاب:

أبوراس الناصر المعسكري، عجائب الأسفار ولطائف الأخبار، الجزء الثاني، تقديم وتحقيق محمد غالم، منشورات كراسك، الجزائر.

(6) حول هذا الموضوع أنظر خاصة كتاب "عجائب الأسفار ولطائف الأخبار" لأبي راس الناصر المعسكري، وكتاب "الإصليت الخريت في قطع بلعوم العفريت النفريت" لإبن أبي المحلي و"دليل الحيران وأنيس السهران في أخبار مدينة وهران" لمحمد بن يوسف الزياني.

(7) ابن سحنون الراشدي، "الثغر الجماني في ابتسام الثغر الوهراني"، تحقيق وتقديم المهدي البوعبدلي، منشورات وزارة التعليم الأصلي، قسنطينة، الجزائر، 1973، ص235.