تفتيت الأوطان تحت ظلال الجهل
إنَّ انحياز المثقف إلى هويّته الضيّقة – عرقاً أو طائفةً أو مذهباً – خيانة لفعل الثقافة ذاتها، واستسلام للجهل الجماعيّ الذي يفترس جسد الأمّة.
-
على الإعلام أن يكون جسراً للحقيقة والتفاهم لا منبراً للفتنة والتضليل (تصوير: أحمد فلاحة)
نحن جميعاً أقليات في هذا الشرق البائس،
وحده الجهل هو الأكثرية المطلقة
(عدي لزيّة)
**
الجهل الجماعيّ كالوباء الصامت، يزحف بين النفوس فيُعمي العيون عن رؤية الجوهريّ، ويُصمّ الآذان عن سماع الحكمة. إنه ليس فراغاً في الذهن فحسب، بل هو أرضٌ خصبة تنبت فيها كلّ بذور الفرقة والتناحر.
حين تغيب الثقافة الرصينة والمعرفة المستنيرة، تصير الأوطان دمى في لعبة الأمم، وتسقط المجتمعات في فخّ الهويّات الضيّقة، فتتحوّل العِرقيات والأديان والمذاهب من عناصر تنوع جميل إلى سجون منيعة وأعلامٍ للحرب.
يبلغ الخطر ذروته حين تتهاوى أركان الدولة، أو – وهو الأخطر – حين تنحاز هذه الدولة ذاتها إلى فئة على حساب أخرى. عندها يتحوّل الجهل الجماعيّ إلى سلاح فتّاك. تُستبدل لغة العقل والحقّ بلغة الخوف والكراهية، وتُحرّض الغرائز البدائيّة ضدّ "الآخر"، فيتحوّل الجار إلى عدوّ، والمواطن إلى غريب. تتهاوى أواصر الثقة، وتنشطر الأرض المشتركة إلى جزر معزولة يتناطح أهلها بدافع البقاء في ظلّ غياب العدل والشرعيّة. هذا هو المنطق الجاهليّ بعينه: منطق القبيلة الذي يقدّم الولاء الأعمى للفئة على حساب الوطن، ويرى في الاختلاف تهديداً لا ثراءً.
لكن في رحم هذا الظلام، يولد الأمل. فالوعي وحده هو الشمعة التي تقود المجتمعات من متاهة التفتت إلى الوعي الذي لا ينفي التنوّع، بل يُشرق عليه بنور العقل ليُظهره مصدر قوّة لا مصدر ضعف.
الفهم العميق للانتماء الوطنيّ الجامع ليس ثوباً يخاط على مقاس فئة واحدة، بل هو نسيج متين تحيكه خيوط متعدّدة الألوان، كلّ لون ضروريّ لجمال الكلّ وتكامله. الوعي هو الذي يحوّل التعدّد من عامل شقاق إلى دافع للإبداع والتقدّم، حيث تتفاعل الأفكار والثقافات في بوتقة الوطن لتُنتج معرفة أعمق وحلولاً أجدى.
تعزيز هذا الانتماء الوطنيّ الواعي مسؤوليّة مشتركة. على التعليم أن يكون حصناً منيعاً ضدّ الجهل، يغرس قيم المواطنة المتساوية وحوار الثقافات. وعلى الإعلام أن يكون جسراً للحقيقة والتفاهم، لا منبراً للفتنة والتضليل. وعلى مؤسّسات الدولة أن تكون حارسةً للعدل والحقّ للجميع، حياديّةً في تطبيق القانون، جامعةً لا مُفرِّقة.
إنّ مجابهة الجهل الجماعيّ ليست ترفاً فكرياً، بل هي معركة وجود من أجل بقاء المجتمعات ككيانٍ متماسك قادر على الحياة والتطوّر. طريق الوعي شاقّ، يتطلّب صبراً وإصراراً، لكنّه السبيل الوحيد لتحويل التنوّع من وقود للصراع إلى مصدر للغنى. فبينما يُفتّت الجهل، يبني الوعي. وبينما تُقسّم الهويّات الضيقة، توحّد الهويّة الوطنيّة الجامعة.
أما الخطورة الكبرى فتكمن حين يتحوّل المثقفون والإعلاميّون والنخب من قادة للوعي إلى كهنة للانقسام. فبدل أن يكونوا جسوراً للحكمة والجمع، يصيرون أسواراً عاليةً تكرّس الشرذمة. إنَّ انحياز المثقف إلى هويّته الضيّقة – عرقاً أو طائفةً أو مذهباً – خيانة لفعل الثقافة ذاتها، واستسلام للجهل الجماعيّ الذي يفترس جسد الأمّة.
أما حين ترفع النخب شعار "نحن" الجامع فوق شعار "أنا" القبليّ، وتقدّم خطاباً يعترف بالتنوّع لا كعدوٍّ يُحارَب، بل كشريكٍ يُحتضَن، فإنّها تتحوّلُ إلى منارات تضيء طريق الوحدة في ظلام التفتّت.
على عاتق هذه النخب تقع مسؤولية مصيريّة: صياغة خطاب بديل يذوّب الحواجز النفسية قبل السياسيّة. خطاب لا يلغي التنوع تحت مسمّى الوحدة، بل يجد الجوامع الإنسانية والوطنيّة الكبرى التي تعلو فوق الفروق.
على المثقّف أن ينتج روايات وأفكاراً ترسّخ سردية مشتركة للانتماء، لا أن يُطحن في رحى الماضي الأليم. وعلى الإعلاميّ أن يكون مرآة تعكس تجارب التعايش الناجح، وصوتاً يكسر الصور النمطية السامّة، لا مكبّراً للصراع وموزعاً للاتهامات.
أما المفكر فمهمته تفكيك خطاب الكراهية وكشف آلياته الخبيثة، وبناء أدوات فكريّة ترسّخ فكرة الوطن كـ "خيمة كبرى" تتسع للجميع.
ليس الكفاح ضدّ الجهل الجماعيّ بالكلمة وحدها. فالنخب مطالبة بأن تكون أول الممارسين لما تنادي به. حين يتحالف مثقّفون من أطياف متنوعة في مشروع ثقافيّ واحد، أو حين يتصدر إعلاميون من خلفيّات مختلفة حواراً وطنياً صادقاً، أو حين تتعاون النخب العلميّة والفنيّة فوق الانقسامات لخدمة قضايا المجتمع الكبرى – فهنا يتحول الخطاب الجامع إلى واقع ملموس.
هذه النماذج إن وُجدَت هي أقوى سلاح ضدّ ثقافة الفرقة، فهي تثبت أنّ "الاختلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية"، وأنّ التنوع، حين يُدار بحكمة وعدل، ليس نقمة بل نعمة تُثري العقل والروح والأرض.
إنّ معركة الوعي ضدَّ الجهل الجماعيّ معركة مصيريّة لا تُترك للصدفة. فكما يمكن للنخب أن تكون وقود التفتيت حين تنحاز لضيقها، يمكنها – بشرف الفكر وإرادة العطاء – أن تصير حائطَ صدٍّ منيعاً وأداةَ بناءٍ لا تُقدّر بثمن. فلتُدرِك النخب ثقل مسؤوليتها، ولتخترْ أن تكون جسراً لا حاجزاً، وضميراً حياً للوطن لا انسلاخاً عنه. عندها فقط، يصبح التنوع نسيج الوطن المتين، والوعي درعه الذي لا يُخرق.