بين موكب نقل المومياوات وهدم مقابر الأعلام... هل تعيش مصر شيزوفرينيا ثقافية؟
بعد قرار بإزالة مقبرة طه حسين، وصلت الجرافات إلى مقابر الأعلام في القاهرة.. ماذا يحدث في مصر؟
هل تعيش مصر شيزوفرينيا ثقافية وتراثية؟ يبدو هذا السؤال ملحّاً اليوم. إذ في الوقت الذي تدشّن فيه الحكومة المصرية أكثر من مشروع تراثي وحضاري كموكب نقل المومياوات، والمتحف المصري الجديد، فإنها في الوقت ذاته لا تعتني بمقابر القاهرة التاريخية التي تضم كثيراً من أعلام مصر، والتي تشكّل جزءاً من سيرة الأرض والناس في "أرض الكنانة".
ففي أيلول/سبتمبر 2022 فوجئ المثقفون والمهتمون بالتراث بقرار إزالة مقبرة طه حسين. ومنذ ذلك الحين لم تتوقّف الأخبار المثيرة حول إزالة مقابر الأعلام، مثل الشيخ محمد رفعت ومحمد فاضل باشا الدارمللي و"أمير الشعراء" أحمد شوقي وغيرهم، ممن تعتبر مقابرهم شاهداً ثقافياً وتراثياً على تاريخ مصر.
مقبرة "أمير الشعراء" لم تهدم... والكارثة أكبر من ذلك!
عبد العظيم فهمي، صاحب مبادرة "سيرة القاهرة"، وصانع المحتوى والباحث في تراث العاصمة المصرية، أوضح في حديث مع "الميادين الثقافية"، أن مقبرة أحمد شوقي لم تهدم وإنما تم العبث بمكوّناتها وهدم بعض أجزائها الداخلية، بينما الهيكل الخارجي للمقبرة لم يزل على حاله.
ويرى أنّ "الأزمة الحقيقية تكمن في عدم وجود وعي كامل من الجماعة الثقافية المصرية بأهمية القرافة (المقابر)، ومحتويات الجبانات وقيمتها الثقافية، وهذا واضح من الخطاب المطروح حالياً".
وقال فهمي إن: "القرافة المصرية قرافة تاريخية تحوي عدداً من الجبانات كلّها في سفح جبل المقطّم، وعمرها أكبر من عمر المدينة نفسها، وتشكّل طبقات تاريخية على مستوى المعمار، وطبقات تاريخية على مستوى المدفونين أنفسهم من الأعلام والمشاهير والأولياء والصالحين، أي أنها ليست مجرد مكان للدفن، وإنما هي مكان فنيّ يضمّ أنماطاً يمكن لطلاب كليات الفنون الجميلة والفنون التطبيقية أن يتوقّفوا عندها كنموذج فنيّ قائم، وبالتالي كان من المهم الحفاظ عليها كإرث فنيّ جنائزيّ، إضافة إلى حضورها كنموذج للتخطيط العمراني الموجود من القرن التاسع عشر، من حيث تقسيم الشوارع الطولية والعرضية والأشجار وما إلى ذلك، وبخاصة مقابر الإمام الشافعي، فكل ما كان يشبه ذلك في المدينة اندثر بالفعل".
يعتقد صاحب مبادرة "سيرة القاهرة" أن ما يحدث الآن "يعكس بشكل واضح الأوضاع الطاردة لكل ما هو ثقافي، في الوقت الذي تقوم فيه دول أخرى كالسعودية والإمارات مثلاً بتطوير نشاطها في هذه الفترة، من خلال إنشاء مراكز بحثية وتشكيل لجان متخصصة من أمهر الأثريّين لزيادة الجذب السياحي، بينما مصر بكل هذا الزخم التراثي والحضاري، لا تقدّم الدعم الكافي للحفاظ على هذا التاريخ".
أما فكرة نقل مقبرة الخالدين فهو خطأ لن يمكننا تداركه، وفق فهمي، الذي أكد أن "الأثر ليس مؤسسة أو مبنى إدارياً يمكننا نقله. الأثر ابن بيئته ووجوده في الحيّز المكانيّ نفسه يحفظ قيمته، ولعل الإصرار على النقل هو ما أدى ببعض أعضاء اللجنة الدائمة لحصر المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميّز بالمنطقة الشرقية لنقل المقابر، إلى تقديم الاستقالة".
الأزمة بدأت منذ بيع لقب "أمير الشعراء"!
أما الشاعر المصري عمرو الشيخ فقد سخر من الأمر قائلاً إن الحكومة الحالية: "أرادت أن تحقّق سبقاً تاريخياً وجغرافياً بما ترتكبه في واقعة لم يعرفها كوكبنا اللطيف من قبل، وهي هدم قبور الرموز من أمثال طه حسين وأحمد شوقي ومحمد رفعت".
ويقول الشاعر بلغته التهكمية اللاذعة المعروفة لمتابعيه إنّ: "المتعارف عليه أن الأمم إن لم تجد تاريخاً تنقّب عنه، ثم تصونه وتباهي به وتستثمره، كما أن بعض الأمم تدّعي تاريخاً أو تزوّره أو تسرقه إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً. لكن الجديد جداً، غير المسبوق، ويقيناً غير الملحوق أن دولة ما تطمس معالم هويتها بكامل إرادتها، وتبذل الرخيص والرخيص كي تتيقن من أنها لن تترك وراءها أثراً. وكلما حاولت أن أعصر عقلي وأقدح زناد فكري لأعرف من الذي يكون من مصلحته أن يمحو أي أثر لوجوده في مكان ما، لا أصل إلى أي أحد آخر غير هذا الذي نتفق عليه في السر".
ويكمل عمرو الشيخ بمرارة: "رغم ما تقدّم، فقد وجدتني من أقل المثقفين انزعاجاً أو صدمة ممّا يحدث. صحيح أن هدم تلك القبور كارثة، لكن قبل أن يحدث هذا كان هناك هدم لمعظم ملامح الهوية المصرية. نظرة بسيطة عابرة تجاه العلمين وحفلاتها التي تتم بالتزامن مع حفلات (طال عمره) في السعودية، ستعرف أن الفنانين المصريين لا يغنون للناس. أقصد تحديداً أنهم لا يغنون لعموم الناس، فهضبة مصر منذ ظهوره (يقصد المطرب عمرو دياب) وهو مطرب صيفي منذ بيانكي والفردوس في الثمانينيات انتهاء بالعلمين حالياً".
ويتابع عمرو الشيخ: "أما أصحاب اليقين من الأصوليين والذين بالطبع يحرّمون ألوان الغناء فمنذ عقود خمسة هجروا رموز القرّاء من أمثال المشايخ أصحاب الفضيلة محمد رفعت، ومصطفى إسماعيل، والمنشاوي، وعبد الباسط واتجهوا إلى مشايخ (طال عمره). أما أمير الشعراء أحمد شوقي فقد صار اسمه قرين الدراهم التي تستقطب شباب المبدعين (نسخة أخرى من طال عمره)، فتم بيع لقب أمير الشعراء في مسابقة مشبوهة يعلم تفاصيلها معظم المثقفين".
ويستكمل الشيخ في ربطه بين قضية هدم القبور وبين حالنا الثقافي الراهن، فيقول "أما طه حسين فالصورة أوضح وأكثر فضاحة. فالرجل الذي يشكّل أمة ثقافية وحده كان قبره ينبش مع سيرته بانتظام على مدى نصف قرن، من جهلاء حكومة تعرف جيداً ما تفعله، وتعرف أنه لا وجود لأي أثر حقيقيّ لدى المثقفين أو العامة، فأصحاب الشأن منشغلون بمواسم الرياض ومواسم الشارقة والساحل الشرير".
لا أحد يقف في وجه التحديث... لكن بشرط!
أما الدكتور فارس خضر فيؤكد أن لا أحد يقف في وجه التحديث، شرط ألا يهدّ قيماً جمالية وتاريخية ومعمارية، بمثل "هذا الغشم التتري الأعمى"، على حد وصفه.
ويرى الشاعر والناشر المصري أن "الرسالة الكامنة خلف ما يحدث شديدة القسوة ورسالة وقحة، ليس لأنها تنحاز للمقولة الطفيلية: الحيّ أبقى من الميت فحسب، بل لأنها أيضاً توجّه نصلها المسموم إلى هوية المصري، كما لو أنها تنسف أعمدته النفسية عن عمد، وكأنها تقول له: نفقرك ونجوّعك ونمتهن كرامتك منذ أن تفتح عينيك حتى تغلقها؛ فتتأرجح من وقع الضربات... ولا تسقط... وتظل تردّد كلمات مواسية عن أجدادك وتاريخك وحجارتك الأقدم من البلدان العربية مجتمعة".
يتهكم خضر في حديثه إلينا من بعض الذين يرون أن هذه الحجارة لا تجلب مالاً في السوق الرأسمالي، فيقول إن: "رفات أجدادك رخيص. تاريخك الذي تزهو به محض هراء، فإذا كانت روحك المدوّخة من كثرة الطعنات لا تزال واقفة فسنهدمك، وننكّل بالموتى قبل الأحياء، لكي يعبر الأثرياء على عظامك المدفونة قبل أن يواصلوا تكسير عظامك المتحركة، لا أنت ولا تاريخك وحضارتك تمثّلون قيمة تذكر. أنت مهان منذ فجر التاريخ وستستمرّ على هذه الحالة إلى الأبد... اخرس... لا صوت لك ولا كرامة".