المركزية المَعكوسة: في السجال حول البربرية والحضارة
يمثل الكتاب مناسبة للنظر في السجال التاريخي المفتوح حول الحضارة، وكيف أن الحديث عن الحضارة ومحاولة تقديم مفهوم شامل مستقر لها، هو جزء من الصراع نفسه، وشكل من أشكاله.
من يقود مسار الحضارة، ولماذا تختلف الآراء حول معناها، وهل انتهى الصراع العالمي على مفاهيم الحضارة مع انتصار الليبرالية، وفق فرانسيس فوكوياما؟ وما موقع الأمم "غير الأوروبية" في ميزان الحضارة العالمية، وهل الحضارة نِتَاج العقل أم الروح؟
من شبه المؤكد أن هذا النمط من الأسئلة لا ينتظر "إجابات نهائية"، إذ إن التوافق على إجابة أو مشروع إجابة لأي منها يبدو بعيداً، الواقع أنه متعذر باعتبار طبيعتها أو موضوعها أولاً، وباعتبار ظروف الصراع في العالم ثانياً.
يمثل كتاب "بربري عصري متحضر: ملاحظات حول الحضارة" للكاتب التركي إبراهيم كالين مناسبة للنظر في السجال التاريخي المفتوح حول الحضارة، وكيف أن الحديث عن الحضارة ومحاولة تقديم مفهوم شامل مستقر لها، هو جزء من الصراع نفسه، وشكل من أشكاله، وكيف أن النقاش عادة ما يتجاوز مجرد السجال إلى نوع من أنواع "المواجهة" أو "الحرب الرمزية".
يتألف الكتاب من عشرة محاور أو فصول، الأول، ظهور الحضارات. الثاني، مشكلة المعايير: البدائية والبربرية والتقدم. الثالث، الحضارة والحداثة، متضمنا "الثقافة" ضد "الحضارة". الرابع، الحضارة ومجرى التاريخ متضمناً التاريخ والحضارة، ومسألة نهاية التاريخ. الخامس، الحضارة بوصفها وسيلة للاستعمار، متضمناً الحضارة التقنية كوسيلة لتجاوز الطبيعة والحضارة. السادس، النظرة العالمية وتصور الوجود، متضمناً مفهوم "العالم" وعلم الكونيات. السابع، مشكلة الحضارة والنظام والحرية، متضمناً العدل، النظام السياسي والحضارة، دائرة الوجود وفكر الوحدة، البنية الديناميكية للوجود، الوجود والإنسان. الثامن، الحضارة الإسلامية والتصور المعرفي، متضمناً المعرفة، الحكم وأشكال التعددية في العالم. التاسع، الفن والحضارة: مدخل إلى علم الجمال، متضمناً التجريد ومسألة الأسلوب، الأسس الأنطولوجية للجمال، التداعيات العصرية، فن السرد. العاشر، مفكران حضاريان: الفارابي وابن خلدون، متضمناً ثلاث مدن إسلامية: مكة، والمدينة والقدس، الفارابي: الحضارة كمدينة فاضلة، ابن خلدون: علم العمران وثمن الحضارة.
مواجهات رمزية
تجد في كتاب إبراهيم كالين أنماطاً مختلفة من "المواجهة الرمزية" مع أعداء أو خصوم في جبهات مختلفة: الغرب، في الماضي النهضوي والحداثي، والحاضر الحداثي وما بعد الحداثي؛ والحداثيين والعلمانيين "المتغربين" في الشرق، وخاصة الدول التي كانت في "الفضاء العثماني"، وبالأخص تركيا نفسها.
وهكذا، يركز الكتابُ على تاريخ الصراع بين الشرق والغرب، أو بين الغرب وبقية العالم، وبؤرة تركيزه أو اهتمامه هي المشرق، وخاصة الإسلامي منه، وبالأخص العثماني والتركي، كما تتكرر الإشارة، باعتبار أن الكاتب يحاول الدفاع عن دورٍ "مشكوكٍ فيه" للعثمانيين والترك في الحضارة الإنسانية.
يقول الكتاب إن الحضارة هي نتاج الإنسان المؤمن بالقيم الروحية، لكن الغرب وجد الدين [يقصد المسيحية] عائقاً أمام تطوره، فاضطر لتجاوزها (وهذا ما أنتج الحداثة). وان تجربة الغرب مختلفة عن تجربة الشرق والعوالم "غير الأوروبية"، التي يقول الكتاب انها أنتجت حضارات متتابعة، عبر التاريخ، وان أحد أفضل أمثلتها أو ذراها كانت في لحظة الإمبراطورية العثمانية، التي وعى عدد من المفكرين والساسة فيها "المأزق" و"الفجوة" بينها وبين الغرب، قبل فترة الإصلاحات أو التنظيمات، لكن الاستجابة كانت خاطئة!
نقد النقد
هذه القراءة هي أقرب لـ"نقد النقد"، تحاول أن "تقرأ" أو "تفكك" ما يقوله الكتاب، وأن تكشف عما "يسكت عنه"، وعما "يضمره" أو يحاول "تمريره" في خطابه. وخطابه هو خطاب سياسي بامتياز، ويعاني من مشكلات كثيرة، منها –ولعله أهمها- أنه "يسكت عن أشياء أكثر مما يفصح"، وبالتالي هو لا يفسّر بالتمام لماذا اتجه الإنسان (الأوروبي أو الغربي) لـ"التخلي" عن النظرة الدينية للحياة والعالم، ولماذا يطلب الكاتب العودة إلى الدين بوصفه شرطاً لبناء الحضارة، في حين أن الدين والرؤية والظاهرة الدينية كانت "حاكمة" خلال فترات طويلة من التاريخ البشري، وخاصة في "العالم الإسلامي".
لكن في الكتاب ما يستحق التوقف عنده، لاعتبارين رئيسين: الأول هو توافقه موضوعياً وقصدياً مع خطاب "الأسلمة" أو ما يعرف بـ"أسلمة المعرفة" و"التاريخ" و"العلوم الاجتماعية الإسلامية" و"الطب الإسلامي" و"علم النفس الإسلامي" الخ الذي برز منذ عدة عقود، ويركز على نقد "المركزية الغربية"، ونقد ثقافة وحضارة الغرب، ونقد تأثر المسلمين وغيرهم بها، محاولاً –بقدر كبير من "الأدلجة" و"الترميق" و"التلفيق"- "إعادة إنتاج" نقد الغرب لنفسه، ولحداثته وعلمانيته وماديته، ويقدمها على مبدأ "شهد شاهد من أهلها"، وكما لو أن نقد الغرب لنفسه هو مصداق لما يحاول تيار "العثمنة الجديدة" أن يثبته عنه، ومن ثم مصداق لما يحاول إثباته لنفسه ولمجتمعات الشرق، وللعالم!
والثاني هو أن الكاتب مستشار للرئيس التركي رجب طيب أردوعان، والمتحدث باسمه، وهو يواصل "خط المعنى" الذي حاوله رئيس الحكومة السابق أحمد داوود أوغلو (ولو أنه لا يذكر ذلك صراحة) من العمل على تسويق "رؤية إسلاموية" مع قوة تحريك هجينة، تركية عثمانية وإسلاموية إخوانية، ويمكن العكس، ليس من خلال ابتداع المقاربات في أفق إسلامي وإنساني حضاري، وإنما من خلال سرد نقد الغرب لنفسه من جهة، ونقد غير الغربيين له، من جهة ثانية، وبالتالي سرد الاعتراضات والتحفظات على تجربة الحداثة الغربية، إنما في الأفق المعرفي العميق للغرب نفسه، وباستخدام أدواته وخبرته، ولا يغيّر من ذلك كثيراً، استخدام تعابير مفاهيم واستعارات لغوية وبيانية شرقية أو إسلامية الإيقاع أو البيان، مثل: "الرحمانية" و"الروح" و"الأخلاق" و"العدل" الخ
وهكذا، يصبح نقدُ الغرب لنفسه، جزءاً من نقد "الأسلمة" له، وبالطبع جزءاً من نقدها للتيارات الحداثية والعلمانية في مجتمعات وفضاءات الشرق. فإذا نَقَدَ يورغن هابرماز مثلاً العلمانية، يدرج الإسلامويون القومويون–ومنهم الكاتب نفسه- ذلك في نقدهم هم للحداثة وخطابها وتجربتها في العالم وفي مجتمعات الشرق، ومثل ذلك نقد تشارلز تايلور أو زيغمونت باومان الخ.
يمكن ملاحظة أن الكاتب لم يأتِ على ذكر مدرسة "نقد الاستشراق" و"دراسات الكولونيالية" و"ما بعد الكولونيالية" وغيرها، وفيها الكثير مما يمكن للكاتب أن يفيد منه في نقده للغرب والحداثة، وهذا أمر يتطلب تدقيقاً، باعتبار أن الدراسات الثقافية والنقد الثقافي والحضاري، تَعُدّ من الاجتهادات الفكرية المهمة التي تنقد "المركزية الغربية" و"المركزيات" أو "التمركزات المعكوسة" و"المقاربات المغلقة" حول العالم.
مُحِقّ، غَيرَ مُحِقّ!
والواقع أن الكتاب "مُحق" في كثير مما أورده عن الغرب، لكنه "غير مُحق" فيما "ينفيه" عنه. بمعنى أنه "مُحق" في نقده لمادية الغرب ومركزيته ونفاقه، والاستعمار، ونهب ثروات الأمم، والوحشية التي أظهرها حيال العالم، والحروب والدمار الذي سببه في فترات ومواقع كثيرة. وهو "غير مُحق" في ما ينفيه عن الغرب، من أنه قاد مسيرة التقدم والتطور البشرية، وتمكن من "تحرير العقل" من قيود إكراهات كثيرة، وأنجز في العلوم والتكنولوجيا والزراعة والصناعة والصحة والاتصال والتنظيم البشري والتنظيم السياسي وغيرها كثير، وهو -بلا جدال- في صالح البشرية جمعاء.
والكتاب "مُحق" في كثير مما أورده عن الشرق وحضارة الإسلام، ولكنه "غير مُحق" فيما "ينفيه" أو "يسكت عنه" فيها. بمعنى أنه "مُحق" في حديثه عن إسهام الشرق والإسلام في الحضارة الإنسانية، وأنه كانت للشرق ومسلميه وغيرهم دول وإمبراطوريات، وقوة وحضور وتأثير حضاري وإنساني واسع النطاق في العالم.
ولكنه "غير مُحق" فيما "ينفيه" أو "يسكت عنه" من أن الكثير من الدول والإمبراطوريات المسلمة كانت دول وسلطنات حكمها قانون السياسة الرئيس وهو القوة، وأن البعد الديني لم يكن دوماً – ربما قليلاً ما كان- حاكماً فعلياً للتفكير والفعل السياسي فيها، وأنها كانت دولاً أو سياسات تسلطية واستبدادية في كثير من الأحيان، و"أخفقت" في أن تقيم سياساتها من أجل الإنسان أو المجتمع أو الأمة، بل إن تمركزها الرئيس والحاسم والحاكم كان –ولا يزال حتى اليوم- حول السلطان.
وبالطبع فإن الكاتب "غير مُحق" في تجاهله لعوامل إخفاق الشرق أمام الغرب في الصراع على العالم، موضوع السؤال المطروح منذ ما يعرف بعصر النهضة المشرقية والعربية والتركية والإيرانية: لماذا تقدم الغرب وتأخر غيرهم؟
بلاد الترك أو تركستان!
يرى الكاتب أن "منبع الحضارات الكبرى" هو "المناطق الممتدة على طول طريق الحرير أو طرق الحرير من سهوب الصين إلى ما بين النهرين". وأن يكون أصل الحضارة خط ممتد من وادي الرافدين إلى الصين، فهذا يحقق هدفاً أو غرضاً مثلث الأبعاد: الأول هو أن عمق حضارة العالم ليس غربياً، والثاني هو أن عمقها لا يتركز في بلاد الرافدين (الهلال الخصيب) ومصر، وأن الامتداد للشرق يتيح للكاتب الحديث عن "التركستان"، والثالث هو الربط بين المعطى الحضاري للشرق وبين الإسلام.
ولا يفوت الكاتب الادعاء أن "التركستان" أو "الأيغور" كانوا متقدمين حضارياً على الصينيين، ويقدم منظوره لمعنى التقدم والحضارة، بكيفية تجعل الحديث الغريب والملغز عن ذلك التفوق المفترض ممكناًّ، بنظره هو على الأقل!
الحداثة ضد الحضارة
يقول الكتاب إن الحداثة والعولمة أضعفتا "مفاهيم من قبيل الدين والثقافة والتقاليد والحضارة"، كما أضعفتا الظاهرة الدينية التقليدية، وإن "ادعاءات النسبية والحقيقة الجمعية" أضعفت "الإيمان بوحدانية الإله في الأديان والحضارات التقليدية ومركزية الحقيقة والأخلاق وأنظمة الإيمان المبنية على تراتبية الوجود".
لكن العولمة أحدثت تأثيراً معاكساً أيضاً، إذ أنها أثرت على "إدراك الحضارة"، واستثارت حاجة الأمم والشعوب لـ"اللجوء إلى تاريخها وذاكرتها من أجل تشكيل خط مقاومة صلب وحاجز قوي في مواجهة موجة العولمة". إن اللجوء إلى الماضي والروح الحضارية القديمة لدى الأمم والشعوب خارج أوروبا، هو نوع من المدرك أو "التصور الحضاري".
إن أفكار مثل: "نهاية التاريخ" و"صراع الحضارات"، لم تستطع تفسير ما يجري، ولا تفسير الاستجابة المتوترة حيال الهيمنة أو المركزية الغربية. وهنا يجد الكاتب حلاً مناسباً! يقول: إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قدم بديلاً عن صموئيل هنتغتون وفرانسيس فوكوياما، من خلال نظريته أو مبادرته "تحالف الحضارات"، وهو بهذا يضع أردوغان في مصاف المفكرين الباحثين عن حلول للمشكلات المزمنة في العالم اليوم، بل يتفوق عليهم، من منظوره!
لكن التحدي الأبرز، بالنسبة للكاتب، هو تحولات العالم الرقمي، وأولوية ما فوق الواقع التي أثرت بشكل كبير في معنى الواقع والسياسة والدولة والعالم، ... إذ حدث "انزلاق أنطولوجي كبير"، حيث يصعب تحديد ما هو حقيقي وواقعي في العالم، وتتغير إحداثيات المعرفة وتطلعات الجماعات والأفراد والأمم الخ.
عالم فارغ وسادة مزيفون
يقول الكتاب: "من لا يشمُّون عبق الخلق لا يمكنهم الاهتداء إلى سر الوجود. ليس من السهل الشعور بإيقاع الخلق في عصر الضجة والصورة، فقد الصوت تناغمه الكوني، واختزل العبق بمستحضرات التجميل. لهذا لا يدرك من يطلقون صيحات النصر أمام انهيار سحر العالم أنهم سادة مزيفون لعالم جاف وفارغ ومسطح وعديم المعنى".
ويضيف: "في حين أننا في حاجة أكثر من أي وقت مضى للاهتداء إلى سر الوجود واشتمام عبق الخلق حتى يصبح العالم المسخر للإنسان ذا معنى وملائماً للعيش".
هنا يتذكر الكاتب الميتافيزيقا التقليدية، موحياً بأن الحل هو هنا بالذات. يقول: "من المبادئ الأساسية للميتافيزيقا التقليدية مسلّمة تقول إن الوجود يمتلك حقيقة تتجاوز أفكارنا وتصرفاتنا بشأنه". وعلى الإنسان أن "يتقبل أنه جزء من واقع يفوقه لكن لا يلغي له عقله وحريته".
يصل الكتاب إلى نتيجة أقرب لحكم نهائي وإطلاقي، شيء يُذَكِّر بمقولة "نهاية التاريخ"، يقول: "يستنفذ الغرب ما يمكن أن يقوله بشأن الحضارة اليوم". هنا لم يعد لدى الغرب ما يقوله للعالم بشأن الحضارة! لكنه يفتح الباب مجدداً، ليس أمام الغرب وإنما أمام "العالم الإسلامي"، يضيف: "أما العالم الإسلامي فيبحث عما يقوله في هذا الخصوص". لكن: "لا يمكن لعالم إسلامي ليس لديه حضارته وحياته وقيمه الجمالية والخاصة أن يوجد حلولاً صحيحة لمشاكله ولا أن يقدم إسهامات للإنسانية".
يلاحظ الكاتب أن المفكرين الغربيين أخذوا يطرحون أسئلة كبرى حول الطريق الذي أخذ فيه الغرب العالم، من قبيل: "ما هي القيم التي فقدناها خلال الانتقال من التحضر بوصفه سلوكاً إلى الحضارة بصفتها حالة؟ هل تبعدنا الإمكانيات المادية التي توفرها الحضارة عن التحضر، وفق ما يقوله ابن خلدون؟ هل الحضارة هي عكس التحضر؟".
وإذ يحاول الكتاب الإجابة على الأسئلة، إلا أنه يبدأ بداية قاسية بعض الشيء، فيقول إنه "ليس من النادر أن ينسحق ويضيع التحضر تحت وطأة الحجم الضخم لجسم الحضارة. تظهر في مواجهتنا المتعة الوحشية والشغف بشرب الخمور في روما في ميدان قتال المصارعين حتى الموت مع الحيوانات المفترسة أو فيما بينهم".
وإذا اتخذت الدول الأوروبية "موقفاً ديمقراطياً من أنفسها وبربرياً من الآخرين"، فإن الكاتب يفعل الشيء نفسه تقريباً، حيال ما يقبله هو، لجهة التلقي والقبول والتقديم والمرافعة والمدافعة، والشيء نفسه تقريباً حيال ما يرفضه، لجهة الإنكار والنقد والتأثيم والرمي في خانة المادية المحضة والبعد عن الروحانية الدينية التي يريدها ويدعو لها.
العالم بالنسبة للكتاب هو "كائن عضوي حي"، وأن المادية الغربية أبعدت الدين عن الحياة، وحصرته في حيز "اللا علم" و"الخرافة" أو "طفولة الوعي البشري"، الأمر الذ جعله قابلاً لكل التشوهات القائمة اليوم. فقد أقام الغرب حضارة مفرغة من محتواها الروحي أو الديني، وجعل الحياة بلا معنى، الحياة الدنيا لعب ولهو، ولا تتحرك في أفق متعالٍ أو سامٍ. وهذا بالتمام ما لاحظه الكاتب بالنسبة لتجربة تركيا الجمهورية أو تركيا ما بعد السلطنة العثمانية. نتيجة مدهشة حقاً. هذا بالطبع ليس مجرد حكم قيمة بالغ الأدلجة فحسب، وإنما هو فتوى بفساد أو عدم صلاحية ما جرى في تركيا والمنطقة والعالم بعد الانهيار العثماني أيضاً!
القراءة الناقدة
أول ما يتبادر إلى الذهن هو السؤال: إلى أي حد يمكن لهذا النمط من الكتابة أن يكون موضوعياً، يطرح الأسئلة الصحيحة، ويقرأ ويحلل، ويتحلى بالجرأة والإقدام، وقادر على أن يسمّي الأمور بأسمائها، ولا يعطي الأولوية للإيديولوجية على العلم والمعرفة، وللمتخيل أو المخيالي على الواقعي، ويعمل من دون أن يحدد نتائجه سلفاً؟
السؤال الآخر الممكن هو: إلى أي حد يمكن لكاتب مثل إبراهيم كالين، يفكر انطلاقاً من مرجعية دينية إسلاموية محدثة، قُل: مرجعية إخوانية محدثة، أن ينظّر لنفسه وخطابه وحركة حزبه (حزب العدالة والتنمية) الحاكم في تركيا منذ قرابة عقدين، وللإيديولوجية التي يحاول الترويج لها، بمنظار نقدي متوازن، ويسقط خبرة الغرب نفسه، ونقد الغرب لنفسه، على الخطاب الإسلاموي التركي نفسه؟ وهل هو قادر على أن ينظر إلى نفسه بالمنظار الذي يستخدمه في الحديث عن البربرية والتحضر؟
يقول الكاتب في مقدمة كتابه: "عند تناول مفهوم كبير ومتعدد كالحضارة، يتوجب الأخذ في عين الاعتبار الأفكار والممارسات الحياتية". هنا بيت القصيد. وهنا يمكن السؤال: ماذا في ميزان الممارسة الحياتية والسياسات الفعلية لصاحب الكتاب؟
لعل نظرة سريعة على شبكة الانترنت، كفيلة بتقديم إجابة أولية على السؤال. تصريحات كثيرة هي جزء من خطاب ديني في مواجهة العلمانيين والحداثيين في تركيا والمنطقة، وفي مواجهة الغرب، عندما يكون مطلوباً مخاطبة الجمهور بلغة التحشيد والاستقطاب، وخطاب طائفي صريح أو مضمر في مواجهة دمشق أو حلفائها الآخرين مثل إيران وحزب الله، وخاصة عندما يكون مطلوباً مخاطبة الجمهور بلغة استقطاب مذهبي طائفي، وبالأخص قبيل الاستحقاقات الانتخابية في تركيا! وخطاب يبرر تورط تركيا في الأزمة السورية واحتلالها لأراضٍ سوريا، ويدعم التنظيمات التكفيرية المسلحة في سوريا والعراق، ويسوق لها بوصفها "ثورة" و"حركة تحرر"! وناطق رسمي باسم السياسات التركية المتحالفة مع الغرب، والذي خصص جزءاً كبيراً من كتابه لنقده ورفض سياساته!
سجال وفصام!
الكتاب أُعِدَّ بعناية، ويطوف على موضوعات كثيرة، وينوّع مفرادته ويقدم إحالات واقتباسات مهمة، ولو أنها جاءت –وهذا ما تتكرر الإشارة إليه- في خط سجالي إيديولوجي تلفيقي واضح. ومارس الكاتب ألعاباً كتابية عديدة، منها توسيع النطاق الزمني، وحشد مواقف فكرية وإحالات واقتباسات ناقدة للحداثة الغربية، وانتقاء مواقف ولحظات بعينها من التاريخ المشرقي والإسلامي، تتحدث عن الانفتاح والتحضر وقبول التعدد الخ فيما تجاهل لحظات التسلط والاستبداد والقتل الخ. وكل ذلك من أجل كتابة خطاب أو مرافعة لصالح سردية ترى أن التاريخ العثماني والتركي، وبعض تواريخ أمم مجتمعات الشرق، في الفضاء العثماني السابق، هي –في حال العودة إليها أو استعادتها- تمثل أفق الإنسان ومستقبله الحضاري والخلاصي.
ثمة في الكتاب جهد بحثي وتحليلي كبير، ويتناول موضوعاً بالغ التداخل والتعقيد، ويطوف على مناطق وجغرافيات، ومفاهيم ومدارس فكرية، وخبرات تاريخية، وإسهامات عدد كبير من الباحثين والمفكرين حول العالم، لكنه ربما لم يستطيع إدارة كل ذلك، بالكفاءة أو الموضوعية المطلوبة، ربما لأن حجاب الإيديولوجيا والتخندق العقائدي مثّل عائقاً معرفياً ورؤيوياً أمامه.
ولذا، يجد القارئ أن ثمة في الكتاب فصاماً حاداً واختلالاً في "خط المعنى" و"خط الفعل"، إن أمكن التعبير. إدانة للبربرية عندما تصدر عن "الآخر"، وتحويلها إلى فعل تحضّر عندما تصدر عن "الأنا". الوصف الوحيد المناسب لهذا النوع من الخطاب هو أنه يعاني من حالة فصام مزمنة.
الكتاب: بربري عصري متحضر: ملاحظات حول الحضارة
الكاتب: إبراهيم كالين.
المترجم: زينب قوطان ونور قولطاش
الناشر: الدار العربية للعلوم، ناشرون، 2021، 348 صفحة.