الكتابة نجاة

لا يستخفنّ أحد بموقفه، برأيه، بصوته، بكلمته، مهما كانت بسيطة ومتواضعة. كلمة فوق كلمة تبني عمارة الوعي، وترسّخ مداميك الحقيقة، وتمنع تزوير التاريخ مرة أخرى.

التواصل مع غزة الآن، أياً كانت طبيعته، هو نوع من الدعم والمؤازرة في خضم المقتلة التي يرتكبها الاحتلال الاستيطاني بحق أهلها وأبنائها الذين قدموا ويقدمون أمثولة في الصبر والصمود والمقاومة. 

طبعاً، لا شيء يعوّض الأرواح التي زُهِقت، فكل روح عزيزة غالية، واللغة مهما بلغت من الفصاحة والبلاغة لا يمكنها الارتقاء إلى مصاف الدم البريء الذي يُسفك على مذبح الحرية والاستقلال، وعلى مرأى العالم ومسمعه. 

دَم أسقط القناع عن وجه العالم القبيح، وكشف لنا جميعاً أننا نحيا في عصر الهمجية والتوحش، إذ لا قيمة للإنسان، ولا لحقّه في العدالة والحرية والحياة الكريمة. إنها مرحلة "قروسطية" بامتياز، تقدمت فيها البشرية علمياً وتكنولوجياً، لكنها تراجعت إنسانياً وأخلاقياً حتى تكاد تبلغ الدرك الأسفل. 

ولئن شئنا تقديم برهان على سفالة الساسة والسياسة في عالمنا المعاصر المتوحش، يكفي أن نستعيد مشهد الكونغرس الأميركي المشين، ونتذكر كيف وقف أعضاؤه مراراً وتكراراً يصفقون لمجرم الحرب نتنياهو في ما هو يتباهى بجرائمه، ويؤكد إصراره على مواصلة المذبحة. يصفقون للقاتل ضد القتيل، يعلو صوت التصفيق، لكنه لا يطغى على هدير الطائرات ودوي المدافع وهي تدكّ المدارس الملأى بالنازحين والمخيمات التي لا يحميها سقف ولا جدار وما تبقّى من المستشفيات التي تصارع كي تبقى على قيد الوجود.

واقعٌ مؤلم ومفجع يؤكد لنا أن العالم تحكمه القوة المتوحشة. كل ما تغير بين الأمس واليوم، بين القرون الوسطى والقرن الـ21 هو أن القتلة استبدلوا هندامهم الخارجي، وصاروا يرتدون بدلات وربطات عنق، لكن عقولهم لا تزال محشوة بكل العفن الإجرامي، وبكل نزعات السيطرة والهيمنة، بل إن السياسات الاستعمارية التي كانت سابقاً مغلفة ببعض الشعارات البرّاقة والمبادئ الكذّابة باتت اليوم تقدّم نفسها على حقيقتها بلا أي "رتوش" أو أقنعة، إذ يهبّ كل ما يسمّى بـــ"العالم الحرّ" مدافعاً عن أبشع احتلال عرفه التاريخ الحديث؛ عالم ينتحل صفة الحرية ويدافع بشراسة عن عبودية شعب لم ولن يتخلى عن حقه في الحرية والاستقلال.

أمام هذا الواقع، تبدو فلسطين اليوم، وغزة على وجه الخصوص، المحكّ الفاصل، ليس بين الحق والباطل فحسب، بل بين الإنسانية والوحشية أيضاً. لا يمكن لإنسان، أياً كان وأنّى كان، ومهما كانت عقيدته وعرقه وجنسيته، الوقوف على الحياد، واعتبار نفسه غير معني بما يحدث، لأن ما يحدث أمرٌ جلل يستدعي منا جميعاً مراجعة أنفسنا، ومعرفة جانب التاريخ الذي نقف عليه، علماً أن هذا التاريخ نفسه يحتاج إلى مراجعة شاملة في ضوء ما يحدث الآن.

حجم التزوير والتزييف الذي تمارسه القوى الاستعمارية وأدواتها أمام أعيننا وعلى مسامعنا يستدعي الشك في كل ما وصلنا من تأريخ تمت كتابته على أيدي المنتصرين الذين لم يكونوا دائماً للأسف على ضفة الحق، وفلسطين باتت بمنزلة الكاشفة لكل الحقائق التي أُرِيدَ لنا ألّا نعرفها.

لأن المعركة بهذا الوضوح، وبهذه الضراوة، ولأن العالم كله عاجز (قُلْ متواطئاً) عن وقف المجزرة، يغدو كل فعل ذا قيمة، فلا يستخفنّ أحد بموقفه، برأيه، بصوته، بكلمته، مهما كانت بسيطة ومتواضعة. كلمة فوق كلمة تبني عمارة الوعي، وترسّخ مداميك الحقيقة، وتمنع تزوير التاريخ مرة أخرى، فلا يقل أحدنا: ما جدوى كلمتي! ولا يقع في الإحباط والقنوط. نعم، حجم المذبحة مهول ويفوق الوصف، لكن ما دام هناك مَن يقاوم في غزة، وفي عموم فلسطين، فعلينا أن نكون صوته وكلمته. 

الكلمة واجبة وضرورية. لذا، نجد أن أبناء غزة لا يعدمون وسيلة للمقاومة ولإعلان جدارتهم بالحياة وبالحرية، منهم مَن يكتب بالدماء، ومنهم مَن يكتب بالحبر، وما بدلوا تبديلاً، وها هو صديقي الشاعر الغزيّ الشاب جواد العقّاد (ومثله عشرات الكتّاب الغزيّين) من قلب المعمعة ومن وسط النار والبارود يصرّ على الكتابة، فتغدو قصيدته شهادة حياة، فهل كثيرٌ على جواد ورفاقه أن نقرأهم بعين الحب والمؤازرة، وأن نساهم في إيصال كلمتهم إلى حيث نستطيع سبيلاً؟

كتبتُ لجواد عبر إحدى منصات وسائل التواصل الاجتماعي: "سوف تنجو يا صديقي وتكتب شعراً كثيراً وجميلاً"، فكتب لي من قلب خان يونس المدمرة والمحاصرة نصّاً جميلاً بعنوان:

أنجو 


أحملُ أحلامي في عينيَّ جمراً وصلاة 
أعانقُ موتي في الطريقِ الوعرة إلى ذاتي 
وإلى المدينةِ 
يطلقون الرصاصَ الحيَّ على أحلامي الجامحة
كالحياةِ في شبقها الأول.
يطلقون النارَ وتخون الجهاتُ الجهاتِ  
تخون قلبي المسافةُ بين أحلامي والبحر 
يركض قلبي اتجاه البلاد 
مغسولاً بالأناشيدِ والعناقِ المستحيل 
يركضُ أمام الموت 
تعصفُ البلادُ نفْسها وأنجو.. 


يصير قلبي برتقالةً في كفِّ فتاةٍ 
فتاة تخْرج من ضبابِها إلى كلماتي 
لا أعرفها، وأعرفُ رائحةَ البحرِ في أنفاسِها 
تغلقُ يدها طويلاً على البرتقالة 
تتغلغلُ الأرضُ في جسدي، 
وتكون ذاكرة 
يكون حلماً.. 
يعود الموت ثقيلاً 
تتصالح الجهات في صعودِها الأبديِّ  
وأنجو... 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.