الرسم على رمال بحر غزة: فنٌّ حُر داخل أكبر سجن في العالم

في القطاع المحاصر منذ أكثر من عقد، بات بعض سكان غزّة يتّخذون من شاطئ البحر وسيطاً فنياً للتعبير. تعالوا نتعرف إلى قصة محمد طوطح وشريف سرحان.

الرسم على الرمل فنٌّ قديمٌ معروفٌ في كل أنحاء العالم، لكنَّه يصبح أكثر خصوصية، حين يتّخذ من شاطئ بحر غزة وسيطاً فنياً له، فلقد اعتاد سكان هذه المدينة التعبير عن واقعهم وما يشغل بالهم بغير طريقة، ويمنحهم كون البحر مساحتهم في التعبير مزيداً من التفرّد والتفوّق، لأنّه يشكّل مدىً مفتوحاً من جهة الغرب أمام المدينة المحاصَرة، ومتنفَّساً لها بعيداً من حواجز الاحتلال الإسرائيلي وكتله الأسمنتية. وفطن الشاعر محمود درويش مبكِّراً لهذا الشعور، فكان عرّاباً له، ودوّت في الأرجاء قصيدته "هذا البحرُ لي.. هذا الهواءُ الرَّطبُ لي".

فن فلسطيني يعبّر عن القضايا الوطنية

ارتبط الرسم بالرمل منذ القِدَم بفن الماندالا الهندي ارتباطاً وثيقاً، وبما يحويه من أشكالٍ هندسية إبداعية. وارتبط كذلك بالفنون المشابهة لأسلوبه في اليابان، فيما يعرف بالحدائق الصخرية. لكنَّه توحّد في فلسطين المحتلة مع القضايا الوطنية والسياسة، حتى بات عدد من الفنانين يلجأون إلى البحر للرسم على رمله بعد كلِّ حادثة وواقعة. وهو ملجأ لسكان مدينة غزة جميعاً، بقصد الاستجمام أو أخذ قسطٍ من الراحة، وسط تسارع الأحداث وتردّي الأوضاع بفعل الحصار الإسرائيلي الخانق.

من بين الفنانين الذين اعتادوا اللجوء إلى شاطئ بحر غزة، الفنان التشكيلي محمد طوطح (33 عاماً)، الذي فقد قدمه اليمنى في قصف للاحتلال الاسرائيلي استهدف منزله في عدوان عام 2008. كان محمد يجري تجارب عدة وهو جالس عند الشاطئ، يخلط الرمل بالماء ليصنع الزوايا، وينفّذ أفكاره الفنية أسوةً بمن سبقوه في هذا المجال، فلقد امتلك موهبة الرسم والخط العربي منذ الصغر، لكن الوسيط الفني مغايرٌ هذه المرة ومغرٍ، ما سيجعله فيما بعدُ يقصد البحر يومياً منذ ساعات الصباح الأوَل.

يقول محمد طوطح لــ"الميادين الثقافية": "الرسم على الرمل فرصتي في التعبير عن قضية وطني الجريح، الذي يجد في البحر راحةً له"، مضيفاً: "أخرجني البحر من عزلتي بعد الإصابة، وأعاد دمجي بالمجتمع".

ويتابع طوطح: "كنت أخطّ على الرمل ما يدور على الساحة الفلسطينية، وقد حظيت بتشجيع الناس لي، ففي ذلك الوقت لم يكن قد انتشر بعد هذا الفن على نحو واسع".

هذا النوع من الفن غير مُكلف، فبحسب طوطح، ما يلزمه هو "رمل، ماء، مسطرين، كريك، بخاخ التثبيت، وأحياناً الألوان".

أمّا بشأن مساحة الرسم على الشاطئ، والموضوع الذي يُعبّر عنه، فيوضح: "رسمت على مساحاتٍ متعددة، وامتدّت أكبرُ رسمةٍ 500 متر، واستغرقت نحو 10 ساعات من العمل".

يُفضّل طوطح الرسم بعد طلوع الفجر، وقبل ذلك يتابع الأرصاد الجوية خشية أن يباغته الموج. يرسم كلماته ويشرع في تفريغ الرمل حولها بأدواته اليدوية. وبعد الانتهاء، يوثّق عمله الفنّي بصورةٍ يلتقطها بواسطة التصوير الأرضي أو الجوي. وتمكّن من إنجاز ما يزيد على 5000 رسمة، أغلبها بشأن مواضيع سياسية، وطنية، اجتماعية، أما آخر رسومه فحمل اسم الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة.

بمرور الوقت، تحوّل الأمر من مجرَّد هوايةٍ وطريقةٍ في التعبير إلى مصدر رزق، فباتت تصل إلى طوطح طلبات عدة للرسم على الرمل، سواء من أشخاصٍ يريدون كتابة أسمائهم، أو مؤسساتٍ وجمعياتٍ متعددةٍ بهدف الدعاية لبرامجها ومشاريعها والقضايا التي تتبناها، وهذا ما جعله ملازماً للبحر، فأنشأ بسطةً، كشكاً صغيراً لبيع المشروبات.

الفنان التشكيلي شريف سرحان بين من جهته، في حديثٍ إلى "الميادين الثقافية" أنَّ: "هذا النوع من الفنون المعاصرة يُنتَج بطريقةٍ لحظية، فهو عمل تركيبي فوتوغرافي يستغرق ساعات، وربّما أياماً، ويوثّق بالتصوير".

وأضاف إنَّ الفنان يلجأ إلى هذا النوع من الوسائط (الرمل) لأنَّ تكلفته أقلّ، وهو يُعطي الفنان مساحةً واسعةً ليُبدع في استخدامها، "نظراً إلى أنَّ طبيعة هذا الوسيط تجعل تثبيت الأعمال الفنية، على نحو دائمٍ، أمراً صعباً، لذا توثَّق بالتصوير، ويجري تداولها عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي".

وبحسب سرحان، بدأ هذا الفن بالظهور في غزة منذ أكثر من 12 عاماً. ومن بين أشهر الفنانين الذين مارسوا الرسم على الرمل الفنان الشاب أسامة سبيته، الذي رسم على مساحة 75 متراً رسمةً عبّر فيها عن أحداثٍ ومحطَّاتٍ داميةٍ عاشها الشعب الفلسطيني، منذ النكبة حتى يومنا هذا.

تاريخٌ بدأ بالنحت على جدران كهوف 

  • الرسم على رمال بحر غزة: فنٌّ حُر داخل أكبر سجن في العالم
    الرسم على رمال بحر غزة: فنٌّ حُر داخل أكبر سجن في العالم

لا يقتصر هذا الفن على غزة. إذ تجد في العالم أعمالاً ضخمةً تمتد على مئات الأمتار، وتنفّذ بآلياتٍ ضخمةٍ كالجرافة.

وأشار الفنان التشكيلي، شريف سرحان، إلى أنَّ الفنانين رسموا أيضاً على رمال الصحراء، مبدياً اعتقاده بأنّ "هذا الفن متصلٌ بالرسم على الصخور وجدران الكهوف، بحيث استخدمه الإنسان الأول لتوصيف حالاته، وحفظ ما يتعلّق به وبمعتقداته ودينه".

في سياقٍ آخر، ظهرت في تسعينيات القرن الماضي أنشودةٌ بعنوان "صوّر يا مصوارتي"، كانت تبث عبر شاشة تلفزيون فلسطين مساءً، وينتظرها الصغار قبل الكبار بفارغ الصبر ليشاهدوها ويستمتعوا، حتّى إنَّه كان للبعض مقطعٌ مفضَّلٌ منها، وغالباً كان مشهد طفلةٍ ترتدي فستاناً أزرق، وتجلس القرفصاء عند الشاطئ، فيما ترسم قبة الصخرة.

وكان مطلع الأنشودة الموافق لهذه اللقطة يقول: "صوّر يا مصوراتي صورة لأهلي وإخواتي، صورة تجمعنا عالشط، بنت صغيرة بتكتب خط.. قدسي قدسي عربية".