الحركة المسرحية الفلسطينية قبل النكبة: الظاهرة والرواد
ما دور المدارس الوطنية في نشأة المسرح في فلسطين؟ وهل ساهمت الفرق المسرحية العربية في تطوّر المسرح الفلسطيني؟
الكتابة عن المسرح الفلسطيني في بداياته صعبة، أولاً لأنّ المراجع والوثائق نادرة جداً، ولذلك عدة أسباب منها: أنّ الاحتلال الإسرائيلي دمّر معظمها أو صادرها أو أخفاها وسرقها، وأيضاً أنه لا يوجد أرشيف خاص بالمسرح الفلسطيني في الأراضي المحتلة، الأمر الذي تجمع عليه الدراسات كلها، وحتى خارج الأراضي المحتلة، ليس ثمة أرشيف فيها عن المسرح الفلسطيني.
الأمر الآخر، عند البحث عن تجربة ريادة مسرحية نهضوية في فلسطين، تقارب تجربة الروّاد الأوائل في سوريا ولبنان ومصر (أبو خليل القباني ومارون النقاش ويعقوب صنوع)، تنحصر في المرحلة الزمنية الفلسطينية ما قبل النكبة، بين 1918 و 1948، حين بدأت هناك حركة مسرحية فلسطينية خاصة، وعن ذلك يقف مرجعٌ وحيد لواحد من روّاد الحركة المسرحية هو نصري الجوزي (المقدسي) الذي كتب "تاريخ المسرح الفلسطيني 1918 – 1948"، وذكر تجارب الريادة آنذاك، والعوامل التي أسست لها.
المدارس الوطنية الفلسطينية
-
مدخل مسرح الحرية في مخيم جنين
عام 1908، سنة إعلان الحقبة الدستورية الثانية في السلطنة العثمانية، قام الشيخ محمد الصالح بتأسيس "روضة الفيحاء" التي اختفت أثناء الحرب العالمية الأولى، وبعد الاحتلال البريطاني استأنف الشيخ مع جماعة من أصدقائه تأسيس مدرسة وطنية باسم "روضة المعارف الوطنية"، وظلت حتى سنة هزيمة عام 1967. كذلك فقد أسس خليل السكاكيني عام 1909 "المدرسة الدستورية"، وتأسست "مدرسة النجاح الوطنية" عام 1922 في نابلس، وحين تولى رئاستها عزة دروزة 1922 - 1927 حوّل عام 1923 روايته "وفود النعمان إلى كسرة" إلى تمثيلية قامت فرقة تمثيل المدرسة بتمثيلها على مسرح البلدية. وعام 1924 وضع تمثيلية بعنوان "عبد الرحمن الداخل" وعام 1925 "ملك العرب في الأندلس".
بعد الاحتلال البريطاني انتشرت المدارس الوطنية أكثر، ونشطت الحركة المسرحية فيها، واتجهت إلى إحياء التراث العربي واستقت موضوعاتها من تاريخه، مقابل مدارس الإرساليات التي كانت تقدّم مسرحيات موليير وراسين وكورني وشكسبير.
ظهرت آنذاك إلى الوجود مسرحيات فلسطينية مثل: "جابر عثرات الكرام"، "جريح بيروت"، "عنترة العبسي"، "صلاح الدين الأيوبي"، "مملكة أورشليم"، "طارق بن زياد"، "فتح الأندلس"، "عليا وعصام"، وغيرها.
ثاني العوامل التي يضعها الجوزي هو زيارة بعض الفرق المسرحية العربية الأولى إلى فلسطين، إذ زارت بين 1920 - 1930 فرق مسرحية عربية فلسطين وقدّمت عروضها هناك، مثل فرقة جورج أبيض، وفرقة رمسيس بإدارة يوسف وهبي، وأمين عطا الله، وفاطمة رشدي، وعلي الكسار، ونجيب الريحاني. الأمر الذي جعل الشبان الفلسطينيين يقبلون على تأسيس فرق تمثيلية ونوادٍ أدبية. وسوف تدلنا بعض المقالات المكتوبة في جريدة "فلسطين" عام 1928 عن مقارنة كانت تُعقد بين الفرق الفلسطينية والفرق المصرية.
الجمعيات والنوادي الفلسطينية
-
مدرسة في رام الله أواخر القرن الــ 19 وأوائل القرن الــ 20
بعد إعلان الدستور العثماني 1908 وعلى أثر الاحتلال البريطاني 1917 - 1918، تأسست جمعيات ونوادٍ أدبية فلسطينية في مختلف المدن، منها ما يعنى بالتمثيل كفنّ خاص، مثل "جمعية نهضة التمثيل الأدبي" في حيفا، التي تأسست أوائل القرن العشرين وأصدرت عام 1914 نشرة تبيّن أهدافها صدرت عن مطبعة الكرمل في حيفا، وقد تصدّرها شعاران هما: "التمثيل هو مدرسة الشعب على المسرح"، "التمثيل خير وسيلة للنهضة الأدبية في البلاد".
كذلك فقد سعت جمعية "الشبيبة المسيحية" المؤسسة عام 1915 إلى تقديم مسرحيات تنبّه الشعب إلى الأوضاع الاجتماعية السائدة، وقد ترّأسها أديب شاب في ذلك الوقت اسمه، أديب الجدع.
ومن بين الجمعيات التي كان لها أثر أكبر على الحركة المسرحية "جمعية النهضة الاقتصادية العربية"، التي دعا إلى تأسيسها نجيب نصار صاحب جريدة "الكرمل"، وقد ساهم بدوره في حقل التأليف المسرحي بمسرحيتي "مجد العرب" و"وفاء العرب" التي مثّلت في الناصرة وحيفا عام 1919.
ينقل عبد الرحمن ياغي في كتابه "الأدب الفلسطيني الحديث" عن إبراهيم عبد الستار قوله: "لأول مرة تألّقت فرقة تمثيلية عربية وقامت بعرض رواية اجتماعية (شكسبير - هاملت) وهي من تعريب الكاتب طانيوس عبده، وإخراج الأديب جميل إلياس خوري. ولأول مرة يمكننا أن نقول إن فرقة الكرمل هي الفرقة العربية التي استطاعت القيام بأدوار تمثيلية معقّدة، ومن بين أفراد الفرقة سيدات ممثّلات كأسماء خوري وثريا أيوب".
من بين الروّاد المؤلفين المسرحيين في حيفا، والذين ساعدوا على نشر فكرة التمثيل والمسرح في المدارس، جميل البحري. وقد أصدر مجلة "الزهرة" عام 1921، وقسّم كل عدد إلى قسمين، قسم فيه رواية مستقلة وقسم ثانٍ تحت عنوان "معرض الأقلام"، وله كتاب "تاريخ حيفا" عام 1922.
أما في يافا، فعن طريق "جمعية ترقي الآداب الوطنية في يافا"، التي أشهرت رسمياً عام 1908، وبحسب مقدمة النشرة التي أصدرتها الجمعية، ذكرت النشاط المسرحي الذي كان يرصد ريعه لتحقيق أهداف الجمعية.
كذلك كان "نادي الشبيبة الأرثوذكسية للبنين" مبرزاً في نشاطه المسرحي، وكان الأخوان خليل ويوسف القدسي مشرفين على جميع التمثيليات، كما كانا يقومان بالأدوار الرئيسية وتدريب بقية الممثلين.
وقد كُتب في جريدة "فلسطين" في عددها الصادر عام 1928 عن فرقة النادي بعد أن زارت القدس ومثّلت فيها: "لقد كنا نظن قبل اليوم أنّ فنّ التمثيل في فلسطين متأخر جداً، ولكن ما كدنا نشاهد هذه الفرقة حتى كنا في ظننا مخطئين، وقد ظننا أنفسنا أمام المسارح المصرية التي أخذت هذا الفن مهنة لها من زمن بعيد".
-
صورة لطلاب من جامعة النجاح من القرن الماضي
كما كتب إلياس الرنتيسي في جريدة "فلسطين" عام 1928 يقول إن: "الفرقة نالت ثقة الجمهور وحازت شهرة واسعة في القطر الفلسطيني حتى شهد لها الكثيرون بأنها تضارع الفرق المصرية". ومثّلت الفرقة في الرملة "الشعب والقيصر" عام 1928، وفي يافا "الذبائح" باللهجة المصرية من تأليف أنطون يزبك في العام نفسه، وأعادت تمثيلها في بيت لحم. كما مثّلت "لولا المحامي" لسعيد تقي الدين، و"الهاوية" لمحمد تيمور، و"الهوس" لحافظ نجيب، ودُعيت إلى القدس.
ظهرت فرقة أخرى هي "جمعية الشبان الإسلامية" ومثّلت "في سبيل التاج" على مسرح قهوة البلور في يافا، ومثّلت "وامعتصماه" عام 1927.
على كثرة النوادي والجمعيات فسوف نذكر بعضاً منها بحسب توزّعها في المدن الفلسطينية آنذاك، للاطلاع على مدى انتشار الحركة المسرحية، وكذلك الثقافية والنهضوية، في فلسطين، وأيضاً لتبيان مختلف التوجّهات الفكرية لهذه النوادي والجمعيات، الذي يمتد إلى فكرتها عن المسرح كظاهرة وما الذي تريده منه.
ففي بيت لحم كانت "الجمعية الأنطونية البيتلحمية" و"نادي الشبيبة البيتلحمية". أما في رام الله فكانت "جمعية الإخاء الأرثوذكسي"، وفي نابلس "نادي حزب العمال العربي النابلسي"، وفي الناصرة "نادي الشبيبة الأرثوذكسية"، وفي عكا "شعبة المعارف" و"الجمعية الأدبية الخيرية" و"جمعية مار منصور" و"جمعية اتحاد عكا للسيدات"، الذي رعته أسمى طوبي بين 1929- 1948، وهي إحدى الرائدات.
أما في غزة فكان هناك "النادي الأرثوذكسي"، وفي القدس "النادي العربي" و"المنتدى الأدبي" و"جمعية الترقي والتمثيل العربي"، و"النادي العربي المقدسي"، و"جمعية الفنون والتمثيل"، و"نادي الشبيبة الأرثوذكسية" برئاسة نصري الجوزي صاحب "الحق يعلو"، ثم "الفرقة التمثيلية العربية" برئاسة جميل الجوزي، ثم "فرقة الثقافة والفنون" برئاسة شكري السعيد.
مع تأسيس محطة الإذاعة الفلسطينية عام 1936 والتشجيع على الفن والمسرحيات، ازداد عدد الفرق الإذاعية، ففي عام 1944 كان في القدس وحدها ما يربو على 20 فرقة، ثم انضمت الفرق إلى "اتحاد الفنانين الفلسطيني" و"اتحاد الفرق التمثيلية"، اللذين ظلا يعملان حتى سنة النكبة 1948.
روّاد الحركة المسرحية الفلسطينية
-
إعلان في جريدة "الحياة" لحفلة تحييها فرقة الريحاني في القدس قبل النكبة
لا يمكن إحصاء كلّ من اشتغل أو أسهم في الحركة المسرحية في فلسطين قبل النكبة، والمعلومات المتوفّرة حول الروّاد الأوائل قليلة، والشهادات كذلك قليلة.
كما أنّ دراسة حركة الريادة تتطلّب عادةً اطلاعاً على النصوص ودراستها، الأمر العسير تطبيقه على المسرح الفلسطيني. إذ إن أغلب النصوص التي كانت تُقدَّم آنذاك مفقودة. على أية حال، فغير الاستقاء من التراث العربي وحكاياته، ما إن انكشفت نية المشروع البريطاني - الصهيوني، وأُقرَّت في صك الانتداب، تم الانتباه لها، ووجّه لها المسرح الفلسطيني نقده، فلنصري الجوزي مسرحية موضوعها الأساسي بيع الأراضي في ذلك الوقت، ما يعني أنّ المسرح كان يواكب أي تطوّر يطرأ في الحالة الفلسطينية، الأمر الذي يؤكّد مرونة الفاعلين فيه واعتباره لا حركة نهضوية فحسب، بل "مدرسة الشعب"، كما جاء في بيانٍ قديم.
أما عن الروّاد، فنذكر منهم: جميل البحري، أسمى طوبي، الأب أسطفان سالم، برهان الدين العبوشي، نجوى قعوار فرح، صليبا ونصري الجوزي، شفيق ووديع ترزي.