التطهير العرقي في فلسطين (2-2): التدمير الممنهج للهوية القومية والدينية للقدس

بدأ الاستيطان اليهودي داخل البلدة القديمة مباشرة بعد احتلالها، وخاصة فيما يسمى الحي اليهودي، ومنه تم هدم حي المغاربة والاستيلاء على ساحة البراق، من دون أي رد عربي أو إسلامي.

  • لا تزال سياسة الاحتلال الإسرائيلي في التطهير العرقي مستمرة.
    لا تزال سياسة الاحتلال الإسرائيلي في التطهير العرقي مستمرة.

البدايات والمراحل اللاحقة للتدمير الممنهج للهوية القومية والدينية للقدس بهدف تهويدها

البدايات: بناء القدس الجديدة

لا يختلف باحثان أن بناء "القدس الجديدة"، وهي المنطقة التي بنيت خارج الأسوار من الجهات الغربية والجنوبية والشمالية من القدس القديمة، أو التي عُرفت لاحقاً باسم "القدس اليهودية" أو "القدس الغربية"، لم تكن لتُبنى لولا ثلاثة عوامل أساسية مساعدة: 

الأول، هو اهتمام العالم الغربي بمكانة القدس الدينية في منتصف القرن التاسع عشر وحصول الجاليات الأجنبية، ومنهم اليهود، على إذن من الحكومة العثمانية يسمح لهم بالبناء خارج أسوار القدس. 

الثاني، هو المخططات الصهيونية لخلق علاقة بينهم وبين المدينة المقدسة لتحقيق أهداف المشروع الصهيوني في فلسطين. 

الثالث، هو وجود أراضٍ واسعة للكنائس المسيحية، وغالبيتها للكنيسة الأرثوذكسية التي تسيطر عليها بطريركية يونانية فاسدة.

وعليه، فعند احتلال الجيش البريطاني للقدس، تم تنصيب هربرت صموئيل الصهيوني أول مندوب سامي للانتداب البريطاني ومركزه في القدس. 

مع انتهاء الحكم العثماني وبداية الانتداب البريطاني كشفت البطريركية اليونانية الفاسدة، برئاسة البطريرك دوميانوس، عن ديونها التي بلغت أكثر من 600 الف جنيه مصري، وقد توجهت البطريركية الى البنك الوطني اليوناني لمساعدتها في سداد ديونها. إلا أن البنك اشترط على البطريرك تسجيل كل الأوقاف التابعة للكنيسة على اسم البنك لغاية سداد القرض، لكن البطريرك رفض ذلك. 

في 12 تموز / يوليو 1921 باع البطريرك دميانوس الى "شركة استصلاح الأراضي" الصهيونية، حديقة انتيموس، شارع بن يهودا اليوم، إضافة الى قطعتي أرض في مركز المدينة الجديدة بمبلغ 207 ألف جنيه مصري. كانت هذه هي الصفقة الأولى التي يوقعها بطريرك يوناني مع الحركة الصهيونية، بارك المندوب السامي هذه الصفقة بالرغم من معرفته أنها أراضٍ وقفية لا يجوز بيعها، على الرغم من اعتراضات الفاتيكان وباقي الكنائس العربية واعتراض أبناء الكنيسة العرب على هذه الصفقة[1]. 

لكن على الرغم من ذلك، بقيت الديون المتراكمة على البطريركية، وبقي البطريك دميانوس يبحث عن حل. وفي الأول من أيلول / سبتمبر من العام 1921، وفقاً لتقرير برترام -يانغ، بلغت ديون البطريركية  636.706 جنيه مصري. واستمرت البيوعات لسد الديون، مرة أخرى عادت الديون في الأول من أيلول / سبتمبر 1925 لتبلغ 531,734 جنية مصري[2]، كله بسبب الفساد الذي طغى على كل شي في الإدارة اليونانية للبطريكية من دون حسيب أو رقيب.

المرحلة الأولى: احتلال القدس الجديدة 1948 

عند احتلال القسم الغربي من القدس الجديدة على أيدي العصابات الصهيونية، تم تهجير السكان الفلسطينيين الذي يسكنون في الحارات الراقية من القدس الجديدة ومنهم حي القطمون، والطالبية والبقعة وتل بيوت والمالحة وغيرهم وتحولوا الى لاجئين، واستولى اليهود على منازلهم الفخمة وأراضيهم وأملاكهم الأخرى. كما احتل اليهود قرية القسطل وعين كارم والقرى المحيطة بالقدس من الجهة الغربية، وطردوا سكانها من بيوتهم، وما زال اليهود يسكنون البيوت العربية لغاية اليوم، وقد حولتها حكومات الاحتلال الإسرائيلي الى ملكيتهم الخاصة بالكامل.

بعد احتلال القدس الغربية استمر تسريب الأوقاف الارثوذكسية الى الحركة الصهيونية، مرة تلو المرة بحجة تسديد الديون المتراكمة على البطريركية، أهم هذه الصفقات هي ما عرفت بصفقة الطالبية وحديقة الجرس والقطمون، وأرض سكة الحديد والمصلبة[3].

المرحلة الثانية: حزيران / يونيو 1967 وتهجير 200 ألف فلسطيني الى الأردن

تحدثنا في الجزء الأول من الدراسة عن عملية تهجير "طوعي" لـ200 ألف فلسطيني، من الضفة الغربية عامة بما في ذلك القدس، في أعقاب حرب 1967. هكذا بدأت عملية إلغاء الإقامة، على يد الحاكم العسكري حاييم هرتسوغ. وهكذا، بقي في القدس بموجب الإحصاء الإسرائيلي بعد حرب حزيران / يونيو، 66 ألف فلسطيني فقط.

عند احتلال القدس الشرقية، من قبل الجيش الإسرائيلي في الخامس من حزيران / يونيو 1967 استولت سلطات الاحتلال على العقارات العربية هناك بالكامل، وبدأت عملية طويلة الأمد لتهويد القدس وإضعاف الهوية العربية الفلسطينية لها، ومن ثم جرت محاولات، لا تزال مستمرة، لإضعاف الهوية الإسلامية للمدينة وتهميشها، بعد أن أضعفت الهوية المسيحية للمدينة المقدسة من خلال الاستيلاء على الأوقاف المسيحية بتعاون رؤساء الكنائس غير العرب معها، وليس فقط اليونان الأرثوذكس.

أحداث وتداعيات

يوم 21/8/1969 أقدم متطرف يهودي أميركي على إحراق المسجد القبلي، وادعت حكومة إسرائيل آنذاك، انه مجنون- ويعاني من "سيندروم القدس". لم يفعل العرب والمسلمون شيئاً، وهذا أثار انتباه غولدا مئير التي توقعت أن "تقوم في الصباح لترى الجيوش العربية في القدس"، وهذا لم يحدث. هذا السلوك العربي والإسلامي شجّع القيادة الصهيونية على أن تتمادى أكثر، وهم على ثقة بأن القيادات العربية والإسلامية لن تفعل أي شي لتمنعهم من تحقيق طموحاتهم ومخططاتهم. من هنا تعززت عمليات الاستيطان والتوسع في القدس من دون حساب لردود الفعل العربية والإسلامية. 

بدأ الاستيطان اليهودي داخل البلدة القديمة مباشرة بعد احتلالها، وخاصة فيما يسمى الحي اليهودي، ومنه تم هدم حي المغاربة والاستيلاء على ساحة البراق، من دون أي رد عربي أو إسلامي. ثم اتسع الاستيطان، وفق خطة آلون، وبعدها خطة شارون، التي توافقت مع مخططات الحركات الاستيطانية الصهيونية. وعملية مصادرة الأراضي والاستيطان جارية حتى اليوم من دون رادع.

المرحلة الثالثة: ما بعد أوسلو، الاستيطان والتهجير في ظل المفاوضات

اتفاق أوسلو عام 1993 لم يوقف الاستيطان، بل تركه للحل النهائي. استغلت حكومات الاحتلال أجواء المفاوضات وتراجع المقاومة، فضاعفت الاستيطان بعد اتفاقية أوسلو، في القدس وفي الضفة الغربية عامة وبقي الجسد الفلسطيني ينزف. ففي حين كان عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس عشية اتفاق أوسلو 270 ألف مستوطن، بلغوا في العام 2008 455 ألف مستوطن، منهم 185 ألفاً في القدس الكبرى و270 ألفاً في الضفة الغربية. أما اليوم فقد تجاوز مجموع المستوطنين 751 ألفاً[4] مع مخططات لحومة نتانياهو-بن غفير للوصول الى مليون مستوطن في السنوات القليلة القادمة، وفقاً لوثائق حكومية رسمية، وكذلك تبييض 80 بؤرة استيطانية وبناء مدينة جديدة غربي أريئيل بالإضافة الى 100 مشروع بناء استيطاني على طاولة بلدية القدس.

في ظل اتفاقية أوسلو أيضاً، بنت سلطات الاحتلال جداراً عازلاً، سمي بجدار الفصل العنصري، داخل الأرض الفلسطينية المحتلة عام 67 وفصلت منطقة زراعية فلسطينية واسعة عن باقي أراضي الضفة الغربية، ومنعت أصحابها إمكانية فلاحتها إلا بموجب تصريح أمني، قليلاً ما يعطى لأصحاب الأرض، بهدف إجبارهم على بيع أراضيهم. إضافة الى ذلك عمدت سلطات الاحتلال بطريقة التضييق على السكان الفلسطينيين، غربي الجدار، وكانت النتيجة هي تهجير36.724 فلسطينياً من قراهم وأراضيهم[5].

في الأول من نيسان / أبريل 1993 فرضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي طوقاً أمنياً عسكرياً حول القدس العربية، وقد ترك هذا الإجراء تداعيات سلبية على مجمل حياة الفلسطينيين في القدس، وعلاقتهم مع الضفة الغربية عامة، في الحياة الاقتصادية والتجارية والمالية والصناعية والصحية والتعليمية. وخلال سنوات قليلة بلغت الخسائر المادية للمقدسيين مئات ملايين الدولارات، كما يقول د. نبيل كوكلي. التجارة أصبحت راكدة، أما الصناعة فمن الصعب الحصول على ترخيص لورشة عمل، والسياحة تتراجع بشكل مطرد لصالح القدس الغربية.

تفاقم الاستيطان الإحلالي

في العام 1997 أصدر معهد الدراسات التطبيقية في بيت لحم، بالتعاون مع دائرة الخرائط في جمعية الدراسات الفلسطينية في بيت الشرق، دراسة أوضح فيها تفاقم الاستيطان اليهودي في القدس ومخاطره المستقبلية، وذلك بالرغم مما جاء في اتفاق المبادئ واتفاق أوسلو، بأنه لا يجوز لأحد الطرفين أن يقوم بعمليات أحادية الجانب من شأن نتائجها أن تعطل آلية التفاوض في الحل النهائي. مع ذلك، سارعت "إسرائيل" الى القيام بإجراءات أحادية الجانب لتغيير الواقع الديموغرافي في القدس.  

خلال فترة قصيرة قامت سلطات الاحتلال بتعزيز الاستيطان حول القدس وإقامة أحياء جديدة فيها، منها[6]: 

1.    إنشاء مستوطنة ريخس شعفاط 1994 على مساحة 2000 دونم.

2.    توسيع مستوطنة راموت آلون التي أقيمت عام 1970 بأكثر من 200 دونم.

3.    إقامة مستوطنة هار شموئيل، إذ صودرت أكثر من 3500 دونم عام 1993 بهدف إقامة هذه المستوطنة عليها.

4.    زيادة مساحة مستوطنة جفعات زئيف بأكثر من 2000 دونم بهدف توسيعها.

5.    توسيع مستوطنة هار ادار.

6.    توسيع مستوطنة النبي يعقوب على الحدود الشرقية لمدينة القدس. 

7.    توسيع مستعمرة بسغات زئيف وبسغات عومر.

8.    أما الأهم فهي مستوطنة هار حوماه التي بنيت على جبل أبوغنيم وفصلت بين مدينة القدس ومدينة بيت لحم على مساحة 2700 دونم.

إجراءات إسرائيلية أخرى بهدف دفع المقدسيين الى خارج المدينة او الهجرة، وتهويد المدينة                           

في البنية التحتية للمدينة تم: 

· منع الترخيص لأبنية جديدة، وهدم البيوت العربية التي تبنى من دون ترخيص.

· بناء المستوطنات حول القدس وضمها إليها.

· إقامة بنية تحتية مشتركة، وإهمال فظيع للأحياء العربية من المدينة.

· المواصلات، هدم محطة الباصات المركزية التي كانت تصل القدس مع الضفة الغربية وغزة. هذا حصل بعد الانتفاضة الأولى بشكل مكثف وبناء خط مترو فوق الأرض من شمال القدس إلى جنوبها.

· شراء عقارات بطرق ملتوية أو صفقات سرية أو الاستيلاء على عقارات بذرائع مختلفة منها إقامة حدائق عامة للمستوطنين أو مواقف سيارات...الخ

· إحاطة القدس بحواجز لمنع سكان الضفة شمالاً أو جنوباً من الدخول إليها إلا بتصريح.

· حتى الصلاة في القدس للمسيحيين أو المسلمين أصبحت بحاجة إلى تصريح أمني.

سحب الهويات المقدسية

خلال الانتفاضة الأولى، وتحديدا عام 1988 صدر قرار إسرائيلي هو القرار 88/282، بسحب الهويات من المقدسيين، لكن الانتفاضة أوقفت أو عطلت تطبيقه حتى العام 1995، إذ أضيف إليه مقياس الإقامة بشرط إثبات "مركز الحياة". من يعيش في القدس لكن عمله خارج المدينة، لا تحق له الإقامة باعتبار أن مركز حياته هو مكان عمله. أما من يعيش خارج القدس ويعمل فيها، فلا تحق له الإقامة أيضاً باٌعتبار أن "مركز حياته" أي سكنه خارج القدس.

لاحقاً، في العام 2002 تم توقيف قانون لم شمل العائلات ولا يزال معطلاً لغاية الآن.

إضافة الى ذلك تم إقرار أوامر وقوانين لسحب هوية المقدسيين كالتالي:

· إلغاء إقامة الأشخاص الذين يسكنون في ضواحي القدس خارج حدود البلدية.

· إذا ما حصل على جنسية دولة أخرى، جنسية أميركية مثلاً.

· سحب الهوية لأسباب أمنية.

في المحصلة، وصل عدد الهويات المقدسية التي سُحبت من سكان القدس بين 1967- 2020 وفق منظمة بيتسيلم الإسرائيلية الى 14701 بطاقة[7].

استهداف الهوية العربية الفلسطينية 

بعد العام 2000 استهدفت سلطات الاحتلال، وبشكل ممنهج، المؤسسات الفلسطينية عامة، التجارية والثقافية والسياحية وأي مؤسسة لها طابع هوياتي، مثل بيت الشرق، فأغلقت ثلاث مؤسسات ثقافية في تموز / يوليو 2020 هي:

· – معهد إدوارد سعيد للموسيقى

·   - معهد يبوس الثقافي

·   - شبكة فنون القدس (شفق)

بحجة عدم دفع الضرائب للبلدية أو التأخر في دفع فاتورة الكهرباء (هنا لا بد من طرح السؤال: لماذا لم يُقدم لهم الدعم المادي لتفادي هذه الإجراءات التعسفية؟).

منذ العام 2000 أغلقت قوات الاحتلال 42 مؤسسة فلسطينية في القدس بالذرائع نفسها. كما دمرت المؤسسات السياحية وألحقتها بالمؤسسات الإسرائيلية. وهذا شمل بناء فنادق بديلة إسرائيلية في مستوطنة هارحوماه (على جبل أبو غنيم) ومخططات لبناء فنادق بالقرب من دير مار إلياس على طريق بيت لحم، على الأرض التي استملكتها شركات استيطانية من البطريركية اليونانية. وبذلك يتم تحويل المرشدين السياحيين الفلسطينيين، تدريجياً، للعمل مع شركات إسرائيلية، وفق المنهاج والرواية الإسرائيليين، وحصر تسويق السياحة الدينية المسيحية في الخارج بيد الاحتلال الإسرائيلي.    

مسلسل المواجهات مع الاحتلال في القدس

لم يتوانَ المقدسيون في مواجهة سلطات الاحتلال دفاعاً عن ديانتهم ومقدساتهم وهوية مدينتهم. وواجهوا مجازر الاحتلال بمزيد من الصمود.

· مجزرة الاقصى الأولى في 2/12/1992 التي أدت إلى استشهاد 31 مصلياً وإصابة 152 بجروح مختلفة بعد محاولة مجموعة من المستوطنين وضع حجر الأساس لبناء الهيكل المزعوم.

· مجزرة الأقصى الثانية، هبة النفق، في 25/9/1996، والتي راح ضحيتها 51 شهيداً وإصابة 222 فلسطيني آخرين، بعدما فتحت قوات الاحتلال النار على المصلين في الأقصى، أولئك الذين هبوا يرفضون افتتاح النفق بالقرب من الجدار الغربي للأقصى. 

· اقتحام رئيس وزراء الاحتلال أرييل شارون المسجد الأقصى المبارك في 28 أيلول / سبتمبر 2000 بحماية جنود الاحتلال، وانطلاق الانتفاضة الثانية.

· معركة البوابات الالكترونية عام 2015.

· معركة سيف القدس أيار/مايو 2021.

· وأخرها معركة مسيرة الأعلام الإسرائيلية عام 2022.

كيف انعكس التطبيع على واقع القدس؟

ادعت الأنظمة العربية المطبعة دائماً بأنهم تفعل ذلك من أجل مساعدة الفلسطينيين، لكن النتيجة كانت عكس ذلك. لأن الإسرائيلي رأى بالتطبيع تعزيزاً للاحتلال، واستسلاماً عربياً للكيان الإسرائيلي، وحصاراً أو عزلاً للشعب الفلسطيني عن ظهره وسنده العربي والإسلامي، فازدادت غطرسته وطموحه لمزيد من القمع والاستيطان وحتى التعدي على المقدسات الإسلامية.    

التهويد الديني للقدس 

بعد أن نجح المحتل الإسرائيلي في تدمير الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية للفلسطينيين في القدس، دخل الآن في مرحلة حاسمة لتدمير الطابع الإسلامي للمدينة المقدسة، وذلك من خلال تعاظم الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من العقارات خارج البلدة القديمة وداخلها، إضافة الى الاستيلاء على البوابات الرئيسية للبلدة القديمة. فبعد أن استولى الاحتلال، بالكامل، على باب المغاربة، أي البوابة الجنوبية، ومنها يدخل اليهود فقط الى ساحة البراق، واستولى على باب الخليل بالتواطؤ مع البطريركية اليونانية، حان الوقت، بموجب مخططهم، للاستيلاء على باب العامود، المدخل التجاري والديني الأهم للبلدة القديمة، والمؤدي الى المسجد الاقصى.

الحفريات

لا أحد، لا جهة إسلامية أو دولية، يراقب الحفريات التي تقوم بها سلطات الاحتلال تحت المسجد الأقصى أو بالقرب منه. حيث يتم هدم آثار غير يهودية، وتنسيب آثار كنعانية الى اليهود، وبناء "آثار" جديدة في المكان منها، كنس يهودية (63 عملية حفر حتى العام 2016).

المعركة على بوابات القدس القديمة وبوابات الأقصى 

تسعى سلطات الاحتلال إلى الاستيلاء على بوابات القدس القديمة (باب المغاربة، الخليل، المعركة على باب العامود وباب الرحمة). كما تسعى إلى السيطرة على بوابات الأقصى وإدخال المقتحمين اليهود من عدة بوابات، لتسهيل مهمة التقسيم الزماني والمكاني للأقصى، كما هو حال المسجد الابراهيمي[8].

كل هذه الإجراءات حصلت ضمن منهج "حساب المخاطر" الذي تتبعه "إسرائيل" منذ نشوء الحركة الصهيونية الى اليوم.  تخطط، تستهدِف، تنفِّذ على مراحل، بهدوء وخبث، وحين تطمئن من انعدام رد فلسطيني أو عربي أو إسلامي، تتقدم لتحقيق الهدف المنشود، وتعمل لاحقاً للحفاظ على هذا الإنجاز بشتى الوسائل. وفي مراجعة بسيطة، يثبت التاريخ أنه كلما نجحت الحركة الصهيونية في تحقيق هدف من أهدافها، وجعلته أمراً واقعاً، ازدادت شهيتها لتحقيق أهداف أخرى. هذه هي طبيعة الحركة الصهيونية ونهجها الخبيث و"الوثاب". 

وفي مراجعة بسيطة أخرى للتاريخ منذ عام 1948 وحتى اليوم، يمكن القول، إن "إسرائيل" والحركة الصهيونية عموماً، لم تحققا أي إنجاز سياسي، وحتى عسكري بقواهما الذاتية، وإنما بقوة عاملين إضافيين أولهما الدعم الاستعماري المطلق، وثانيهما خيانة عربية من نظام أم حاكم خائن. 

في المراجعة ذاتها لا بد أن نلاحظ، أنه كلما راهنوا على يأس الفلسطيني بعد حصار دولي وعربي، خرج الشعب الفلسطيني بقواه الذاتية ليجدد العهد وليعلن عزمه على نيل حقوقه، بإيمان وثقة، واستعدادٍ للتضحية مهما بلغت التضحيات. هذان الاستنتاجان يجب أن يبقيا مصباحين يُضيئان الطريق عندما تدلهم الأجواء وتبدو الرؤية مشوشة.

هذا التدمير للحياة الدينية الإسلامية والمسيحية للقدس لم يبدأ اليوم، وإنما شهد تصعيداً كبيراً في السنوات الأخيرة، من خلال الاقتحامات الأسبوعية للحرم القدسي الشريف. بدأت هذه الاقتحامات بشخص أو اثنين بحجة الحق في السياحة للجميع، مع إخفاء طاقية المتدين (الكيباه). ثم تحول الى مجموعة من السياح اليهود، ثم مجموعات متدينة علناً، من دون السماح لهم بالصلاة، حتى أصبح الاقتحام أسبوعياً وأحيانا أكثر مع صلوات يهودية، ومظاهر تقاسم زمني للمكان بين المقتحمين اليهود، مدعومين بقوات كبيرة من الشرطة وحرس الحدود والقوات الخاصة والاستخبارات الإسرائيلية، وبين المصلين المسلمين، حتى أصبحت هذه الاقتحامات إجراءً عادياً يعتاد عليه المسلمون، ويكتفي المسؤولون بالاستنكار وتسجيل عدد المقتحمين وعدد الاقتحامات، من دون أن تتحرك السلطات الأردنية أو الفلسطينية، ومن دون رد عربي أو إسلامي، جدي وحازم، لمنع ذلك. بل على العكس، ازداد التقارب بين بعض الأنظمة الخليجية (العربية الإسلامية) و"إسرائيل" كما ازداد التقارب بين ملك المغرب، رئيس لجنة القدس الإسلامية، والمحتل الإسرائيلي. 

أما عن المسيحيين الفلسطينيين، باستثناء المسيحيين المقدسيين، فهم ممنوعون من الصلاة طيلة أيام السنة في كنيسة القيامة إلا بتصريح من سلطات الاحتلال الإسرائيلي. وفي سبت النور، وهو أعظم الأيام الدينية في المسيحية، ممنوع على المسيحيين الفلسطينيين عامة الوصول الى الكنيسة إلا ببطاقة يحصلون عليها مسبقاً بعد التنسيق بين سلطة الكنيسة اليونانية وسلطات الاحتلال الإسرائيلي، بحجة إتاحة المجال للحجاج الأجانب بالمشاركة في طقس تدفق النور من القبر المقدس. 

أما في سنة 2022، وبسبب جائحة كورونا، ظن المسيحيون الفلسطينيون أن بإمكانهم المشاركة في طقوس سبت النور لعدم وجود سياحة أجنبية، إلا أنهم مُنعوا من ذلك باستخدام القوة المفرطة من قبل شرطة الاحتلال الإسرائيلي والقوات الخاصة التابعة لها، وبالتنسيق المسبق بين السلطتين المذكورتين أيضاً.

المخاطر المحدقة بالمسجد الأقصى 

على عكس ما يشاع، فإن اتفاق وادي عربة، مثله مثل اتفاق أوسلو، لم يحمِ المسجد الأقصى خاصة، ولا القدس عامة من اعتداءات المستوطنين. لم يشترط اتفاق وادي عربة، المُوَقّع عام 1994 بين "إسرائيل" والأردن، وقف الاستيطان في القدس أو وقف الحفريات تحت المسجد الأقصى، إنما ذكر بنص الاتفاق، وطبقاً لتصريح واشنطن الذي سبق توقيع الاتفاق وأصبح جزءاً لا يتجزأ منه: "أن إسرائيل تحترم الدور الحالي الخاص للملكة الأردنية في الأماكن المقدسة الإسلامية في القدس". لماذا لم يكتب أنها تحترم "الحق التاريخي"، أو "الدور التاريخي" بدلاً من "الدور الحالي"، علما أن الحالي منقوص منه. ولماذا لم يكتب أن "إسرائيل" "تحترم الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة الإسلامية في القدس؟" أو لم يكتب أن "إسرائيل" ملتزمة باحترام الستاتيكو المعمول به منذ حزيران / يونيو 67؟  انما تُرك الأمر بيد سلطات الاحتلال الإسرائيلي. وأضاف النص ليقول: "عند الحل النهائي، فإن إسرائيل ستعطي، (أو للدقة) ستمنح (תעניק) وفق النص العبري، أفضلية للدور الأردني التاريخي في الأماكن المقدسة الإسلامية". والمقصود بذلك، أفضلية على الدور الفلسطيني أو أي طرف إسلامي آخر. هذا النص يبطل "الحق" الأردني ويبقي "الحق" لـ"إسرائيل" لأنها هي من "تمنح" الأفضلية للأردن. وعلى عكس ما يُروّج في الاعلام العربي الرسمي وغير الرسمي، ففقد شُطب من الاتفاق، أو لم تذكر فيه، أية علاقة للأردن بالأوقاف المسيحية.[9] 

منذ سنوات، تحاول سلطات الاحتلال، باستمرار، نزع الإدارة الحصرية للمسلمين داخل باحات الأقصى بتغيير الستاتيكو، بالاتفاق او بالفعل على الأرض. وقد ونجحت بإجراء تغيير حقيقي، بَدا شكلياً، عام 2015، لكن النتائج الفعلية أوضحت أنه تغيير خطير، وذلك بمساعدة وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وسمح الأردن بموجبه "لجماعات يهودية أن تقوم بزيارات سياحية للمسجد الأقصى". لكن الاتفاق لم يحدد من يرافق هؤلاء، حينها، أخذت "إسرائيل" لنفسها حق "مرافقتهم" الأمنية أي حمايتهم، وبالتدريج أصبحت هذه الزيارات "السياحية" اقتحامات أسبوعية ويومية ضمن برنامج الخطوة خطوة الذي أعدته المؤسسات الاستيطانية، وأعلنت، على مواقعها الالكترونية، أن نهايته ستكون هدم قبة الصخرة وبناء الهيكل المزعوم مكانها، مع التقسيم الزماني المكاني للأقصى[10]. 

وهنا لا بد من التنويه والتحذير أن تعريف المسجد الأقصى، يختلف اختلافاً جذرياً بين التعريف الإسلامي والتعريف اليهودي الإسرائيلي. ففي حين أن المسجد الأقصى وفق التعريف الإسلامي يشمل كل مساحة الحرم القدسي بما في ذلك حائط البراق، وهذا ما أكدته لجنة شو الانتدابية ولجان التحكيم الأخرى وأقرته عصبة الأمم عام 1931، يرى الإسرائيليون أن الجامع الأقصى هو الجامع القبلي فقط، وأن باقي مركبات الحرم القدسي هو "جبل الهيكل"، لذلك نلاحظ أنهم يؤكدون التزامهم بعدم المساس بالمسجد الأقصى، وفق تعريفهم، ويصرون بأن لهم الحق في "جبل الهيكل".

الهجمات الصهيونية الأخيرة

إضافة الى الهجمة الصهيونية على الأماكن المقدسة للمسلمين، في ظل صمت عربي واسلامي، يراقبه الإسرائيليون عن كثب. أعلنت سلطات الاحتلال عن حملة لتسوية ملكية الأراضي في القدس العربية، بعد أن كانت عام 2010 قد أعلنت عن سريان مفعول قانون "أملاك الغائبين" على القدس الشرقية التي احتلت عام 1967.

بموجب هذا القانون والحملة المرافقة لتطبيقه، يتم إخراج المقدسيين من أراضيهم ومنازلهم ما لم تكن لديهم ملكية مسجلة للعقار، ثم عرض هذه العقارات على اليهود لشرائها وتسجيلها ملكاً لهم في الطابو (دائرة العقارات) الإسرائيلي. 

مع بداية السنة الدراسية 2022/2023، أعلنت سلطات الاحتلال عن تغيير المناهج الدراسية في المدارس العربية في القدس، من مناهج أردنية وفلسطينية الى مناهج إسرائيلية، تعزز من خلالها الرواية التوراتية المزيفة لتاريخ القدس وانتمائها العربي، الإسلامي والمسيحي.

يشكل المنهاج الجديد محاولة لهندسة الوعي والهوية الفلسطينيين لصالح الرواية الصهيونية، وهو في نظر المفكرين الصهاينة آخر حلقات المخطط الصهيوني. في مشروع ما يسمى "مشروع انتصار إسرائيل".

ويشمل "مشروع انتصار إسرائيل" هذا، الذي يقوم عليه ويديره معهد "منتدى الشرق الأوسط" في واشنطن، ومعهد "كوهيلت" في "إسرائيل" تطبيع وتعاون بين العالم العربي والإسلامي و"إسرائيل". حينها يشعر الفلسطيني أنه لم يعد قادراً على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وأنه غير قادر على تغيير الواقع الذي فرض عليه ويعيش فيه، فيرضى بما يقدم له من تسهيلات اقتصادية وإدارة ذاتية مصغرة لا تعرقل مشروع الاستيطان المستمر.

الهوامش 
[1]  تقرير يوفال اليتسور، في صحيفة معاريف ( الملحق الاقتصادي) باللغة العبرية يوم 27 ابريل 1990 تحت عنوان : "ارض مسيحية في القدس العبرية".
[2] تقرير برترام- يانغ 1925 ص. 78-79
[3] اليف صباغ، دراسة مطولة وموثقة بعنوان: "القضية الارثوذكسية قضية وطنية"، وأخرى، "الدافع والابعاد للتدخل السياسي في شؤون المقدسات والاوقاف الارثوذكسية في القدس" مجلة الاسوار- عكا العدد 31 لعام 2013 ص 143-181. وللتذكير قدم المجلس المركزي الأرثوذكسي في فلسطين والأردن قائمة طويلة من الوثائق، بما في ذلك نسح من الصفقات، القديمة والحديثة الى المدعي العام الفلسطيني عام 2017 بهدف استدعاء البطرك ثيوفيلوس واستجوابه، لكن أحدا لم يحرك هذا الملف حتى يومنا هذا.
[4] خطاب الرئيس أبو مازن الاحير في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية أيلول 2022
[5] جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني 6/2012 ص. 264
[6] راجع الكراس الذي يحوي تفاصي كثيرة لا داعي لتفصيلها هنا.
[7] تقرير منظمة بيتسيلم
[8] المصدر ذاته أعلاه.
[9] راجع نص الاتفاق بند 9/2 " الذي جاء به ما يلي:"النص العبري:

1. בהקשר זה, בהתאם להצהרת וושינגטון, ישראל מכבדת את תפקידה המיוחד הקיים של הממלכה ההאשמית של ירדן במקומות קדושים מוסלמיים בירושלים. בשעה שייערך
המשא-ומתן על מעמד הקבע, תעניק ישראל עדיפות גבוהה לתפקיד הירדני ההיסטורי
במקומות קדושים אלה.

2. وبهذا الخصوص وبما يتماشى مع إعلان واشنطن، تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي ستعطي إسرائيل أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن.( ترجمة وكالة وفا)

ـوفي هذا الخصوص، وبما يتماشى مع إعلان واشنطن، تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس. وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي ستولي إسرائيل أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن ( النص المعتمد في خزانة مؤسسة الدراسات الفلسطينية)إ علان واشنطن 1994 (بموجب وثائق مؤسسة الدراسات الفلسطينية) 3- تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن المقدسة الإسلامية في القدس، وحينما تأخذ المفاوضات المتعلقة بالوضع النهائي لمدينة القدس مجراها، فإن إسرائيل ستعطي أولوية عالية لدور الأردن التاريخي في هذه المقدسات.

"ישראל מכבדת את מעמדה המיוחד ותפקידה היסטורי של ממשלת ירדן במקומות המקודשים לאיסלאם. (לסעיף זה יש השפעה עתידית בהסדר הקבע עם הפלשתינים ונועד בעצם לתת לירדנים חלק מהזכויות בגדה על המקומות הקדושים לאיסלאם. על רקע סעיף זה יש מחלוקת קשה בין ממלכת ירדן לפלשתינים"). ليس نصا اصليا

النص المعتمد في الامم المتحدة هو النص الإنجليزي:

 In this regard, in accordance with the Washington Declaration, Israel respects the present special role of the Hashemite Kingdom of Jordan in Muslim Holy shrines in Jerusalem. When negotiations on the permanent status will take place, Israel will give high priority to the Jordanian historic role in these shrines.  

[10] لمزيد من التفاصيل عن المخططات الصهيونية، راجع الورقة البحثية التي قدمها أ. احمد محمد أبو كميل مع أ.ابراهيم محمود الحواجري الى مركز الدراسات السياسية والتنموية يوم 9 حزيران / يونيو  2022 .

إقرأ الجزء الأول من الدراسة.