أصابع "لاكريموسا"
خرّ سعيد على ركبتيه بأكتاف متدلية كأنه دمية. لحيته تتحرك مع هبوب الريح. عيناه مجوفتان باللون الأحمر الداكن. وهو ينظر إلى أصابع الطفل المبتورة وهي تعزف مقطوعة "لاكريموسا".
كان سعيد يجري اختباراً للموسيقى لمدة 3 ساعات في اليوم، في غرفة صامتة. لم يتحدث عن درجات إدوارد. الطالب النموذجي الذي طالما صفق له بعد كل اختبار في الربيع والخريف. كان قلقاً للغاية. يتذكر أول مرة التقى بهذا الطفل:
- هل أعجبتك المفاتيح؟
- كثيراً، ابتسم إدوارد وترك أصابعه تتراقص على الخشب ومفاتيح الفرح والحزن. كان الصوت يتدفق كما لو كانت ألوان قوس قزح.
- إجلس، الآن سأبدأ بتعليمك. هذه 7 بيضاء وهذه 5 سوداء. المجموعة اسمها أوكتاف.
- أوووكتاف. أي 12 مفتاحاً. سهلة، جمعتها يا أستاذ.
ضحك سعيد. كانت أول ضحكة له منذ وفاة زوجته. وراح يشرح للطفل عن هذه المجموعة. ويعلمه يومياً كيف يأخذ نفساً عميقاً ويركز على الإيقاع.
بعد سنتين من التدريب في المعهد، انطلق إدوارد ذو الشعر البني (9 سنوات) بثقة في عزف النوتات الموسيقية على غراند بيانو. يحفظ الألحان عن ظهر قلب. أمه كانت تحضر أغلب صفوفه، وتصفق له حين يكمل عزفه.
- من يستطيع أن يعزف موزارت من دون تعثر؟ كان مصمماً على أن يحقق حلم الطفل في أن يكون من أشهر العازفين في العالم.
مرت 5 أسابيع. تضاءلت رؤيته شيئاً فشيئاً، حتى بدأ سعيد بالبحث عن إدوارد في المخيمات والمستشفيات بعد الغارات على حي تل الهوا في غزة. سأل عن عائلته كثيراً فأخبروه:
- نزحوا إلى جنوب القطاع مع عدد كبير من العائلات. منذ ذلك الحين لم نسمع عنهم أي شيء، ربما نجوا وربما ...
بعد أيام، وفي الساعة 9 صباحاً، هناك قرب خيمة بيضاء. لمح إدوارد وهو يحرك ذراعيه بلطف. يبدأ من المجموعة في اليسار، ويضمهما إلى اليمين. ببطء ببطء، ثم تتسابق اليمنى، تذهب وتجيء، تلتقيان وتبتعدان. كل شيء يخرج من أعماق الروح. يغمص عينيه ورأسه يهتز مع كل حركة.
كان منسجماً ومنفصلاً عما حوله. لم يأبه لأصوات القنابل. يواصل حركته المنسابة في الهواء. الأقدام ترقص. أوقف الساعة، وتستمر الموسيقى إلى الأبد.
خرّ سعيد على ركبتيه بأكتاف متدلية كأنه دمية. لحيته تتحرك مع هبوب الريح. عيناه مجوفتان باللون الأحمر الداكن. وهو ينظر إلى أصابع الطفل المبتورة وهي تعزف مقطوعة "لاكريموسا".