أساطير علاجيّة.. هل تسعى حركة "الأفرو سنترك" لسرقة التاريخ المصري؟

حركة أثارت جدلاً واسعاً في مصر، بعد وجود مجموعة منها في المتحف المصري والأهرامات. لماذا تحاول حركة "الأفرو سنترك" السطو على التاريخ المصري؟

في 19 حزيران/يونيو الماضي، أثارت مجموعة من الصور المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لزيارة مجموعة من حركة "الأفرو سنترك" المتحف المصري بالتحرير في وسط القاهرة، جدلاً واسعاً، خاصة بين المهتمين بالآثار والحضارة المصرية القديمة؛ متسائلين عن كيفية السماح بوجود هذه المجموعة داخل المتحف المصري.

وتُظهر الصور شخصاً يدعى "كابا" يعمل مرشداً سياحياً وينتمي إلى "الأفرو سنترك"، وهو يقوم بشرح المحتويات الأثرية داخل المتحف لمجموعة من السائحين. 

لم تكن تلك الواقعة هي الأولى من نوعها في مصر. ففي شباط/فبراير عام 2022 حاول داعمو حركة "الأفرو سنترك" إقامة مؤتمر في محافظة أسوان، إحدى محافظات صعيد مصر، تحت عنوان "العودة إلى الأصول". واجه المؤتمر دعوات رافضة عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتم إلغاؤه قبل ساعات من انطلاقه، بحسب وسائل إعلام مصرية، وبعد مرور عام، وفي حدث مشابه أعلنت الشركة المنظّمة لحفل "ستاند أب كوميدي" للممثل الأميركي، كيفن هارت، الذي كان مقرّراً أن  يقام في استاد القاهرة الدولي إلغاء الحفل؛ مرجعة ذلك لأسباب لوجستية محلية.

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by TheSoulFam (@thesoulfam)

كان الإعلان عن الحفل في القاهرة قد أثار انتقادات ودعوات للمقاطعة بسبب تصريحات سابقة للممثل الأميركي تدعم نظرية المركزية الأفريقية.. فما هي المركزية الأفريقية أو "الأفرو سنتريزم"؟

"الأفرو سنترك": أساطير علاجية لماضٍ خيالي؟

  • كابا مع مجموعة من
    كابا مع مجموعة من "الأفرو سنترك" في المتحف المصري

تعرّف الموسوعة البريطانية، المركزية الأفريقية أو ما يعرف بــ "الأفرو سنتريزم"، بأنها حركة ثقافية وسياسية تأسست في ثمانينيات القرن الماضي على يد الباحث والناشط الأميركي - الأفريقي، موليفي أسانتي، وهي تتكوّن من أشخاص جميعهم أميركيون من أصل أفريقي.

وتعتقد هذه الحركة أنّ التاريخ والثقافة الأفريقية بدآ في مصر القديمة التي كانت مهد الحضارة العالمية. حيث ترأست مصر أفريقيا السوداء الموحّدة إلى أن سُرقت أفكارها وتقنياتها وطمس الأوروبيون سجلها الحافل بالإنجازات، بحسب ما جاء في الموسوعة البريطانية.

ويزعم مؤيّدو وأتباع الحركة أن ملوك مصر القديمة كانوا من الأفارقة السود، وأن أصل الحضارة المصرية أفريقي فقط، كما يزعمون بأن سكان مصر المعاصرين ليسوا من أحفاد المصريين القدماء بل هم جماعات من الغزاة أتوا إلى مصر.

أسانتي، مؤسس المركزية الأفريقية، يعرّف حركته بأنها حركة تعليمية واجتماعية في الأساس تهدف إلى تعريف الأميركيين من أصول أفريقية بتاريخهم في بلدانهم الأصلية.

وترى الحركة أن الأوروبيين سيطروا على الأفارقة وغيرهم من غير البيض لقرون من الزمن، من خلال العبودية والاستعمار، وأن الثقافة الأوروبية في أحسن الأحوال غير ذات صلة - وفي أسوأ الأحوال تتعارض تماماً - مع الجهود التي يبذلها غير الأوروبيين لتحقيق تقرير المصير.

لهذا السبب، ووفقاً للمركزية الأفريقية، فإن المنحدرين من أصل أفريقي يحتاجون إلى تطوير تقدير إنجازات الحضارات الأفريقية التقليدية؛ وفي حاجة إلى توضيح تاريخهم ونظام قيمهم الخاص.

وتشير دراسة بعنوان "أفريقيا في العالم: التاريخ والتأريخ"، المنشورة ضمن موسوعة أكسفورد البحثية للتاريخ الأفريقي، أنه منذ النصف الأول من القرن الـ 20 بدأ العلماء الأفارقة في التعبير عن انتقاداتهم ضدّ الغياب السائد لأفريقيا في كتابات مؤرّخي العالم، وتعود أصول هذا النقد إلى كتابات المؤرّخ السنغالي الشيخ أنتا ديوب، والذي كان أكثر إقناعاً بين المثقّفين المنحدرين من أصل أفريقي في الشتات.

وتكمن واحدة من حجج ديوب المركزية، كما جاء في الدراسة، أن للحضارات الأفريقية، وخاصة مصر القديمة، تأثيرات كبيرة على الثقافة الأوروبية، حيث ساعدت في تشكيلها بشكل كبير. 

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by TheSoulFam (@thesoulfam)

من جانبه، يقول حمدي عبد الرحمن حسن، أستاذ العلوم السياسية المصري في مقال بمجلة "قراءات أفريقية"، إن شيخ أنتا ديوب كان أحد الشخصيات الرئيسية التي أرست الأساس لمفاهيم المركزية الأفريقية، وأن عمل ديوب الرائد في منتصف القرن العشرين تحدّى الروايات السائدة ذات المركزية الأوروبية وقدّم منظوراً جديداً للتاريخ والثقافة الأفريقيّين، ويضيف، أن كتابه الأساسي، "الأصل الأفريقي للحضارة"، الذي نُشر عام 1955، قدّم دليلاً على مساهمات أفريقيا الهامة في تطور الحضارة، وجادل ديوب بأن مصر القديمة، على وجه الخصوص، كانت حضارة أفريقية وليست مجرد مشتق من الثقافات الأوروبية أو الآسيوية. كما قدّمت أبحاثه وكتاباته أساساً علمياً للفكر الأفريقي، مما ألهم أجيالاً لاحقة من العلماء والناشطين، بحسب حسن.

وتتلخّص رؤية ‏‎المركزية الأفريقية للحضارة الفرعونية بانحدار ملوك كيميت (مصر القديمة) والشعب المصري حينها من أصول أفريقية وتحديداً "مملكة كوش السوداء" التي حكمت مصر عام 500 قبل الميلاد. وتزعم تلك الرؤية بأنّ ملوك وملكات الفراعنة ذوو ملامح أفريقية وبشرة سوداء، مثل الملكة تي زوجة أمنحوتب الثالث في الأسرة الـ 18، ثم إخناتون ونفرتيتي وتوت عنخ آمون والملك سنوسرت وغيرهم.

ويرى أصحاب هذه النظرية أن المصريين الحاليين لا علاقة لهم بالمصريين القدماء، لأن المصري القديم هاجر إلى الجنوب تدريجياً بعد دخول العرب إلى مصر ومن قبلهم الرومان. 

ويعتقد أصحاب نظرية المركزية الأفريقية أن من ينتمي لمصر حالياً هم خليط من جنسيات كثيرة لا تمت بصلة للعرق المصري القديم، بل ويصفون السكان الحاليين بأنهم "عرب غزو مصر واستوطنوها"، وأن منطقة النوبة وسكانها هم الباقون من السكان السود الأصليين لمصر، وذلك وفقاً لما نُشر في ورقة بحثية صادرة عن "المنتدى الاستراتيجي للسياسات العامة ودراسات التنمية" (دراية) في مصر.

من جهتها، تنقل سهر أحمد السيد في دراستها المنشورة في "المجلة المصرية لبحوث الرأي العام"، عن ورقة بحثية عن الأصول التاريخية للمركزية الأفريقية، أن علماء المصريات المتخصصين دحضوا إدعاءات حركة المركزية الأفريقية بقوة، ولفترات طويلة، مؤكدين أن سكان مصر وشمال أفريقيا لم يكونوا قط من ذوي البشرة السوداء، وأن لا وجود لدليل علمي موثّق يؤيّد أن الحضارة المصرية بناها الأفارقة السود، مضيفة أن السكان المصريين الأصليين لم يتمّ استبدالهم بالعرب، وأن وجود العرب تمّ من خلال هجرة مجموعات محدودة وعلى فترات متباعدة لا تؤثّر على التكوين السكاني للبلاد.

عقب واقعة ظهور حركة "الأفرو سنترك" في المتحف المصري، قال الوزير الأسبق وعالم الآثار المصري، زاهي حواس، إن الآراء التي أعلنت عنها الحركة ليست لها أي أساس من الصحة، وذلك لأن مملكة كوش السوداء حكمت مصر عام 500 قبل الميلاد، أي نهاية الحضارة الفرعونية، وعندما حكمت هذه المملكة مصر لم تترك أي آثار على الحضارة المصرية.

وأوضح حواس، في بيان له، في حزيران/يونيو الماضي، أن "المناظر المصوّرة على المعابد المصرية من الدولة القديمة حتى نهاية العصر المتأخّر، تظهر ملك مصر وأمامه، الأسرى من أفريقيا وليبيا وسوريا وفلسطين"، وأشار حواس إلى أنّ ملامح الملك المصري تختلف تماماً وليس لها أي سمات تظهر أنه كان أسود الشكل.

من جانبه، يصف خبير الآثار المصري، وعضو المجلس الأعلى للثقافة، عبد الرحيم ريحان، أن ادعاءات حركة المركزية الأفريقية "الأفرو سنترك" عن الحضارة المصرية القديمة بأنها "نوع من أنواع الغزو الفكري الذي يستهدف ضرب الهُوية المصرية بالتمسّح في حضارتها". 

وأوضح ريحان في حديث مع "الميادين الثقافية" أن "الهوية والشخصية المصرية مستمدة من تسلسل تاريخها عبر العصور، منذ عصور ما قبل التاريخ مروراً بعصر مصر القديمة حتى العصر الحديث المعاصر"، وأن "كل تلك العصور تركت مفردات حضارية وتأثيرات في اللغة والعادات والتقاليد لا تزال موجودة حتى الآن، مثل اللغة المصرية القديمة التي لها تأثيراتها في العامية المصرية، وكذلك بعض الأعياد والاحتفالات وارتباطها برموز عايشها المصري القديم".

وعن الأسرة الــ 25 يوضح ريحان أنها "آخر أسرة حاكمة في الفترة المصرية الانتقالية الثالثة التي وقعت بعد الغزو النوبي، والتي كانت معروفة أيضاً باسم الأسرة النوبية أو الإمبراطورية الكوشية، وأن ملوك هذه الأسرة نشأوا في مملكة كوش، التي تقع حالياً في شمال السودان وأقصى جنوب مصر، حيث حكموا مصر جزئياً في أحيان، وكلياً وفي أحيان أخرى بين عامي 744-665 قبل الميلاد". 

ويضيف ريحان، "أنّ عهد الأسرة الــ 25 بدأ مع غزو كاشتا لمصر العليا، وتبعت ذلك سنوات من الحروب الناجحة أحياناً والفاشلة أحياناً أخرى مع الإمبراطورية الآشورية الحديثة، وقد اندمجوا في المجتمع من خلال إعادة تأكيد التقاليد الدينية المصرية القديمة والمعابد وأشكالها الفنية، مع تقديم بعض الجوانب الخاصة بالثقافة الكوشية"، مشيراً إلى أن "مملكة كوش تأثرت بشكل كبير بالحضارة المصرية القديمة، حيث استخدموا أساليب الفن والكتابة المصرية وتبنّوا الكثير من العادات المصرية ومنحوا أبناءهم أسماء مصرية، وبالتالي فإن هذه الأسرة لا تعبّر عن فكر أو حضارة خاصة".

أما محمد فتحي، المرشد السياحي في مدينة الأقصر، فيوضح في حديثه لـ "الميادين الثقافية" أن "أرض النيل قديماً كانت شاسعة وتحتوي على أقاليم كثيرة، تقع جميعها تحت السيادة المصرية، التي تتبع ديناً واحداً وأيضاً حاكماً واحداً، وكانت أرض كوش واحدة من أقاليم النوبة والسودان وأجزاء من الحبشة حالياً".

ويضيف فتحي، أن مملكة كوش تم تأسيسها سنة 500 قبل الميلاد أي بعد الحضارة المصرية بـ 2500 سنة، وأنها لم تكن مملكة منفصلة من الأساس بل كانت أقليماً مصرياً وشعبها مصري مثل أي محافظة مصرية الآن.

 في كتابه "تدمير الحضارة السوداء"، يُرجع عالم الاجتماع والمؤرخ الأميركي من أصول أفريقية، تشانسيلور ويليامز، يرجع اهتمام الأميركيين السود بنسب أنفسهم للحضارة المصرية لعدة أسباب، أبرزها أن: معظم الحضارات الموجودة تصيب الأميركيين السود بالإحباط؛ لأنها غير متشابهة وغير مترابطة. فقط الحضارة المصرية هي ما تتسم بالترابط والوحدة وسِيَر الملوك والملكات العظام، ومن ثم فهي توفّر لهم مرجعاً أساسياً وأصلياً يثبتون به وحدتهم وتميّزهم وتفوّقهم الثقافي. في حين تصف دراسة أميركية، أنه خلال القرن الـــ 19، كان هناك انبهار شديد بالحضارة المصرية في الولايات المتحدة حتى وُضع مصطلح لوصف هذه الحالة سمّي بـ egyptomania، وقد استغلت حركة المركزية الأفريقية هذا الاهتمام وربطت نفسها بمصر وحضارتها.

ثم مع ظهور كتاب "أثينا السوداء"، للباحث البريطاني في التاريخ السياسي الصيني الحديث، مارتن برنال، واجهت حركة المركزية الأفريقية معارضة كبيرة من علماء التيار السائد الذي يتهمونه بعدم الدقة التاريخية وعدم الكفاءة العلمية والعنصرية. كما جادل النقاد بأن بحث المركزية الأفريقية عن القيم الأفريقية الحصرية يقترب أحياناً بشكل خطير من إعادة إنتاج القوالب النمطية العنصرية، في حين يؤكد أتباع الحركة أن المركزية الأفريقية لا تزال وجهة نظر عالمية وحافزاً للنشاط الثقافي والسياسي من قبل الأميركيين الأفارقة.

أما المؤرخ وأستاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا، كلارنس إي ووكر، فيقول في كتابه "لا يمكننا العودة إلى المنزل مرة أخرى"، إن العلماء الذين يطلقون على أنفسهم أنصار المركزية الأفريقية لم يكتبوا التاريخ بالمعنى الدقيق للكلمة، مضيفاً أن ما أنتجوه هو "أساطير علاجية تهدف إلى استعادة احترام الذات للأميركيين السود من خلال خلق ماضٍ لم يكن أبداً".

مبادرات للحفاظ على التراث المصري 

  • كابا
    كابا

في 9 حزيران/يونيو الماضي، أعلن عالم الآثار المصري، زاهي حواس، تدشين "مؤسسة زاهي حواس للآثار والتراث" في أحد فنادق القاهرة بحضور عدد كبير من رواد الآثار والسياحة في مصر.

وأوضح علي أبو دشيش، المستشار الإعلامي لحواس ومدير المؤسسة، أن الأخيرة "تهدف إلى أن تكون مركز إشعاع بحثياً تعليمياً وتدريبياً على المستوى المحلي والعربي والعالمي، وتهدف أيضاً إلى نشر التراث الثقافي بين الأطفال والشباب، بالإضافة إلى خدمة البحث العلمي والعمل على إثراء العمل الأثري".

وأضاف أبو دشيش في تصريح لـ "الميادين الثقافية" أن المؤسسة ستنظّم فعّاليات بشكل دوري بهدف نشر الوعي الأثري من خلال الزيارات الميدانية، وأن مجال عمل المؤسسة يتضمّن مشاريع الحفائر العلمية المشتركة مع وزارة السياحة والآثار المصرية، والنشر العلمي، وكذلك مشاريع ترميم وصيانة الآثار.

وستبدأ "مؤسسة زاهي حواس للآثار والتراث" عملها في شهر أيلول/سبتمبر المقبل، بإطلاق حملة شعبية ضخمة للمطالبة بإعادة الآثار المصرية بالخارج.

وأكد أبو دشيش أن المؤسسة ستطالب بإعادة رأس نفرتيتي إلى مصر ومن ثم عرضه في المتحف المصري الكبير.