آرثر دانتو: هل انتهى الفن؟

واحد من أكثر منتقدي الفن قراءة في عصر ما بعد الحداثة. كيف يعرّف آرثر دانتو الفن؟ وهل يرى أنه انتهى؟

يُعرف الناقد الفني والفيلسوف الأميركي آرثر دانتو (1924 - 2013) عمله في فلسفة التاريخ وعلم الجماليات الفلسفي، ومساهماته في كثير من المجالات. ووصفه الصحافي الأميركي الراحل كين جونسون بأنه "واحد من أكثر منتقدي الفن قراءةً على نطاق واسع في عصر ما بعد الحداثة".

يُعرف دانتو أيضاً بصورة أكبر بسبب وضعه الحجر الأساسي لتعريف الفن، أول مرة في مقالته "عالم الفن" عام 1964، والتي كان لها تأثير كبير في الفلسفة الجمالية. طبقاً لموسوعة ستانفورد للفلسفة، صُقل تعريف دانتو كما يأتي: يُعَدّ العمل عملاً فنياً فقط عندما يكون لديه موضوع، ويبرز موقفاً أو وجهة نظر تجاه هذا الموضوع (لديه نمط)، وبطريقة الحذف البلاغي (المجازية غالباً)، إذ يجذب حذف مشاركة الجمهور بملء ما هو مفقود، وعندما يكون العمل مشكوكاً فيه ويتطلب بذلك سياقاً فنياً تاريخياً. حاول دانتو بعد عام 2005 تبسيط تعريفه وفقاً لمبدأَين: يجب أن يكون للفن محتوى أو معنى، ويجب أن يجسد الفن ذلك المعنى بطريقة مناسبة.

هذه الفكرة، أي فكرة دانتو عن "عالم الفن"، وسّعها الفيلسوف الأميركي جورج ديكي لاحقاً، وأصبحت معروفة باسم النظرية المؤسسية للفن. 

 تحوير المبتذل

تنتمي فلسفة دانتو إلى المدرسة التحليلية وممارساتها التطبيقية على الفن، ويُعَدّ من الأسماء البارزة في هذه المدرسة وأحد المجددين فيها، وفقاً للشاعر والناقد المغربي، عز الدين بوركة.

أصدر آرثر دانتو كتابه "تحوير المبتذل، فلسفة للفن" [la transfiguration du banal, une philosophie de l’art] عام 1981، وتُرجِم إلى الفرنسية عام 1986. سعى دانتو في كتابه للبرهنة على التغيّر والتبدّل الجذريين اللذين حدثا في "عالم الفن" للأغراض "المألوفة والمبتذلة" إلى نوع من "التجلي" و"الارتقاء" (إذ تدل transfiguration على تجلي السيد المسيح وارتقائه، وتغيره من حالة المادة إلى الهيولى، وارتقائه من الدنيوي إلى السماوي. ونقل دانتو هذا المفهوم من الحقل المعجمي اللاهوتي إلى الحقل المعجمي الفني، الأمر الذي أحدث صدمة لدى المتلقي، من حيث إن الشيء المبتذل ارتقى إلى أعلى الدرجات، محدثاً تغيراً جذرياً في ماديته وفي تاريخ الفن)، كما يقول عز الدين بوركة، الذي يضيف أنّ المقاربة التي جاء بها الكتاب تتألف من شقين: هناك "مرحلة سلبية" تبيّن أن الخصوصية الأنطولوجية للعمل الفني ليست خاصية مادية أو إدراكية (حسية)، وأنّ العمل الفني لا يُمنح لنا بالطريقة نفسها التي تعطى بها أغراض العالم، بينما تحاول "الخطوة الثانية الإيجابية" تحديد المعايير، التي لم تعد إدراكية، لكنها قاطعة، والتي من خلالها تُعدّ الأعمال الفنية أو تصبحُ أعمالاً فنية. فالغرض من هذا المؤلف هو تحديد كنه الفن وتبيين خاصية العمل الفني بالنسبة إلى الكيانات اللافنية، أي الأغراض المصطلح عليها بالمبتذلة (مبولة، زبدة، حاملة قناني، مشط، وأغراض استهلاكية أو مُنتوجات).

ما يمكن استخلاصه من كتاب دانتو الآخر، الصادرة ترجمة له إلى العربية عن "هيئة البحرين للثقافة والآثار" عام 2021: "بعد نهاية الفن، الفن المعاصر وحدود التاريخ"، أنّ أعماله أو مشروعه الفلسفي كان سعياً للإجابة عن سؤال الفيلسوف الأميركي نيلسون غودمان: "متى يكون هناك فن؟"، ويذهب بالسؤال إلى سؤال موازٍ: "متى يكون هناك عمل فني؟"، أي الكيفية التي يتحول فيها الغرض المبتذل إلى عمل فني.

ويسعى دانتو، بصورة أساسية في مؤلفه "تحوير المبتذل، فلسفة للفن"، إلى تأكيد منهجه الملخص في "تحويل الخيال إلى واقع"، كما يورد بوركة، إذْ كل ما كان له صفة خيالية هو الآن له صفة واقعية. لهذا، يأتي عنوان الفن "تحوير المبتذل" على أنه عنوان لفلسفة في الفن، فلسفة الفن جديد، لكن أي فن بالتحديد؟ وما معاييره إن وُجدت؟

للإجابة عن هذه التساؤلات يدعونا دانتو إلى النظر أولاً إلى أعمال مارسيل دوشامب، الفنان ولاعب الشطرنجٍ الفرنسي - الأميركي، والذي ارتبطت أعماله بالحركة الدادائية والسريالية. فهو، بلا شك، أول من قام بمعجزة حاذقة وخارقة متعلقة بتحويل أغراض (أشياء) تنتمي إلى ما يسميه "العالم الـمعيش" الذي نوجد فيه بشكل يومي، إلى عمل فني.

هل انتهى الفن؟

في عام 2021 صدر لدانتو كتاب "بعد نهاية الفن، الفن المعاصر وحدود التاريخ" عن "هيئة البحرين للثقافة والآثار". ولا بد من القول إنّ دانتو يقصد بنهاية الفن نهاية السرديات الكبرى للفن. أو بكلماته نفسه في شرحه لعنوان كتابه: "هي أطروحة غريبة دافعتُ عنها لسنوات عديدة في ما يخص نهاية الفن، وهي طريقة درامية إلى حدٍّ ما للتصريح بأنّ السرديات الكبرى التي حددت أولاً الفن التقليدي، وبعد ذلك الفن الحداثي، لم تبلغ النهاية فحسب، بل لم يعد الفن المعاصر يسمح لنفسه البتة بأن تمثّله السرديات الكبرى. لقد أقصت تلك السرديات بالضرورة تقاليد وممارسات فنية محددة بوصفها (خارج حدود التاريخ)"، وهذه جملة لهيغل يلجأ دانتو إليها عدة مرات.

إنها من بين الأشياء الكثيرة التي تميّز لحظة الفن المعاصرة، أو كما يسمّيها دانتو: "اللحظة ما بعد التاريخية"، حيث لم تعد هنالك حدودٌ للتاريخ. ويوضح بعد ذلك أن "الزعم" القائل إنّ "الفن قد انتهى فعلاً هو زعم يتعلق بالمستقبل، ولا يعني ذلك أنه لن يكون هنالك مزيد من الفن، بل إنّ مثل هذا الفن سيكون فن ما بعد نهاية الفن، أو فناً ما بعد تاريخي".

وفقاً لدانتو، بدأ التزام التمازج يتعثر خلال القرن الــ 19 بسبب ظهور التصوير الفوتوغرافي والأفلام. هذه التقنيات الإدراكية الجديدة دفعت الفنانين إلى التخلي عن تقليد الطبيعة. ونتيجة لذلك، بدأ فنانو القرن العشرين استكشاف مسألة الهوية الفنية للفن. ماذا كان الفن؟ ماذا يجب أن نفعل؟ كيف يجب تعريف الفن؟ في طرح مثل هذه الأسئلة، أصبح الفن واعياً ذاته. شككت حركات، مثل التكعيبية، في عملية التمثيل البصري، وعرض مارسيل دوشامب مبولة كعمل فني (كما ذُكر في المقدمة). لقد أشرف القرن العشرون على تتابع سريع للحركات و"العقيدة"، كل ذلك بمفاهيمها الخاصة حول ماهية الفن. لقد وصل الفن إلى مرحلة ما بعد التاريخ. كل ما تبقى هو نظرية بحتة. بالطبع، ستكون هناك صناعة الفن. لكن صنّاع الفن، الذين يعيشون في فترة ما بعد التاريخ من الفن، سيجلبون أعمالاً تفتقر إلى الأهمية التاريخية أو المعنى الذي نتوقعه، لوقت طويل، وتنتهي القصة.