"صبايا الريح".. إيهاب حمادة شاعراً أول غيثه الهطول

كم أدّت مفردة النهر ـــــ رمزاً ـــــ في تشكيل خطاب الشاعر، وحفرت في الذاكرة ساعة الولادة والحياة التي تسير في نهر واحد نحو مرام منشود في ديوان "صبايا الريح" بين الأرض والنهر والنور.

  • "صبايا الريح".. إيهاب حمادة شاعراً أول غيثه الهطول

"صبايا الريح"، المجموعة الشعرية الأخيرة للشاعر إيهاب حمادة، الصادرة حديثاً عن دار كاف، ديوان لافت بمزاياه اللغوية. تلك خصال الخطاب التي تحتشد في شعرية متدفّقة ومتوهّجة، تحرث في أرض تعاقبت عليها عبقريات فأصابت معاني جديدة، بواسطة سلسلة غير محدودة الدفق من الاستعارات التي لا تكفّ عن الدوران كجذّابة ماء تسقي حقول بستان، أو كوميض نور في ليلة حالكة السواد من المحاكاة التي لا تكاد تمزّق ثوباً بالياً يمارسها كثير ممن يألفون القصيدة، وإذا بنا أمام لغة أخرى، تحاكي في نفوسنا معاني بعيدة، نكاد لا نبصرها على بعد المسافات المستقرة في كعب النفوس أو الراسية فيها كما ترسو سفن عملاقة بعد رحلة طويلة.

وإذا بعتبة عنوان رقيق وهو "صبايا الريح"، وأيّ ريح وأيّ صبايا (ولا أعرف أيّهما أسبق إلى قلب الشاعر المضاف أم المضاف إليه)؟ أهي تلك الصبايا التي استطاعت الاستحالة إلى قصائد تسبي قلب الشاعر وعقله وتأخذ قلوبنا وتدهشنا معه، وتثير صدمة لا تنتهي من التأمّلات ومشاغبة التراث؟ وإذا كانت تلك الصبايا من القصائد ساكنة الطرف والتي لا تغفو على كتب الشاعر لأنّ بها من قلق المتنبي واستدعاء بيته، وهو (على قلق كأنّ الريح تحتي/ أوجّهها جنوباً أو شمالاً). ومثار هذا القلق والارتحال رحلة مضنية، من انفجار الاستعارات، وتبديد معانٍ ساكنة، حيث كان العنوان الذي صدر به الشاعر ديوانه تلك العتبة الملتهبة بشمس الاستعارة في صباح المعنى الذي يشبه صبح الأعشى.

فالاستعارة هي اكتشاف الذات أو الطريق إليها، وهي الطريق التي يرود بها المرء الحقيقة لا مقولات الفلسفة القديمة، والاستعارة في قصيدة النهر لدى الشاعر تستحيل تلك الموسيقى الخفية في "حزن قصيدة" إذ يقول: 

شدو القصيدة حزنها وأنا شدت/ فيَّ القصيدة غير أني أبكم.

أغفو على حزنين أغزل مطلعي/ فيجنّ بي فرح القصيد فأختم.

وإذ يسلك الشاعر بفروسيّته مناورة في اقتحام المعنى لا تنتهي من الحزن ومثناه ثم يقيّد فرحه بجنون الشاعر أو قصيده، لكنه يمسك عن الإفصاح عن تشكيل معنى الحزن أو يعطيه طابعاً من النثرية التي تنتثر في قلب المتلقّي على نحو غير محدود من التأويل، ومحاولة بثّ صور من التصوّرات غير المتناهية.

نعاس الغيم

قد يكون الغيم ناعساً، والذي همست ببعض ملامحه المتحوّلة في تصدير المقال، وهي صورة مألوفة أبحر فيها الشاعر وزاد فيها رحلة من الترميم عبر مزاوجة بين تجسيد معنى في قوله:

كالنصّ أغلق عن رؤى قرّائه

وأنا أغن الوصل أقرأ وقفه.

وكأنّ الشاعر لا يكفّ عن تلك المناورة المدهشة من التأرجح بين معنى قديم وآخر يريده ويتعمّد تغييبه، ويرهقنا معه ويسمّينا عبر رحلة من الاحتراق والشوق إلى اقتفاء أثر المعنى الذي يشبه رواية مديدة الصفحات تتنامى بها عقدة النص.

أن تمسكي بالنهر من أطرافه

ويمعن بنا اختطافاً في رحلة الإغراق والاغتراب بنا إلى ذاته ويفيض في معنى النهر، في استعارة بعيدة، ومضنية كالحداثة التي تقاتل المعجم، وتخلق ظلالاً من المعاني يناور تحت أطرافها الشاعر إذ يقول:

هل في الشجيرات الدوالي من يديك فم

يدنو يخصّ الماء حيناً ثم يبتعد..

ها نحن نحاول أن نحلّق مع الشاعر كما يحلّق هو حتى نحظى بشيء من الإحساس الذي اقتنصه، ولكن أنّى وقد حبس المعنى في قلبه وأسرف في إسدال الستار وكاد يحجب الرؤى إلّا من بصيص في بستان غيّبته أشجار سامقة تدلّت وأينعت، ورواها تمير الماء.

ولا نكاد نفارق قصيدة من صبايا ريحه وقلقه حتى نظفر بقصائد منها، وكأنّ مطر إبداعه لا يميط لثام الحقيقة، بل يكاد لا يترك حيلة الغياب والحضور وإذا به يمسرح قصيدة أخرى..

مسرح

الليلة أنستُ ضفافاً تتعرّى في ثوب الماء الموغل

في ضحكات الأرض

الليلة أسدل في مسرح قريتنا نصف حياة واختتم العرض

الليلة دقّات قلوب الرانين إليه عيون، والدمعة نبض …

هذا المنحى الرمزي في مسرحة النص الذي سلك فيه صوفية حداثوية، والتعرّي والضفاف والضحك خطوات الانكشاف والاحتفاء بهذا الانكشاف تجلّى في الضحك الذي بدأ على وجه الأرض.

وكم أدّت مفردة النهر ـــــ رمزاً ـــــ في تشكيل خطاب الشاعر، وحفرت في الذاكرة ساعة الولادة والحياة التي تسير في نهر واحد نحو مرام منشود في ديوان "صبايا الريح" بين الأرض والنهر والنور.

اخترنا لك