"سيدي خالد".. ما حكاية الهدية التي تحوّلت إلى مزار ديني؟

لجامع خالد بن الوليد في حمص قصة جميلة، بطلها شيخ استطاع شفاء شقيقة السلطان عبد الحميد الثاني. ما تفاصيلها؟

 

يُحكى أن السلطان عبد الحميد الثاني الذي حكم الدولة العثمانية بين أعوام 1876 و1918، كان له أخت أصيبت بمرض شديد ونادر، لم يعرف له الأطباء علاجاً ولا دواء، فنصح بعض الحاشية السلطان بأن يستعين بخبراء "الطب النبوي"، ليقع الاختيار على الشيخ محمد سعيد زين العابدين، المشهود له في تلك الفترة ببراعته في طب الأعشاب.

بعد معاينة الشيخ لأخت السلطان، نجح في تقديم العلاج المناسب وشفيت تماماً من مرضها، فقرر عبد الحميد وشقيقته، منح الشيخ زين العابدين مكافأة على ما فعله، وأرادا تقديم قطعة أرض له. لكن الشيخ رفض هذه الهدية كونه رجل علم ودين، ولم يكن غرضه من تقديم الدواء الحصول على الهدايا والعطايا.

لكن السلطان العثماني أصرّ على تقديم الهدية وأمهله 3 أيام للتفكير واختيار الهدية التي يريدها. بالفعل، عاد الشيخ محمد سعيد إلى السلطان، وتحدث إليه عن إعجابه بجوامع إسطنبول وفرادتها وإتقان تصميمها، وتمنى أن يتم تشييد جامع مشابه لجامع "السلطان أحمد" على قبر الصحابي خالد بن الوليد في مدينة حمص؛ ومن هنا كانت ولادة فكرة تشييد جامع خالد بن الوليد في حمص، وسط سوريا.

استوحي الشكل الهندسي لجامع خالد بن الوليد من جامع "السلطان أحمد" في تركيا، لكن بمساحة أصغر، حيث تقول بعض الروايات إن مهندساً معمارياً محترفاً يدعى علاء الدين أولسوي، أتى خصيصاً من إسطنبول بتكليف من السلطان عبد الحميد لإجراء مخططات الجامع الهندسية، لذلك خُلّد اسمه وصورته في المتحف الإسلامي المبني ضمن الجامع.

ويعود تاريخ بناء جامع خالد بن الوليد إلى عام 1266 للهجرة، عندما أمر الظاهر بيبرس أثناء عبوره حمص متوجهاً إلى مدينة "سيس" في المملكة الأرمنية للإغارة عليها، ببناء جامع يليق بمقام خالد بن الوليد. لكن البناء اقتصر آنذاك على ضريح من الخشب، سَجّل بجانبه الظاهر بيبرس توثيقاً لانتصاره على المملكة الأرمنية، وتشير إلى ذلك كتابتان أثريتان بالخط النسخي حُفرتا على قطعتين خشبيتين موجودتين في الجامع ومؤرختين في عام 664 للهجرة.

بعد ذلك، اهتم أكثر من سلطان مرّ بحمص بتدوين انتصاراته في جامع خالد بن الوليد، ومنهم السلطان المملوكي صلاح الدين خليل عندما انتصر على الصليبيين في الساحل عام 1292. لكن، لم يتمّ إنجاز البناء الفعلي للجامع حتى عام 1895 بأمر من السلطان عبد الحميد.

شارك في بناء الجامع من المسيحيين عارف خزام (1880-1940) الذي بنى أروقة الجامع وصحنه وبحيرته، وكان لقبه "المعمار باشا" أو رئيس البنّائين. كما ساهم المعماري إميل عارف خزام أيضاً في بناء قسم حديث من الجامع، وكان آخر الاختصاصيين في بناء المصلبات والأقواس ومن مؤسسي نقابة المقاولين في حمص، إضافة إلى المعماري مطانيوس خزام الذي ساهم في بناء الجدران والمآذن، بمساعدات من أفراد آل سارة وآل برجود في حمص.

وهنا، تجدر الإشارة إلى أن التحديثات والترميمات التي شهدها الجامع بدأت عام 1912 من بنّائين حماصنة بعد مداولات جرت بين السكان المحليين والسلطة الحاكمة في إسطنبول، وفي عام 1959، أضيفت بعض الترميمات، وتم إنشاء مدرسة وقاعات للمحاضرات ومتحف للآثار الإسلامية داخل الجامع عام 1972.

ومن المعروف أن أبناء كل حيّ في المدينة شاركوا في أعمال مجانية في البناء، فبعضهم ينقلون الحجارة، وآخرون يقومون بالعمران، فالجامع بُني من مواد مجلوبة كالكلس والتراب والحجر الأسود، إضافة إلى القرميد الذي صنعت منه القباب، جُبِلَ وشُوي بأيدٍ حمصية، ولم يؤتَ من الخارج سوى برخام المنبر والمحراب، أما الحجارة البيضاء فقد جيء بها من حماة.

"سيدي خالد" أيقونة مدينة حمص وتاريخها

جامع "سيدي خالد"، كما يُلقّب في حمص، هو الصرح التاريخي والسياحي والديني للمدينة التي تقع في قلب سوريا؛ مئذنتاه المضلّعتان بالحجر الأبيض ترشدان الزائر إليه عبر ساحة حمص الواسعة. ففي تلك المدينة التي تشتهر ببيوتها المتوسطة الارتفاع تبرز مئذنتا الجامع وقببه.

يقول رامي الدويري، عضو "الجمعية التاريخية السورية" في حمص: "يُخبر جامع خالد بن الوليد عن تاريخ مدينة حمص من ناحية التعايش الديني، فسكان المدينة المسلمون يفاخرون بأن عائلات مسيحية شاركتهم في بناء جامع الصحابي الجليل".

أما عن طبيعة بناء الجامع، فيقول الدويري لـ "الميادين الثقافية" إنه: "مزيج من الحجر الأسود والأبيض، الذي يكاد يكون موحّداً في البيوت الحمصية والكنائس القديمة، ولذلك تُعرف مدينة حمص بأنها أمّ الحجار السود".

لدى دخولك الباب الرئيسي للمسجد تجد إلى اليمين ضريح خالد بن الوليد محاطاً بصلوات وأدعية المسلمين والمسيحيين الذين يزورونه، ما يختصر قصة التعايش الديني في حمص وبقية المدن السورية، بينما تعلو 9 قبب صحن الجامع، أعلاها القبة الوسطى ويبلغ ارتفاعها نحو 30 متراً، وفي صدر الصحن توجد 3 محاريب، لكل منها عمودان من الرخام الأبيض، وقد زيّن المحراب الأوسط برخام ذي أشكال هندسية ملوّنة بالأحمر والأسود والأبيض.

ويضم الجامع في جهته الشمالية عدداً من الأروقة والأقواس المبنيّة وفق نمط البناء "الأبلق"، أيّ توالي الحجارة السوداء والبيضاء، وهو النمط المعماري السائد في حمص.

لا يعدّ جامع خالد بن الوليد رمزاً دينياً للمدينة فحسب، بل هو مركز سياحي وتاريخي، كما يُعدّ من المحطات الأساسية في زيارة حمص، خاصّة أنه يقع في قلب المدينة القديمة ولا يحتاج الوصول إليه سوى بضع دقائق مشياً على الأقدام من مركز حمص.

الحرب قالت كلمتها

في نهاية العام 2012 والأشهر الأولى من بداية 2013، شهدت أحياء مدينة حمص القديمة معارك عنيفة بين الجيش السوري والفصائل المسلحة التي تحصّنت في المناطق السكنية والأحياء القديمة، لتشهد تلك المناطق أعنف المعارك في الحرب السورية، وفي تلك الفترة، تعرّض جامع خالد بن الوليد لأضرار جسيمة أتت على هيكله الخارجي وباحاته والطريق المؤدية إليه، فيما شهدت المناطق السكنية حركة نزوح واسعة، واستمر ذلك حتى العام 2015.

مع استعادة الجيش السوري السيطرة على حمص وريفها، بدأت عمليات إعادة الإعمار والتأهيل في مختلف أحياء المدينة، وفي الوقت نفسه، انطلقت أعمال ترميم جامع خالد بن الوليد في المدينة القديمة بتمويل من رئيس جمهورية الشيشان، رمضان قديروف، واستمرت حتى شباط/فبراير من العام 2019 عندما أعيد افتتاح الجامع بحضور وزير الأوقاف السوري، عبد الستار السيد، ومفتي جمهورية الشيشان، صلاح ميجييف، وعدد من الفعاليات الدينية والشعبية.

إعادة افتتاح المسجد من جديد شكّلت صدمة إيجابية لأهالي مدينة حمص الذين تلقفوا هذا الخبر بفرح كبير، نظراً إلى القيمة الدينية والسياحية والمعنوية التي يعنيها بالنسبة إليهم، على الرغم من أن عمليات الترميم لم تنتهِ بشكلٍ كامل، حيث لا تزال وزارة الأوقاف السورية تعمل إلى اليوم مع الجهات المعنية بالتاريخ والآثار لترميم أجزاء من الهيكل الخارجي، الذي يحتاج إلى اعتناء واهتمام بالتفاصيل التاريخية ليعود كما كان قبل الحرب.

في حديثه مع "الميادين الثقافية"، يروي الحاج عبد الناصر جحواني، وهو من أهالي منطقة "باب تدمر" في حمص، بعض ذكرياته مع الجامع قبل الحرب، حيث كان المسجد مقصداً لمعظم سكان المدينة في المناسبات والأعياد، وخاصّة في عيد المولد النبوي حيث يفيض الزوار من جنباته وتغص الساحات والطرق المؤدية إليه بالمسلمين القادمين للتبرك بمقام خالد بن الوليد وأداء الصلاة في المسجد المُبارك.

كما يتحدث جحواني عن مناسبة "خميس المشايخ" التي يستضيفها الجامع، وكانت عبارة عن صلاة جماعية لرجال الدين من مختلف أنحاء سوريا في حرم الجامع.

ولم ينسَ جحواني كيف تتحوّل الطرق المؤدية إلى الجامع في أيام العطل الرسمية إلى أماكن سياحية وترفيهية لأهالي حمص، حيث يفترش الناس الطرقات في فصل الصيف تحديداً؛ بحثاً عن الأجواء الرطبة ودرجات الحرارة المنخفضة قرب الأشجار المنتشرة في البساتين والأراضي الزراعية المحيطة بالجامع.

وعن فترة الحرب يروي الحاج عبد الناصر كيف اضطر إلى النزوح من بيته هرباً من بطش الفصائل المسلحة، لكنه كان يخاف على تعرض الجامع للضرر في فترة غيابه كخوفه على منزله تماماً، لذلك كان بدء عمليات الترميم بمنزلة استعادة الروح وبثّ الحياة في الأهالي والمدينة على حدٍ سواء.

اليوم، عاد جامع خالد بن الوليد ليكون قبلة الزائرين من حمص وباقي المحافظات السورية، حيث يشهد إقامة الصلوات والمناسبات الدينية، إضافة إلى إقامة موائد الرحمن لإفطار الصائمين خلال شهر رمضان، وأمل أهل المدينة أن تنتقل عدوى إعادة الإعمار من حمص إلى مختلف المناطق المتضررة من جرّاء الحرب.