"النصف الفارغ": الحلم الأميركي فارغ ويخدع معظمنا
لا تجد سارة عزيزة الشفاء في الطب والطب النفسي، بل "في قصص والدها، في أرض أجدادها، في فعل التذكر".
-
"النصف الفارغ: مذكرات الأجساد والحدود": عن جوع الجسد والروح
سارة عزيزة كاتبة وصحفية ومترجمة فلسطينية - أميركية، تعود جذورها إلى غزة. وكتاب "النصف الفارغ: مذكرات الأجساد والحدود" هو كتابها الأول. يقع الكتاب في 400 صفحة وقد صدر بالإنكليزية عن دار "Catapult" في نيسان/ أبريل عام 2025، ووصل إلى القائمة القصيرة لجائزة فلسطين للكتاب. "النصف الفارغ" ينسج الأزمنة، اللغات، والأنواع الأدبية معاً متجاوزاً التصنيفات الأدبية الاعتيادية إذ يجمع بين المذكرات، الشعريّة، والتاريخ الشفهي، "مستكشفاً الإرث المتداخل للشتات، الكولونيالية، والحلم الأميركي". بدأت سارة عزيزة بكتابته عام 2020 وكانت لا تزال تعمل عليه حين تصاعدت الإبادة في غزة عام 2023 بينما كان جزء من عائلتها لا يزال محاصراً هناك. يقول إهداء الكتاب: "إلى غزة، تعجز الكلمات"، لأنه حسب قول الكاتبة: "صحيح أني كتبتُ هذا الكتاب، لكني أدرك أيضاً حدود اللغة".
في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019، أُدخلت سارة عزيزة إلى المستشفى من جراء مرض فقدان الشهية، وأشرفت على الموت، حتى إن الأطباء شكّكوا في نجاتها. هذا الاحتكاك القصير مع الموت جعلها تستحضر ماضيها، الشخصيّ منه وذلك العائد إلى الأسلاف. بدأت مطاردة أشباح الماضي لها في كافيتريا المستشفى، حين حرّك شراب الزبادي بالمشمش الذي تحتسيه ذكرى طفولتها، واستدعى صوت جدتها الفلسطينية المتوفاة. ثم، في الشهور التالية، مع سلسلة من الأحلام الشبحية، وأثناء فترة الحجر، راحت سارة تنبش أسرار عائلتها، تستكشف علاقتها المعقدة مع جدتها الفلسطينية، وتتفحص هذا المرض الجسدي بوصفه جزءاً من تروما نفسية تردد صدى أجيال من المهجرين من فلسطين. "شبح جدتها يحوم عبر الكتاب، هامساً عن غزة، وعن لاجئي الخيام، وعن أرض فُقِدت لكنها لم تُنس قط".
تقول عزيزة عن "النصف الفارغ": "بدأتْ القصة حين كان جسدي محطماً وتكاد تمحوه مسألة الصحة العقلية التي أتعامل معها لدرجة أني فكرت...أن أقبل أن هذا تشخيص فردي، شيء عليّ أن أتصارع معه وأتعافى منه...لكني بدأتُ أستعيد ذكريات عن جدتي الفلسطينية وذلك قادني إلى فضول، فضول أكبر، حول تاريخ عائلتي في غزة، في فلسطين، والنكبة الكبرى". وهكذا كان هذا الكتاب.
بين مذكراتها وهي طفلة، ذكريات والدها عن أمه، وذكرياتها عن السفر إلى فلسطين، تجمع عزيزة في هذا الكتاب خيوطَ الرضوض النفسية الممتدة إلى الأسلاف والتي، مع كونها أنثى، شكّلت الأساس النفسي لاضطراب الطعام الذي أصيبت به. تتذكر عزيزة لحظات من طفولتها شكّلت علامات لتطور علاقتها مع جسدها، وتستدعي تأثير أحكام الأقران عليها وعدم الراحة الجسدية التي خلفتها نظرة أصدقاء طفولتها البيض وسخريتهم من عادات الأكل عندها. ومن خلال سرد ذكرياتها، تبدأ باستعادة هويتها، محوّلة الألم إلى فهم عميق لإرثها.
سابقاً، كانت سارة عزيزة قد وصفت أرشيف والدها غير الرسمي المكوّن من صور وبطاقات هوية قديمة وغيرها، من ولادته في غزة إلى الزمن الحاضر. والآن، في هذا الكتاب، تخلق أرشيفها الخاص إذ تتنقل بين السردية الشخصية، الصحافة والتاريخ. تحاول سارة فهم إرثها العائلي، متعقبة ثلاثة أجيال من فلسطينيي الشتات، من غزة إلى ميدويست إلى نيويورك سيتي. وتصور التصدعات العديدة التي حدثت في حياتها وكيف أنها ليست مطارَدةً بكفاحها الحالي للتعافي الجسدي فحسب، بل كذلك بحياة أسلافها. كذلك، هذه المذكرات مشبعة بإرث عائلة عزيزة من رفض الاحتلال والنزوح، وهي تُظهر أن كفاحها للتعافي يستند إلى قرن من النجاة المتحدية والحب الأسري.
تتتبع الكاتبة تاريخ النزوح العنيف لعائلتها الفلسطينية وتعتنق إرث النجاة والحب خاصتهم. يتنقل السرد من طفولتها في حرارة جدة في السعودية، إلى ميدويست الباردة في أميركا، ثم إلى منزلها الحالي في بروكلين، بالإضافة إلى زياراتها إلى بلدها الأم، فلسطين. ويتناول الكتاب في أحد أجزائه سيرة حياة والدها وجدتها وعودتهما اللاحقة إلى غزة. فحين هُجّر الأب من غزة كان في السابعة، وعاد إليها في زيارة مع والدته وهو مراهق. تروي عزيزة: "حين عبر وبدأ يسمع اللهجة الغزاوية ويشم رائحة البحر، تذكر جسدُه البحرَ، بطرق ربما لم يكن يعرف أنه يحملها". وتكمل عن لسان والدها: "أنا مع شعبي مرة أخرى. أردت أن أركض، أن أركض إلى كل واحد منهم وآخذ يده وأقول له: أنا واحد منكم. نحن عائلة". تسرد الكاتبة هذه التجربة برهافة وتتماهى معها لأنها هي أيضاً زارت فلسطين مرات عدة، وتمكنت مع والدها وأخيها من الوصول إلى قريتها الأم التي دُمرت عام 1948.
تنتقل هذه المذكرات بين صراع الكاتبة مع فقدان الشهية العصبي وتاريخ عائلتها وعلاقتها متعددة الأجيال مع فلسطين. بالتالي، يتجاوز كتاب "النصف الفارغ" كونه مجرد مذكرات، بل يأخذ شكل استكشاف عميق للهوية والحقائق التي تطارد الإنسان، المنفي على وجه الخصوص، استكشاف للهوية التي حاولت سارة عزيزة كبحها طويلاً لأجل الحلم الأميركي. وهو كذلك يشرّح العلاقة الدقيقة بين الجسد والنفس.
تعترف عزيزة أنها "ابنة جائعة"، ما يمكن فهمه نفسياً وجسدياً، وتوسيعه دلالياً إلى ما يتجاوز اضطراب الطعام الذي تعاني منه. "النصف الفارغ" هي مذكرات عن الجوع، "لا للطعام فحسب، بل للهوية، للتاريخ، للاكتمال". إنه جوع جسدي، عاطفي، ونفسي. في المستشفى، اعتقد الأطباء أن اضطراب الطعام سيقتل سارة. ورغم أن هذا لم يحدث على الصعيد الجسدي، فإنه أصبح استعارة لما تصفه في كتابها هذا؛ ما يدعى "اضطراب الكرب التالي للصدمة" من جراء ما حدث ويحدث في غزة. بالتالي، هذا العمل هو شهادة عن النجاة، لا نجاة الجسد المادي فحسب، بل نجاة الذات.
وبنثر مذهل، تبحر سارة عزيزة بانسيابية بين مناطق جغرافية، أزمنة، ولغات. فلغتها، كما يرى النقاد، هي لغة نثر شعري ينتقل بين الحقائق القاسية والتأمل الشعري، بين الواقعية الثاقبة والشعرية الكئيبة. الزمن ينساب في الكتاب بسلاسة، الذكريات تُنسج معاً بشكل محبوك، واستكشاف عزيزة للغة يضيف بعداً بليغاً إلى السرد. كذلك، تستخدم الكاتبة عبارات عربية أحياناً ما يذكّر بقوة تلك الكلمات وأثرها في تشكيل الهوية. بهذا المعنى، هذه المذكرات، كما ترى إحدى المراجعات، هي أيضاً "دراسة لغوية للكلمات المنطوقة والمسكوت عنها، للعبارات العربية التي تحمل تاريخاً، لضروب الصمت التي تشكّل الهوية". هكذا، نتتبع إيقاع استكشاف الكاتبة لماضيها باللغة الإنكليزية والعربية العرضية ما يمنحنا فهماً أعمق لعائلتها وثقافتها. ونلاحظ أنها لا تنسى أن تستدعي شعراء فلسطينيين مثل غسان كنفاني ومحمود درويش.
عنوان الكتاب "النصف الفارغ"، كما تشير سارة عزيزة، له أبعاد عديدة: "أحدها خواء الجوع واضطراب الطعام الذي يبدأ الكتاب به، لكنه أيضاً خواء الحلم الأميركي. وهو كذلك خواء فكرة النصف هذه، فكرة أن يكون المرء نصف أميركي، نصف فلسطيني". تضيف عزيزة: "مع نهاية الكتاب، أصل إلى رفض تلك الفكرة نوعاً ما. وأتمكّن من فهم أن الهوية الفلسطينية هي الهوية كلها، وهي تمسّ كل جانب من حياتي، سواء أكنتُ في الشتات أم خارجه".
"ثمة قوة تريد أن تُسكت قصصنا، أن تُسكت كل من يعبّر عن تضامنه معنا...لكني أعتقد أن العالم بدأ يرى الآن ما عرفه الفلسطينيون على الدوام"، تقول سارة عزيزة. لهذا، كتاب "النصف الفارغ" ليس مجرد مذكرات، بل هو درس في التاريخ حول ثقل المنفى، الاندماج، والنسيج المعقد للإرث الثقافي. وهذه المذكرات تبدو كمطاردة شبحية أكثر منها مجرد سرد. "لم يعد يحيرني انهياري بل كل ما نجونا منه"، تقول سارة في عبارة يتردد صداها عبر الكتاب كله. وفي النهاية، لا تجد سارة الشفاء في الطب والطب النفسي، بل "في قصص والدها، في أرض أجدادها، في فعل التذكر". كما أنها، مع فعل الكتابة، تعتنق تعقيد هويتها وترفض محاولات المحو، بدءاً من اضطراب فقدان الشهية الذي يتخذ شكلاً من أشكال محو الذات، إلى محاولات محو الهوية الفلسطينية والاندماج القسري. وينتهي الكتاب بصيحة احتجاج لأجل عالم يكون للجميع فيه الحق في احتواء تعدداتهم.
تقول سارة عزيزة: "كابنة الشتات، لم أكن قد ربطت قصتي بهذا العمق بقصة شعبي. بالطبع، كنت أعرفها، لكن العديد من الناس في الشتات يعتقدون أنهم اجتازوا هذه العتبة، هذا الحد...سواء أكان حداً زمنياً أو جغرافياً...لقد كنت أتبع نموذج الحلم الأميركي، حكم الجدارة. واعتقدت أني إذا تمكنت من تحسين نفسي، يمكنني جعل بابا فخوراً بي، وجعل جدتي فخورة، ولا حاجة بي لربط قصتي بشكل مباشر بقصتها. لكني أدركت أن معاناتها وخسارتها، وكذلك صمودها، تحمل بعض المفاتيح التي أحتاج إليها للتعافي من مرضي الفردي وإعادة توجيه حياتي مع وضع غزة وفلسطين في مركزها، بدلاً من الانخداع بالحلم الأميركي الذي اتضح أنه فارغ ويخدع معظمنا".