"المهاجل" في اليمن: صوت الأرض وذاكرة المجتمع

سجلّ شفوي يحكي تفاصيل الحياة اليمنية، وأحياناً يكون له دور في الإفراج عن سجين أو ردّ إشاعة. ما هو فن "المهاجل"؟

على امتداد سهول اليمن وجبالها، حيث تروي الأرض قصصاً عمرها آلاف السنين، وُلد فن شعبي أصيل، هو نتاج علاقة تكافلية بين الإنسان والأرض. إنه فن "المهاجل".

هذا الفن ليس مجرد غناء، بل هو سجل شفوي حيّ يحكي تفاصيل الحياة الريفية والزراعية والاجتماعية في البلاد.

و"المهاجل" نوع من الأغاني الشعبية التي صاحبت الأعمال اليومية، خاصةً الزراعة، منذ عصور الحضارات اليمنية القديمة، ويتجلى وجودها في النقوش والآثار السبئية (نسبة إلى سبأ)، التي أشارت إلى أنماط من الغناء والشعر، وتعد "المهاجل"، واحدة منها، وفق الكاتب والقاص، محمد عزيز الباروت. 

أما الباحث ومؤلف كتاب "فن مهاجل المرأة اليمنية في الريف"، زيد صالح الفقيه، فيشير في حديث مع "الميادين الثقافية"، إلى أن هذا الفن يُعتبر في المقام الأول فناً تختص به النساء ويؤدينه أثناء عملهن الشاق في الحقول وجلب الحطب، أو حتى خلال سمرهن في الليالي الدافئة، ورغم ذلك تضمنت بعض أعمال الرجال في الزراعة والبناء "مهاجل" خاصة بهم.

إيقاع العمل في الريف اليمني

  • تتبدل أنواع
    تتبدل أنواع "المهاجل" وتقسيماتها بحسب طبيعة العمل والمناطق الجغرافية

ارتبط فن "المهاجل" ارتباطاً وثيقاً بالنشاط الزراعي، فكانت الأنواع والتقسيمات تتبدل بحسب طبيعة العمل والمناطق الجغرافية، التي تمنح كل مهجل طابعه الخاص ولهجته المميزة، كما يوضح الباروت في مقابلة مع "الميادين الثقافية". في حين يشرح الفقيه أنواع "المهاجل" أثناء العمل في الحقل الزراعي بالقول: "عند حرث الأرض، تُردد مهاجل الحرث والري التي تُسمى "نبتل" أو "نشغب" أو "نعزق" بشكل ممدود ليناسب حركة الثيران، ومثاله ("صلي وصلى الله على ولد عبد الله قاري كتاب الله)، وعند البذر (التليم)، تبدأ المهاجل بالبسملة وتنتهي بالدعاء، مثل (بسم الله بدينا... نتلم أراضينا... ونسأل مولانا... يخضر سبولتنا)".

ويضيف الفقيه "أما في مرحلة الريّ (السقي)، التي تقتصر غالباً على الرجال لجهدها الكبير وعملها الليلي، فتتميز المهاجل بإيقاعها البطيء، ومنها مهجل من جهران – ذمار يقول (يا ساقي من قاع جهران... اسقي لنا الغدران... الزرع يا أخي عطشان... والماء جاء من الرحمن)".

ويظهر الطابع الأنثوي وتتجلى روح المرأة اليمنية في ما يطلق عليه زراعياً في اليمن "موسم العلَّان"، الذي سُمّي باسم أحد الشهور الحِمْيَرية، وفيه تكون بداية الخير ونضج المحاصيل ويقتصر العمل فيه على النساء حيث يقمن بجمع العلف من الحقول الزراعية.

وفي هذا الموسم تتجاوز "المهاجل" وظيفتها العملية، لتصبح أداة تفريغ نفسي وإيصال رسالة في مجتمع محافظ. ذلك أن المرأة اليمنية الأميّة، التي تحمل عبء المنزل في ظل اغتراب الزوج أو ظروف القهر، وجدت في المهجل وسيلة للتعبير عن معاناتها وأحاسيسها. 

هكذا نجد من يتأسف لفوات السعادة بجو العلَّان (يا غبيني على من مات في ظهر علَّان... خلسوه الزِنَان وخرجوه كف رحمن)، كما نرى المرأة تتغنى بجمال المحصول وتشبهه بجمالها في وعي بلاغي وفلسفي (يا عنب رازقي ما يضمر إلا بعوده... مثل غصن القنا لا قام نادِش جعوده).

أهازيج البناء والعمران

  • لا يقتصر فن
    لا يقتصر فن "المهاجل" على الزراعة

لا يقتصر فن "المهاجل" على الزراعة، بل يمتد ليواكب أعمال البناء أيضاً، وهي أهازيج شعبية تُردد أثناء بناء البيوت الحجرية أو الطينية لتنظيم العمل وإضفاء الحماسة.

فعند جلب الأحجار، تُردد بشكل جماعي حماسي (حجر وسيري سايره... ولا تكوني حايرة)، وفي بناء البيوت الطينية، عند تناول اللبن، يُردد العمال (جر منه ناوله... والشقاء من باوله)، والشقاء هنا تعني أجر العامل. كما توجد "مهاجل" أخرى للبناء مثل (وا ليل الماء وا ليلان... والماء بارد بالكيزان).

ويضيف الفقيه أن أغراض "المهاجل" تعددت لتشمل إلى جانب العمل الاستهلال وبواكير الصباح، والغرض العاطفي، ومناجاة الطبيعة، والتعبير عن نعمة الخير، وتأثير الهجرة، وغيرها من النوازع الإنسانية.

"سلطة الكلمات": كيف عالجت "المهاجل" قضايا المجتمع؟ 

  • تتجاوز
    تتجاوز "المهاجل" وظيفتها العملية لتصبح أداة تفريغ نفسي

طالما كانت "المهاجل" أداة المرأة اليمنية للتعبير عن مكنوناتها، وهمومها، وشوقها، وشكواها، خاصةً في ظل مسؤوليتها تجاه بيتها في ظل غياب الزوج المغترب. 

يحكي الفقيه قصة واقعية تقول إن رجلاً سُجِن في محافظة إب بسبب دَين عليه، وطال سجنه لعجزه عن السداد. وفي موسم "علَّان"، رأت زوجة السجين القاضي القائم على القضية (راجح الجايفي) يمر، فهجلت مُناجية إياه في كلمات مؤثرة: (راجح الجايفي عد شيء معك قلب يخشع... تفك قيد الحبوس فراط ليلة ويرجع).

سمعها القاضي، وعلم أنها زوجة السجين المعسر، فأطلق سراحه لكفالة بضع ليالٍ. وعند مروره لاحقاً ورؤيته لها، هجلت المرأة قائلة في شكره: (راجح الجايفي حجيت حجاً متمم... طوَّفوك الحرم وأسقوك من ماء زمزم).

ويقال إن القاضي، بتأثير من هذا المهجل المؤثر، أطلق سراح زوجها نهائياً ودفع عنه دينه، ليصبح "المهجل" مثالاً لقوة الكلمة الشعبية في تحقيق العدالة.

"المهجل" سلاح يواجه الإشاعة

  • "المهاجل" سجل شفوي حيّ يحكي تفاصيل الحياة الريفية والزراعية والاجتماعية في اليمن

وتُروى قصة أخرى يوثقها الفقيه عن فتاة جميلة حُسدت على جمالها فأشاعت النسوة عنها إشاعة مسيئة طالت عفتها، تزامناً مع قدوم شاب لخطبتها، وعندها سمع الشاب الإشاعة وعاد أدراجه من دون أن يقابلها، كانت الفتاة تعمل في حقل يُسمى (الأخراف)، وحين رأت خطيبها عائداً، هجلت واثقة من نفسها: (يا بر الأخراف من بطنه نظيف ما يخاف... لو دردحوا به بين صنعاء وضاف)، والدردحة هي التشهير بمرتكبي بعض الفواحش.

وحين سمعها الشاب، عاد وخطبها رسمياً، ليصبح "المهجل" بياناً للبراءة وثقة بالنفس تحدت الإشاعة المغرضة.

"المهاجل" كنز مهدد بالاندثار

  • فن
    فن "المهاجل" هوية يمنية عريقة

فن "المهاجل" أكثر من مجرد فولكلور. إنه هوية يمنية عريقة، أسهمت في حفظ التراث الشفوي وتناقله جيلاً بعد جيل. الأبيات الواردة آنفاً، والتي لم يُعرف قائلها في الغالب، أطلق عليها البعض "فن المقولات الشعبية" التي تنبع من صفوف الناس وتتداولها الأجيال.

في ختام حديثه لـ "الميادين الثقافية"، يؤكد الباحث، زيد صالح الفقيه، أن هذا الإرث العظيم يواجه حالياً تحدياً حقيقياً يتمثل في الاندثار. فمع تغير نمط الحياة وانشغال الأجيال الجديدة بوسائل التواصل الاجتماعي، بدأت أعداد النساء اللاتي يحفظن هذا الموروث بالانحسار. 

ويشير الفقيه إلى جهوده المضنية التي امتدت لأكثر من 36 عاماً لجمع ما يقارب 600 مهجل من شفاه النسوة مباشرة وتوثيقها في كتابه "فن مهاجل المرأة اليمنية في الريف"، وذلك لحماية هذا الكنز الثقافي.

تبقى المهاجل صوت الأرض وذاكرة المجتمع، ومن الضروري دعم حفظها وتوثيقها، لا فقط كأبيات شعرية، بل كسجل نابض لتاريخ اليمن الاجتماعي والاقتصادي والنفسي، وكنموذج فريد لقوة الكلمة الشعبية في التعبير، والتحفيز، وحتى تحقيق العدالة.

اخترنا لك