"هو نحن": "دراكولا".. مرآة رغباتنا المظلمة؟

ليس مجرّد مصّاص دماء، وكلّ جيل أعاد رسمه بما يناسب خوفه ورغباته. كيف شكّلت شخصية "دراكولا" مرآة رغباتنا المتجدّدة عبر الزمن؟

لم يكن العالم مهيّأ لذلك الصيف الذي لم يأتِ أبداً. عام 1816، حين غطى الجليد سهول أوروبا في عزّ حزيران/يونيو، وتعفّنت محاصيل القمح تحت المطر البارد، لم يكن أحد ليتنبأ أن الكارثة المناخية التي اجتاحت نصف الكرة الأرضية ستلد في المقابل وحشاً أدبياً جديداً، أنيقاً، ساحراً، ومميتاً. 

بين جدران فيلا فخمة على ضفاف بحيرة جنيف، وبينما كانت العاصفة تمطر النوافذ بصقيع متواصل، اجتمع 5 من الحالمين، المحبطين من الجو، ومن أنفسهم، ومن العالم. شعراء، عشّاق، أطباء… وكلّهم محاصرون. وفي لحظة ملل عابرة، ولدت أسطورة "مصّاص الدماء" أو "دراكولا"، كما نعرفها اليوم.

هذا الاسم الأشهر في الأدب القوطي لم يكن يوماً وليد عبقرية منعزلة، بل نتاج تراكمي لحكايات وخيالات ومآسٍ شخصية. فقبل أن يسطع نجم الكونت دراكولا، كان هناك جون بوليدوري، طبيب شاب في الثانية والعشرين من عمره، يجلس في الظل الثقيل للورد بايرون. 

كان بايرون نجماً أدبياً مضيئاً، وصديقاً ملهماً ومخيفاً في آن، يثير الإعجاب والغيرة، السحر والرهبة. في ليلة مقمرة بلا دفء، اقترح بايرون على بوليدوري مازحاً: "لنتسابق في كتابة قصص رعب". وهكذا، بدأ كلٌ منهم يحفر في قلبه ليخرج وحشاً على الورق.

وحش من ورق وخيبة من حبر

  • نُشرت قصة The Vampyre عام 1819
    نُشرت قصة The Vampyre عام 1819

ماري غودوين، التي ستصبح لاحقاً ماري شيلي، خرجت من تلك الليلة برواية "فرانكشتاين". أما بوليدوري، فبعد محاولة فاشلة عن امرأة برأس جمجمة، استقر على شيء آخر: قصة غير مكتملة كتبها بايرون عن رجل أرستقراطي غامض. أخذها، وأعاد تشكيلها، ونفخ فيها من غضبه وانبهاره ومراراته، وخلق شخصية "اللورد روثفن"، أوّل مصّاص دماء أرستقراطي في الأدب الحديث. لم يكن وحشاً منتفخ الوجه كما صوّره الفولكلور، بل لورداً أنيقاً ووسيماً يخفي أنيابه خلف ابتسامة راقية وربطة عنق مشدودة بإحكام.

نُشرت القصة عام 1819 بعنوان The Vampyre، وحقّقت نجاحاً شعبياً كبيراً. لكنها لم تحمل اسم بوليدوري، بل نُسبت إلى بايرون، سواء عن قصد من المحرّر لزيادة المبيعات، أو عن طريق سوء فهم عابر. 

هكذا، ذاب بوليدوري في ظلال من استلهم من نصّه الأول، وعاش في مرارة النكران. الطبيب الشاب الذي حاول أن يكون كاتباً لم يعش طويلاً ليشهد إنصافاً متأخراً. غرق في الاكتئاب، وأُثقل بالديون، وانتحر بسم السيانيد وهو في الــ 25 من عمره. ما فعله بوليدوري لم يكن مجرّد تحويل وحش قرويّ إلى رجل أرستقراطيّ. 

يصف المؤرخ البريطاني، كريستوفر فرايلنج، الأمر بدقة قائلاً: " لم يخترع بوليدوري مصّاص الدماء، لكنه كتب أوّل وصفة ناجحة له". فقد أخذ الأساطير المتناثرة من شرق أوروبا، وبلورها في كيان سردي واحد، بسمات محدّدة وسلوك متكرّر، يمكن استنساخه وتعديله وتطويره، لكن جذره يظل كما هو. من تلك اللحظة، صار مصّاص الدماء شخصية قابلة للحياة الأدبية، لا مجرّد خرافة.

لم يُدخل بوليدوري بدلة وربطة عنق إلى خزانة مصّاص الدماء فحسب، بل أدخل إليه ازدواجية جديدة: الجاذبية والرعب، الحنان والوحشية، الرغبة والدم. ذلك أن "اللورد روثفن" لم يكن فقط قاتلاً وسيماً، بل رمزاً للغواية المهذبة، أو للشيطان الذي يتقن البروتوكول. ظهرت تلك المشاهد الموحية للمرة الأولى، حيث يُغرز الناب في عنق الضحية كفعل مشبوه بين العنف والحميمية. هذه الثيمة ستصبح لاحقاً أحد أعمدة خطاب الرعب الحديث، حيث الغريزة والهوية والخطر تمتزج في قبلة دامية واحدة.

بعد بوليدوري، بدأت شخصيات مصّاص الدماء تتكاثر. ففي العام 1845، صدر عمل شعبي ضخم بعنوان Varney the Vampire كان حكاية طويلة وهزلية أحياناً، تدور حول "السير فارني"، مصّاص الدماء الذي يشعر بالذنب ويكره ذاته. 

كُتب العمل ضمن سلسلة أسبوعية شملت 109 كتيّباً، بيعت بثمن زهيد، لكنها انتشرت كالنار. ففارني لم يكن سفّاحاً فحسب، بل كائناً تراجيدياً، يأسف لحياته، ويموت في النهاية منتحراً، كأنّ الخلود ذاته أصبح عبئاً لا يُحتمل.

في هذا العمل ظهرت للمرة الأولى سمات أصبحت لاحقاً جزءاً من الكتالوج: العلامتان الصغيرتان على الرقبة، التنويم المغناطيسي، والحضور الأرستقراطي. لكنّ الأهم أنّ الشمس لم تكن عدواً بعد. ففارني كان يتحرّك في النهار بحرية. عدو الشمس سيولد لاحقاً مع "دراكولا ستوكر".

هكذا، وفي العام 1872، كتب الإيرلندي، جوزيف شيريدان لي فانو، رواية Carmilla، وكانت حكاية أوّل مصّاصة دماء أنثى تظهر كبطلة، وللمرّة الأولى يصبح فيها موضوع الحب جزءاً من دم السرد، لا مجرد سكين في الخاصرة. كارميلا الجميلة، التي تدخل حياة لورا الشابة، وتخدّرها بسحرها، قبل أن تمتص دمها كلّ ليلة، كانت انعكاساً للقلق الفيكتوري من الرغبة المكبوتة، ومن الحبّ غير المسموح به، ومن المرأة الغامضة التي لا يمكن ترويضها.

كانت الرواية، بجرأتها، تفضح التوتر بين العاطفة والرقابة، بين الافتتان والوصم. حين قالت كارميلا للورا: "كلما زاد الحب، زادت أنانيته... ستحبينني حتى الموت أو تكرهينني حتى الموت"، كانت تتحدّث باسم جيل كامل من الكائنات المرفوضة، التي لا تجد لنفسها موضعاً في المجتمع إلا في الظلام، إلا في الحكايات.

دراكولا ستوكر: اكتمال الوحش وهواجس أوروبا الفيكتورية

  • دراكولا ستوكر لا ينعكس في المرآة. لكنه، بشكل ساخر، يعكسنا.
    دراكولا ستوكر لا ينعكس في المرآة. لكنه، بشكل ساخر، يعكسنا.

جاء عام 1897 ليقوم الكاتب الأيرلندي، برام ستوكر، بجمع كلّ هذه الخيوط، ونسج منها نسيجاً واحداً اسمه Dracula. الكونت القادم من ترانسلفانيا لم يكن شخصية روائية فقط، بل استعارة شاملة لكلّ ما أرّق أوروبا الفيكتورية: الغريب القادم من الشرق، المتسلل إلى أحضان الحضارة؛ المرأة التي تتحرّر جنسياً فتتحوّل إلى "شيء آخر"؛ الطبقة الأرستقراطية التي تتغذى على جسد الفقراء؛ الرغبة في السيطرة على الموت... والهوس الأبدي بالخلود.

دراكولا ستوكر، الوحش الذي كان مخفياً في الغابات والخرائط، صار يمشي في شوارع لندن، ويطرق أبواب العائلات. لكنه لا يسرق الذهب، بل الدم. لا يبحث عن الثروات، بل عن الامتداد. يرغب في خلق جيل جديد يشبهه: خالد، متسلّط، بلا رحمة.

دراكولا ستوكر لا ينعكس في المرآة. لكنه، بشكل ساخر، يعكسنا. هذا ما حاولت الأميركية، نينا أورباخ، قوله في كتابها الصادر عام 1995 بعنوان "Our Vampires Ourselves"، إنّ مصّاص الدماء ليس كائناً غريباً، بل هو نحن عندما نفقد الضمير، عندما نحب بشراسة، أو نرغب بلا كابح، أو نخاف من الشيخوخة والموت والمرض، هو نحن عندما نحلم بالخلود، مهما كان الثمن.

في كل مرة نقرأ فيها قصة مصّاص دماء، نجرّب محاكاة الشرّ في داخلنا. نسأل أنفسنا السؤال المرعب: ماذا لو؟ ماذا لو قبلنا الصفقة؟ ماذا لو ضحينا بإنسانيتنا مقابل البقاء الأبدي؟ ألن ننجذب للفكرة، ولو سراً؟

في عشرينيات القرن الماضي، جاء "Nosferatu"، ليعيد مصّاص الدماء إلى صورته المقززة الأولى، كأنما ليقول إن الوحش ليس فقط وسيماً وراقياً، بل أيضاً قبيحاً، زاحفاً. بعدها، في ثلاثينيات القرن العشرين، أعاد بيلا لوغوسي دراكولا إلى البدلة، والعباءة، واللكنة المثيرة. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقّف الوحش عن إعادة اختراع نفسه: في Blade، صار مقاتلاً؛ وفي Interview with the Vampire، صار شاعراً؛ وفي Twilight، صار حبيب المراهقات.

كلّ جيل يعيد رسم مصّاص الدماء بما يناسب خوفه، فهو المرآة المتجدّدة التي لا تنكسر لأنها ببساطة مصنوعة من رغباتنا.

تخيّل مصاص دماء يقترب منك، يهمس في أذنك: "أنا لا أختلف كثيراً عنك. كنت يوماً إنساناً. تحوّلت فقط عندما قرّرت أنّ رغباتي أهمّ من ضميري". السؤال الذي يطرحه علينا هذا الكائن ليس عن مصيره، بل عن مصيرنا نحن. هل سنصبح مثله يوماً؟ هل سنبرّر لأنفسنا ما فعله هو من أجل البقاء؟ هل نحن حقاً بعيدون عن فكّيه كما نظن؟

طالما ظلّ هناك خوف، وطالما ظلت الرغبات تُكبت في القلب، سيظل مصّاص الدماء حياً. لن يموت أبداً، لأنه يعيش فينا، لا خارجنا. سنستمرّ في إعادة كتابته، لا لأننا نحبه، بل لأننا نخاف أن نصبح على صورته.

اخترنا لك