"عامٌ واحد".. غزّة تسائل العالم
تنتمي رواية "عـام واحـد" التي حصلت على المرتبة الأولى في جائزة سليماني العالمية، في دورتها الثالثة (2023/2024)، في بيروت، إلى الأدب المقاوم.
-
"عامٌ واحد".. غزّة تسائل العالم
تنهض رواية "عـام واحـد" للكاتبة الفلسطينية رشا فرحات، على اثنتي عشرة متوالية سردية شَّذْرية، تحتفي بالصوغ الوجيز بكثيرٍ من البسالة، وتغطي جملة من الأحداث والوقائع المتعلقة بالعودة إلى مرويات غزّة، وسرديات فلسطين بوجهٍ عام، أرض المجد، وأرض العزّة، في ظل التوصيف الذي قدّمته الرؤية السردية للرواية، التي تجسّد صورة الواقع الفلسطيني، وتحديداً في غزّة، أيقونة الثورة والتحرّر. واعتمدت الكاتبة أسلوباً معبّراً تعنون به الفصول: سنعود 1، سنعود 2، سنعود 3...
ترصد الرواية واقع الفلسطينيين، بوجه عام، ومقاومتهم الظلم والتهجير، وفق صوغٍ وصفيّ تطرح فيه الرؤية السردية وجود الشخصيات المناضلة، بما يسميه روبرت ياوس "أفق الانتظار"، الذي ولّد لدى المناضلين والشعب الفلسطيني ردود أفعال، أو استجابات مضادّة، تكمن فعّاليتها في مسمّى الشخصية الرئيسة "ياسمين"، التي يصفها السرد بأنها وُلدت في أرض فلسطين الماجدة، في إشارةٍ إلى أنّ الدلالة السردية لرواية "عـام واحـد" تثري بفضاءاتها عوالم دالة، بأمكنة وأسماء لشخصيات معبّرة عن كل ما هو واقعي تاريخي، واستشرافي مرتقب. وسلكت شخصياتها مسلكاً وعراً، من دون مهابة من السارد، بتصوّر تخييلي لعوالم افتراضية ممكنة الحدوث، ومرتهناً بعوالم كأنها واقعية.
وتميل الرواية إلى الإلماعة والتلميح في كثير من المحطات السردية، وهو ما نلمسه مثلاً في شخصية ياسمين، التي تطرح فكرة المباينة بين جيلين، الجيل الأول، الذي كان يفيض بجملة من القيم السردية، والجيل المواكب للتطورات، ومستجدّات العصر، بصور ممتلئة بالرموز، ذات المحمولات الدلالية النضالية، والتي تثمر فعالية التحمُّس والإقدام.
تستمدّ الرواية رؤيتها السردية مما ترويه قصّة نضال غزّة، التي تقف معزولة عن العالم، كما جاء في الرواية، في أثناء تركيزها - أكثر - على مرايا المقاومة بطريقة يغلب عليها طابع الوصف الواقعي، بالنظر إلى ما ترصده من واقعٍ مأسَوي بشكل متميز؛ لصورة المقاومة، وفيما يجري من أحداث تحمل تأملات الذات المهمومة، في تناسق بنائي يشتغل على الحسّ المأسَوي، وبحبكةٍ درامية، بحيث تبدو أحداث الرواية مترابطة ومحبوكة، إلى حدٍّ كبير. وإذا عَدَدْنا سردية "عام واحد" دليلاً متعدّداً، فلا شك في أنه ليس دليلاً بما هو عليه، ولكن بما أنه يعكس ما يجب أن يكون عليه. لذلك، فإنّ المعنى في الرؤية السردية لدى الشخصية الرئيسة، ياسمين، ليس حاضراً مباشراً في دليل ثابت، وهذا ما عكسته تحوّلات الأحداث، ومطالب الشخصيات الواعدة ببسالتها في وضعيتها المَصُوغة بالأدلة النضالية، بالإضافة إلى كونها ترد في سياقات متنوّعة.
لذلك، فإن المؤشر على مساعي الشخصية الرئيسة "ياسمين" يستند إلى ثنائية [دال/مدلول] من خلال لغة السرد التي اشتغلت – في رسمها صورة الذاكرة – على مستويين زمنيين، زمن الحاضر الداعي إلى الترقب، وزمن الماضي/ المتلاشي، بحيث تتغذّى الخلية الرحمية للرؤية السردية في "عام واحد" من تراكم: الذات/ الماضي، في صورة المخيلة، بصفتها مرآة العقل لمصير المجتمع الفلسطيني، والواقعية التي تتفاعل مع الموضوعات، كما تظهر في الحياة اليومية، من دون أن تتطابق مع الإدراك المأمول، الواعي بحضوره.
وعبّرت عن ذلك الصورة المفارقة بين الجدّة "ستي أم يحيى"، التي تعكس الأصالة، ونخوة المحافظة على مجد التراث العريق لفلسطين، وصورة الأب المسالم، والأم في رمزية الهوية والأرض، وابنتها المناهضة، في إشارة إلى مواجهة الحاصل الحَنِق من جيل واعد، نظير الوضع العَسِف الذي أجبرته قوة المحتل الجائر، لأرض تحوي رمزية مدينة القدس، كونها واحدة من أقدم مدن العالم، والتي تعني "مدينة السلام". وهو ما نستشفه في دلالات السرد الذي لا يرصد الحاصل فقط، بقدر ما يتأمل الممكن أيضاً.
لعل التيمة الأساس في "عام واحد" هي تيمة الحلم لواقع مترقب، وتوزّعت عن هذه التيمة إشعاعات دلالية تشترك في سير المحور الدلالي العام، نستكشفها من خلال العلاقات التي تقيمها الشخصيات فيما بينها، وهي تتعلق بالنضال من أجل تحرير الأرض، والدفاع عن الهوية، التي باتت تتعرّض للإخفاء والطمس.
وتبعاً لذلك، جاء سرد "عام واحد" ليسائل العالم برمته، سعياً لإبداله بالواقع المرير، بالنظر إلى أن الواقع الجديد، في مضمرات الرواية، يريد تحول الأفكار والمساعي إلى ما يجب أن يكون عليه الواقع المرتقب، وفق معايير المطالب الشرعية. وهذا يعني عدم التسليم بقبول الحقائق المعطاة، وعدم التسليم المسبّق بأن هذه الحقائق تعمل على نحو محدَّد بصورة مسبّقة، بل تعني مناهضة الافتراضات المسبّقة والمسلّم بها، بصورة قبلية، على نحو ما سوَّقته الترسانة الصهيونية، وتمحيص المعطيات، والنظر إلى ما تحت الأساسات الراسخة، ومواجهة البروباغندا المضادّة، وابتغاء الانتصار على الآلة الإعلامية الغربية، ومحاولة كشف الوجه المخجل، وازدواجية المعايير، في المنظور الغربي.
الرواية، التي حصلت على المرتبة الأولى في جائزة سليماني العالمية، في دورتها الثالثة (2023/2024)، والتي تنظمها "جمعية أسفار للثقافة والفنون والإعلام" في بيروت، تنتمي بوضوحٍ إلى الأدب المقاوم، لكن بموضوعية، ومن دون حماسة وادّعاء مجّانيَّين. وفكرة المقاومة حاضرة فيها بتنويعات سلوكية متعددة، على المستويين الجماعي والفردي: الجماعي تمثّل بمسيرات جماعية إلى الحدود لفكّ الحصار عن غزّة، والفردي نهض على نزوع الصحافية أمل المناهض للعدو الإسرائيلي، الذي سعى لخنق غزّة بالحصار وتخريبها وحرمان أهلها من أولويات الحياة، واغتيال قادة المقاومة فيها.